الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكانة سورية في الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط (1 - 3) (*)

عبدالله تركماني

2021 / 7 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


تمثل سورية لحظة فاصلة في رؤية بوتين لمصالح روسيا في الشرق الأوسط ودورها وموقعها على المسرح العالمي، إذ إن صك الانتداب الروسي على سورية، الموقَّع في 26 آب/أغسطس 2015، لا يعطي روسيا تفويضاً مفتوحاً في سورية فحسب، وإنما يوفر لها صلاحيات واسعة في البر والبحر والجو دونما رقيب.
وتدل مجريات الاشتباك الإقليمي والدولي، الدائر على الأرض السورية منذ عشر سنوات، على تحوّل الصراع فيها وحولها إلى ما يشبه – حسب تعبير الدكتور خطار أبو دياب - " اللعبة الكبرى " في القرن التاسع عشر.
وفي الواقع ثمة أسباب متعددة تكمن وراء التدخل الروسي المباشر في سورية، بعضها يتعلق بمصالح روسيا الاستراتيجية، وأخرى بأوضاع سورية والإقليم. فسورية في الاستراتيجية الروسية ليست دولة نائية عن حدودها البرية فحسب، إنَّما بوابة شرق أوسطية آيلة إلى السقوط والتفكك، وبحاجة إلى من يدعمها مقابل الوقوع التام في سلة روسيا، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، أي هي " بؤرة نفوذ مستقبلية " وسط منطقة نفوذ سياسية وعسكرية أميركية من الجهات الأربع، فهي محاطة بقواعد عسكرية أميركية في العراق وتركيا والأردن وإسرائيل، إضافة إلى تمركز الأسطول السادس الأميركي قبالة الساحل السوري. ومن ثَمّ ترغب روسيا في أن تتجاور في منطقة نفوذها بسورية مع مناطق نفوذ الولايات المتحدة الأميركية.
وفي الواقع تتميز الدول الباحثة عن وضع جديد في تراتبية المكانة والحضور العالميين، كما حال روسيا، بحساسيتها الشديدة تجاه الجغرافية السياسية، ويرجع ذلك الى سببين: أولهما، ينطوي على بعد سلبي، خوف تلك الدول من إمكانية وقوعها تحت الحصار من قبل الدول المنافسة، وبالتالي إضعاف قدراتها التنافسية. وثانيهما، يتضمن بعداً إيجابياً يتمثل ببحث تلك الدول عن مجالات حيوية لتصريف فائض قوتها من جهة، ولإمكانية استثمارها كنطاقات عازلة تصدُّ عنها هجوم القوى المعادية، وغالباً ما تكون تلك الأراضي في الجوار القريب، وتحديداً في المناطق التي تسمى بالمفهوم الإستراتيجي " الخواصر الرخوة "، ويحصل هذا الأمر في المناطق التي يكون فيها فراغ قوة.
أولاً: الخلفية التاريخية للاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط
لطالما شكل البحر المتوسط - تاريخياً - مجالاً لممارسة السلوك التنافسي مع القوى الأخرى، وهو ما يفسر اعتبار الوجود الروسي في المتوسط كضرورة تعاطت معها القيادات الروسية منذ القدم. وكان الحرص الروسي على الحضور الدائم في المتوسط من العوامل الرئيسية وراء إلحاق شبه جزيرة القرم بالاتحاد الروسي، في عام 2014، لضمان بقاء ميناء " سيواستبول "، مقر قيادة أسطول البحر الأسود، تحت الهيمنة الروسية. فمن خلال هذا الميناء " تستطيع روسيا إدامة وجود قواتها في البحر الأبيض المتوسط " (1).
إذ تقول نصيحة القيصر بطرس الأكبر (1627 – 1725)، إن على روسيا، إذا أرادت أن تبقى أمة قوية عظيمة، تحقيق ثلاثة شروط في سياستها الخارجية (2): أولها، أن تصل إلى المحيط الهادي، حتى لو اضطرت إلى الصراع مع الإمبراطورية الفارسية. وثانيهما، أن تبلغ المياه الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، حتى لو اضطرت إلى تقويض الإمبراطورية العثمانية. وثالثها، أن تقيم أفضل العلاقات والتحالفات مع سورية (الهلال الخصيب في ذلك العصر) نظراً إلى موقعها " الجيو - استراتيجي " الذي يربط ثلاث قارات هي آسيا وأوروبا وأفريقيا.
ففي الفقرة التاسعة من وصيته لأبناء روسيا يقول: " نقترب من القسطنطينية/اسطنبول والهند بقدر الإمكان، فمن يملك القسطنطينية فقد ملك العالم، وبناء على ذلك ينبغي ملازمة الحرب مع العثمانيين ". ويتابع في الفقرة الحادية عشرة قوله: " نشارك النمسا فيما قصدناه من إخراج العثمانيين من أوروبا ". وفي الفقرة الثالثة عشرة يقول: " وبعد التسلط على الممالك العثمانية، نجمع جيوشنا وتدخل أساطيلنا بحر البلطيق والبحر الأسود ونشرع في التفاوض مع فرنسا ودولة النمسا في قسمة العالم بيننا ".
لقد اهتمت روسيا بتلك الوصية في عصر السلطان عبد الحميد الثاني، فكثرت الثورات بدعم من روسيا والدول الأوروبية في البلقان واليونان وغيرها من الأقاليم العثمانية، ولم تكتفِ بذلك بل عملت على قيام دول مستقلة مثل رومانيا، وبلغاريا والصرب واليونان. وبعد أن حقق العثمانيون انتصارات في البلقان استعدت روسيا للحرب، ثم أعلنتها حرب لا هوادة فيها ضد الدولة العثمانية وانضمت رومانيا إلى روسيا، ودخل العثمانيون في حرب طاحنة مع الروس.
لقد رأى الأباطرة الروس أنفسهم ورثة بيزنطة، وعاصمتهم وريثة للقسطنطينية/اسطنبول " أورشليم جديدة "، وتبنوا مباشرة لقب القيصر، الذي كان أصلاً لقب الإمبراطور البيزنطي. خلال القرون القليلة التالية، وبالرغم من أن العثمانيين استمروا في التوسع في شرق ووسط أوروبا، كان القياصرة الروس يعززون من قدراتهم العسكرية. في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، في عهد الإمبراطورة كاترين " بدأت المواجهة الطويلة والمريرة بين العثمانيين والإمبراطورية الروسية، التي لم تصل نهايتها إلا بعد الانهيار العثماني في الحرب العالمية الأولى (3).
ولأن التحرك الروسي اكتسب منذ البداية صبغة دينية، افترض الروس لأنفسهم دور الحماية للأرثوذكس العثمانيين، في الشام والأناضول والبلقان، ووفرت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الغطاء الأيديولوجي لحروب القياصرة.
ما يستدعي هذه الذاكرة اليوم كان الخطوة التي اتخذتها موسكو للتدخل العسكري المباشر في سورية، في أيلول/سبتمبر 2015، والدعم الذي تلقّاه الرئيس بوتين من الكنيسة الروسية. ففي لحظة بحث موسكو عن المجد الإمبراطوري من جديد، توجه قيصر روسيا الاتحادية ببصره نحو الجنوب والبحار الدافئة، وباركت الكنيسة الروسية خطوة بوتين، ليس فقط بوصفها بأنها " حرب مقدسة "، ولكن أيضاً بالتأكيد على أن حرب روسيا في سورية ليست سوى تجلٍّ لـ " الدور الخاص الذي لعبته بلادنا دائماً في الشرق الأوسط ".
ثانياً: الدوافع الروسية للتدخل العسكري في سورية
تتعدد الدوافع الروسية للتدخل العسكري في سورية: الاندفاعة الاستراتيجية في مواجهة حصار الدول الغربية، والحضور العسكري في البحر الأبيض المتوسط، والسيطرة على طرق موارد الطاقة، وخطر الإرهابيين المسلمين في روسيا الاتحادية، وتسويق السلاح الروسي.
(1) – الاندفاعة الاستراتيجية في مواجهة حصار الدول الغربية
كانت استراتيجية الأمن القومي الروسي، التي صدرت في عام 2009، قد دعت إلى تحويل " روسيا المنبعثة " إلى دولة كبرى مجدداً. ومن أجل ذلك " أدرك صناع القرار في الكرملين أنه، ومن دون بناء مجال استراتيجي روسي خالص، فإن عودة روسيا دولة مقررة على الصعيد الدولي أمر لن يرى النور، وهذا لن يتحقق سوى بوجود مناطق نفوذ روسية خالصة، في المدارات القريبة من الجغرافية الروسية، وتحقيق انتشار روسي على المستويين القاري والعالمي، يسند هذه الوضعية ويدعمها. وبالتالي، فإن خطوط التحرك الروسي تسير على هدى ذلك الإدراك، وفي إطار مقتضياته " (4).
وبعد أن أطاحت الحرب، في جورجيا عام 2008 وفي القرم وأوكرانيا عام 2014، محاولات الغرب لجلب حلف " الناتو " إلى أعتاب روسيا، جاءت خطة إعادة بناء وجود عسكري روسي في سورية لتعلن أنها ليست مجرد قوة إقليمية في أوروبا الشرقية فحسب، لكنها أيضاً لاعب دولي مؤثر، وأنها على استعداد لاستعراض قوتها العسكرية في مناطق أخرى من العالم بعيدة عن الأراضي الروسية. لذلك جاء التواجد الميداني في سورية من أجل ممارسة النفوذ عبر تحويل ميناء طرطوس إلى قاعدة عسكرية روسية ومطار " حميميم " المدني في اللاذقية إلى مطار عسكري في خدمة روسيا. خاصة بعدما استبعدت الولايات المتحدة الأميركية روسيا عن العراق في حربها على الإرهاب هناك، وبعدما " خدعت " دول حلف " الناتو " روسيا في ليبيا.
لقد حرص الرئيس فلاديمير بوتين على المحافظة على الاندفاعة الاستراتيجية التي بدأها بالرد على الاتحاد الأوروبي، لمنعه من مدّ نفوذه إلى أوكرانيا وضمها إلى الاتحاد وإلى حلف شمالي الأطلسي. تُضاف إلى ذلك رغبة بوتين في الرد على القرار الأميركي بنشر الدرع الصاروخية في الدول المجاورة لروسيا. وهكذا سعى إلى الإفلات من الحصار الذي فرضه الغرب على روسيا، بعد ضم شبه جزيرة القرم إلى بلاده، من خلال التوجه إلى البحر الأبيض المتوسط لفتح جبهة جنوبية على حلف شمالي الأطلسي.
وفي هذا السياق كانت روسيا حريصة على إظهار اثنين من طرق العبور التي أنشأتها إلى سورية في عام 2017: طريق المياه، من البحر الأسود (بما في ذلك من شبه جزيرة القرم الأوكرانية التي احتلتها في سنة 2014، وأبخازيا الجيورجية التي فرضت نفوذها فيها منذ سنة 2008) عبر مضيق البوسفور إلى البحر الأبيض المتوسط. وعن طريق الجو، محلقة فوق بحر قزوين والعراق وإيران. و" أظهرت روسيا أيضاً أن لديها عدة طرق للدفاع عن منطقتها السورية، بما في ذلك صواريخ كروز التي أطلقتها من السفن الروسية الراسية في بحر قزوين " (5).
(2) – الحضور العسكري في البحر الأبيض المتوسط
عملت موسكو منذ اليوم الأول لحشد قواتها على تقوية قاعدة طرطوس البحرية وتوسيع قاعدة " حميميم " الجوية، بما يعزز ويقوّي حضورها العسكري في شرقي المتوسط، كما يؤهلها استراتيجياً للعب دور مؤثر وفاعل على مستوى المنطقة. فلطالما شكل البحر المتوسط واحدة من الواجهات التي طمحت روسيا - تاريخياً - إلى تأمين نفوذ لها دائم فيها، وكان هذا الطموح يزداد كلما طورت روسيا قوتها وإمكاناتها العسكرية والاقتصادية، حيث يغدو البحر المتوسط أحد أهم شرايين التغذية الروسية ومجالاً لممارسة السلوك التنافسي مع القوى الأخرى، بالرغم من كون روسيا قوة برية أكثر منها بحرية، وبالتالي فهي " لا تلجأ في الغالب إلى المجال البحري إلا لدواعي الضرورة الاقتصادية والعسكرية، ولم يعرف عنها أنها توسّعت كثيراً في هذا المجال خارج نطاقاتها الاستراتيجية القريبة. وهو ما يفسر اعتبار الوجود الروسي في المتوسط كضرورة تعاطت معها القيادات الروسية على مر التاريخ، وليست تعبيراً عن فائض قوة يراد استعراضه في المياه الدافئة " (6).
إن العقيدة الروسية تتصور حوض البحر المتوسط كجزء من ناقلات الأطلسي، التي توازن من خلالها البحرية الروسية حلف شمال الأطلسي. وتعد سورية، بالنسبة إلى روسيا، نقطة الانطلاق باتجاه المياه الدافئة، وهي ستضمن بذلك الانفتاح البحري على جنوب القارة الأوروبية وشمال القارة الأفريقية. فقد عُرِّفت سورية، لا سيما في مرحلة الحرب الباردة، باسم أراضي حافات آسيا (تسمية أميركية)، ولذلك " ترى روسيا أن اكتساب هذه الحافة لمصلحتها هو أفضل من أن يكتسبها الأميركيون. فسورية دولة مناسبة للمصالح الروسية لأنها ستستطيع من خلالها التلويح في وجه دول الغرب، لكي ترسل رسالة مفادها بأنها ما تزال محافظة على قوتها العسكرية، ومنزلتها السياسية، ووزنها في مجلس الأمن " (7).
ويندرج توجه روسيا نحو توسعة مرفأ طرطوس، وإنشاء رصيف عائم فيه، في إطار رغبة موسكو بتعزيز وتقوية حضورها في البحر المتوسط. ففي عام 2022، يُسلَّم رصيف عائم في طرطوس لروسيا، وبعد ذلك ستصبح قدرات هذا المجمّع كبيرة، ومن الممكن إجراء عمليات إصلاح السفن والغواصات الحربية هناك، بدلاً من ورشات عمل الصيانة العائمة في البحر الأسود والبلطيق.
وفي السياق ذاته، يشير الكاتب المختص بالشأن الروسي سامر إلياس إلى " تزامن توسعة مرفأ طرطوس، مع توسعة قاعدة " حميميم " في ريف اللاذقية، ويعتبر أن هدف روسيا من كل ذلك يتعدى الحسابات السورية، بحيث تخطط روسيا لوجود دائم في البحر المتوسط " (8).
(3) – التحكم في موارد الطاقة وطرق نقلها
ترغب روسيا في السيطرة واستغلال الموارد النفطية والغازية في سورية وفي المنطقة الاقتصادية الخالصة في شرقي المتوسط، ففي أواخر عام 2013 وقّعت شركة " سيوز نفط غاز " الروسية الحكومية عقداً للتنقيب عن النفط والغاز في الامتداد البحري بين بانياس وطرطوس لمدة 25 سنة. استناداً إلى أن الدراسات الجيولوجية الأميركية أوضحت الإمكانات المتوقعة للغاز والنفط، وأكدت وجود كميات كبيرة في هذه المنطقة.
وتفيد دراسات الأميركيين أن " تطوير موارد شرق البحر المتوسط يجب أن يكون تحت سيطرتهم، وأن يؤدي إلى تصدير الغاز إلى تركيا ومن ثم إلى الأسواق الأوروبية، فتكون النتيجة تقليص دور روسيا في مجال تزويد تركيا بالغاز، الذي هو على مستوى 70 في المئة من الحاجات التركية " (9). كما ترسخ موسكو وجودها في منطقة شرق الفرات، لموقعها في المثلث الحدودي ما بين سورية والعراق وتركيا، وأهميتها الاقتصادية، لاسيما في إمكانية عبور شبكات أنابيب النفط والغاز مستقبلاً عبرها. ويبدو أن قرار إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بسحب ترخيص شركة " دلتا كريسنت إنرجي " الأميركية للعمل في حقول النفط في شمال شرقي سورية، يسهّل مهمة شركات نفط روسية للانتقال إلى المنطقة، التي تديرها الإدارة الذاتية بقيادة قوات سورية الديمقراطية " قسد ".
وتشكل الجغرافيا السورية واحدة من الضرورات اللوجستية للمشروع الروسي في مجال الطاقة، وذلك لما تملكه من إمكانيات ربط بين مواقع الإنتاج ومناطق الاستهلاك، وكمعبر للغاز القادم من آسيا الوسطى، الواقعة تحت قوس السيطرة الروسية، ولربط استثمارات الغاز على المتوسط بالغاز القادم من إيران، وكمعبر إجباري لخطوط النقل المتجهة إلى أوروبا. مما " يجعل من سورية درة الاستراتيجية الروسية في المنطقة، خاصة مع وجود بنية تحتية روسية في سورية، تتمثل بميناء طرطوس وباستثمارات عديدة في مجال النفط والغاز " (10). ويمثل التنافس الدولي والإقليمي على خطوط نقل الغاز والنفط من الدول المطلة على الخليج العربي أحد المحددات الهامة للموقف الروسي من الأزمة السورية، فروسيا " تخشى أن يؤدي سقوط النظام السوري إلى نزع مكانتها المهيمنة على سوق الغاز الأوروبية كنتيجة لاحتمال مدِّ الغاز القطري عبر السعودية وسورية وتركيا إلى أوروبا، وهذا من شأنه أن يحرمها من ورقة رابحة استراتيجياً واقتصادياً " (11). خاصة بعد أن تابعت روسيا التهديد الأميركي المتزايد لمشروع أنابيب الغاز الروسي " نورد ستريم- 2 " إلى ألمانيا، والذي تعوّل عليه موسكو كثيراً لرفد خزينتها بالعملة الصعبة.
وبعدما رفضت سورية مرور خط غاز قطر، الذي يحمل الغاز الإسرائيلي والمصري إلى تركيا لوصله بأنبوب " نابوكو " من أراضيها، واستعاضت عنه بأنبوب غاز يمر من إيران إلى العراق إلى سورية إلى لبنان، إضافة إلى غاز بحر قزوين بأنابيب السيل الجنوبي في " غازبروم "، أصبحت سورية عقدة أنابيب الغاز التي تعتبر شرايين دماء القرن الحالي.
وهكذا " أصبح الصراع على سورية مصيرياً بالنسبة إلى روسيا وفرصة ذهبية لاستعادة دورها كقوة عظمى في حلبة الصراع الدولي. وسورية باتت في صميم الأمن الاقتصادي الروسي " (12).
ومن جهة أخرى، حددت روسيا بحر قزوين " نقطة انطلاق " في ملفين أساسيين بالنسبة إليها (13): أولهما، متعلق بخطوط النفط " نابوكو "، والتي على أساسها خاضت حربها ضد جورجيا في عام 2008، لتمنع عبور أي خط غاز من بحر قزوين عبر الأراضي الجورجية إلى أوروبا، والذي لو حصل، لرمى خطوط الغاز الروسية العابرة إلى القارة العجوز، عبر أوكرانيا، جانباً. وثانيهما، متعلق بـ " الاتحاد الأوراسي "، الذي يشكل بحر قزوين ونفطه وغازه محطة أساسية في تكوينه وانطلاقه نحو وسط آسيا. لقد تعددت الأهداف الروسية في سورية، لكنّ الأساس بالنسبة لموسكو هو السيطرة على جزء كبير من الحقول النفطية البحرية (البحر الأسود، وقزوين، والمتوسط) لتحقيق حلم النفوذ الغابر.
إن السيطرة على الساحل السوري تجعل روسيا في موقع متقدّم في الصراع على الطاقة، ليس فقط في الشرق الأوسط وإنما في العالم. إذ " من المعلوم أن جزءاً من الصراع في سورية هو لتأمين خطوط النفط والغاز من الخليج نحو البحر المتوسط على الساحل السوري. فطهران كانت قد وقّعت اتفاقاً مع دمشق في العام 2010 لمدِّ أنبوب غاز عبر العراق إلى بانياس. كما تسعى المملكة العربية السعودية ودولة قطر إلى تصدير نفطها وغازها أيضاً عبر الأراضي السورية، ما يقصّر المسافة بينها والدول المستوردة، ويحررها – نسبياً - من عبور بواخرها مضيق هرمز الذي تسيطر عليه إيران " (14).
وبذلك تسعى روسيا إلى تقديم نفسها على مسرح السياسة الدولية كقوة طاقة مهمة ومؤثرة، وهي تستند في ذلك على احتياطيها الكبير من الغاز، كما تسعى إلى " تشكيل كارتل غازي كبير " بالإضافة الى ما تنتجه داخل الأراضي الروسية " يشمل إيران بوصفها صاحبة ثاني أكبر احتياطي عالمي، وكذلك كميات الغاز المكتشفة حديثاً في شواطئ البحر الابيض المتوسط الجنوبية من قبرص إلى سورية ولبنان وإسرائيل ".
وهكذا، يعتبر موضوع الغاز أحد محركات السياسة الروسية في الزمن الحالي، ذلك أنه في ظل تراجع القدرات الروسية التنافسية على كل المستويات " يبرز موضوع الغاز كواحدة من ممكنات إعادة السيطرة والنفوذ الروسي الى المجال الدولي، ولروسيا في هذا المجال خبرة كونتها عبر السنوات الماضية عن مدى تأثير قوة سلاح الغاز في العلاقات مع أوروبا، ولعلّ ما يعزز درجة الثقة بهذا السلاح ويؤكد مدى فعاليته، تحوّل جزء كبير من الإنتاج الأوروبي، وخاصة في ألمانيا، إلى الغاز كوقود محرك، وذلك لما يتمتع به من مزايا تفضيلية تناسب الواقع الأوروبي وتجعله منافساً قوياً للنفط " (15).
لقد باتت روسيا الممثل الفعلي للمصالح السورية النفطية والغازية في شرق المتوسط، ودخلت بقوة إلى ميدان النزاع المفتوح حول الثروات في هذه المنطقة، والذي يشكّل التوتر اليوناني - التركي أحد عناوينه العريضة. وفي ختام زيارة الوفد الروسي رفيع المستوى إلى دمشق، في أيلول/سبتمبر 2020، تم الإعلان عن توقيع 40 اتفاقية، حسب رئيس الوفد نائب رئيس مجلس الوزراء الروسي، يوري بوريسوف، تشمل " إعادة بناء البنية التحتية لقطاع الطاقة، بعد أن تم التوقيع على عقد عمل لشركة روسية للتنقيب واستخراج النفط والغاز قبالة الشواطئ السورية ".
وبموجب الاتفاقية، صار في وسع روسيا أن تدفع بسفنها للتنقيب في السواحل السورية، الأمر الذي يعيد خلط الأوراق في منطقة، يرتفع فيها منسوب التوتر كلما نقترب من استغلال الثروات الغازية المقدّرة بـ 122 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي.
إن الاتفاقية تضع سورية في قلب المعادلة من جهة، ومن جهة ثانية يمكنها أن تعوّض روسيا عن الاستثمار الكبير الذي وظفته في سورية من أجل الحفاظ على النظام السوري، خاصة بعد أن فازت بخمسة عقود نفطية بين عامي 2013 و2020. ومن شأن دخول روسيا على خط المعادلة الحالية، المتمثلة في منتدى غاز المتوسط، أن " يخلق واقعاً جديداً، ويشكل تعزيزاً لموقف تركيا التي عملت أطراف المنتدى على إقصائها وعزلها، وهذا سوف يقود إلى اتفاقية جديدة من أجل استثمار ثروات شرق المتوسط على أسس واضحة، وفق القانون الدولي الخاص باستغلال الثروات البحرية المشتركة بين دول منطقة حوض المتوسط " (16).
ومن شأن القيام بذلك أن يقرّب روسيا من تحقيق بعض أهدافها الجيوسياسية الطويلة الأمد (17): أولاً، إلى جانب خطي أنابيب " السيل الشمالي 2 " و" التيار التركي " عبر بحري البلطيق والأسود، ستكمّل السيطرة على " الحنفية " السورية طرق تصدير النفط الثلاثية التي تتلقى عبرها أوروبا الغاز. وبهذه الطريقة لن تتجنب روسيا المرور في دول أوروبا الشرقية وبالتالي رسوم العبور فحسب، بل سيصبح الاتحاد الأوروبي حينها عاجزاً عن شراء الغاز من أية دولة مصدّرة، بما فيها دول الشرق الأوسط، من دون إبرام صفقات بشكل مباشر أو غير مباشر مع روسيا. ثانياً، من شأن تواجد طويل الأمد في سورية أن يعزز هيمنة روسيا في شرق البحر المتوسط. وستمثل قاعدة بحرية ومطارات قادرة على استيعاب أكبر وجود عسكري روسي خارج حدودها تحدياً كبيراً لكلّ من شركات الطاقة الغربية العاملة في المنطقة، على غرار " نوبل غاز "، والدعم العسكري الذي توفره. ونتيجة لذلك، ستقترب روسيا أكثر من ميزان قوى عالمي متعدد الأقطاب سعت إليه منذ سقوط الاتحاد السوفيتي.
الهوامش
1 – د. عبدالله تركماني: روسيا وأقنعتها المكشوفة في الحالة السورية - صحيفة " العربي الجديد " – لندن 22 أيلول/سبتمبر 2015.
2 - عدنان كريمة: سورية عقدة مصالح روسيا الاقتصادية ونفوذها – صحيفة " الحياة "، لندن 21 أيلول/سبتمبر 2015.
3 – عادل موسى: العلاقات الروسية الشرق متوسطية – عن موقع " كلنا شركاء في الوطن " 16 شباط/فبراير 2015.
4 - د. بشير موسى نافع: عودة إمبراطورية وصاية الأقليات الروسية – صحيفة " القدس العربي "، لندن 14 تشرين الأول/أكتوبر 2015.
5 - غازي دحمان: سورية نجمة الاستراتيجيا الروسية – صحيفة " العربي الجديد "، لندن 23 نيسان/أبريل 2014.
6 - نزار عبد القادر: الاستراتيجية الروسية في سورية.. تغيير موازين قوى إقليمية ودولية – صحيفة " الحياة "، لندن 28 تشرين الأول/أكتوبر 2017.
7 - غازي دحمان: سوريا والمجال الروسي – صحيفة " المستقبل "، بيروت 15 نيسان/أبريل 2014.
8 - جوان حمو: سورية في المعايير الجيوسياسية الروسية وموقع كرد سورية فيها – موقع " مركز حرمون للدراسات المعاصرة "، 1 نيسان / أبريل 2017.
9 - غازي دحمان: سوريا والمجال الروسي، المرجع السابق.
10 – د. سمير صالحة: الاستثمار الإقليمي والدولي في ملف الأزمة السورية – موقع " تلفزيون سورية "، 4 نيسان/أبريل 2021.
11 - غازي دحمان: سوريا والمجال الروسي، المرجع السابق.
12 - معن طلاّع: السياسة الروسية تجاه سورية منذ الثورة..، مركز عمران للدراسات الاستراتيجية – 8 حزيران/يونيو 2015، ص 8.
13 - عدنان كريمة: سورية عقدة مصالح روسيا الاقتصادية ونفوذها، المرجع السابق.
14 - بيار عقيقي: رسائل قزوين الروسية – صحيفة " العربي الجديد "، لندن 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2015.
15 - فادي الأحمر: قراءة جيوسياسية في " الإنزال " العسكري الروسي في سورية – صحيفة " السفير "، بيروت 30 تشرين الأول/أكتوبر 2015.
16 - غازي دحمان: سوريا والمجال الروسي، المرجع السابق.
17 - بشير البكر: روسيا وكيل سورية في غاز المتوسط – صحيفة " العربي الجديد "، لندن 11 أيلول/سبتمبر 2020.
(*) – ورقة قُدمت في مؤتمر " القوى العالمية الكبرى ومنطقة الشرق الأوسط "، بدعوة كريمة من " مركز أورسام لدراسات الشرق الأوسط " و " جامعة إسطنبول "، خلال الفترة من 12 إلى 14 تموز/يوليو 2021.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. ماذا حمل المقترح المصري؟ | #مراس


.. جنود أميركيون وسفينة بريطانية لبناء رصيف المساعدات في غزة




.. زيلينسكي يجدد دعوته للغرب لتزويد كييف بأنظمة دفاع جوي | #مرا


.. إسرائيليون غاضبون يغلقون بالنيران الطريق الرئيسي السريع في ت




.. المظاهرات المنددة بحرب غزة تمتد لأكثر من 40 جامعة أميركية |