الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فائض القيمة في أرباح النظام السوري من تدمير لبنان

صبحي حديدي

2006 / 8 / 12
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي


بدل أن يقتدي بالحكمة النبوية: إذا ابتُليتم بالمعاصي فاستتروا، شاء وزير الخارجية السوري وليد المعلّم أن يقول ما يعيد تذكيرنا بحكمة أخرى مأثورة، بعد تعديلها قليلاً: نُسمعكم جعجعة، الكثير الكثير منهاولا نريكم طحناً، أيّ طحن!
ففي الدقائق الأولى بعد وصوله إلى لبنان (عن طريق حمص ـ طرابلس، لأنّ الطيران الإسرائيلي دكّ طريق دمشق ـ بيروت)، في زيارة هي الأولى منذ الإنسحاب العسكري السوري من الأراضي اللبنانية، ذهب المعلّم إلى جعجعة لفظية ذات شقّين: أنّ النظام السوري يقول "أهلاً وسهلاً" للحرب الإقليمية، خصوصاً وأنّ "سورية بدأت تستعد، ولا نخفي استعدادنا، وسنردّ على أي اعتداء اسرائيلي فوراً"؛ وأنه، شخصياً، مستعدّ أن يكون "جندياً عند [الأمين العام لـ "حزب الله"] السيد حسن نصر الله".
الأرجح أنّ السيد نصر الله لن يكون سعيداً بتجنيد هذا المتطوّع بالذات، في رخاء السلم كما الآن في شدّة الحرب، لأسباب تتجاوز بكثير تلك الاعتبارات المبدئية التي تخصّ اللياقة البدنية للمقاتل. والأرجح كذلك، بل المنطقيّ البسيط، أنّ السيد كان سيسعد أكثر لو أنّ وحدات الهندسة في الجيش السوري جازفت (لكي لا نقول: تحدّت آلة العدوان الإسرائيلية) فأصلحت طريق بيروت ـ دمشق عند نقطة المصنع، لا لكي يدلف منها المعلّم إلى لبنان، بل لكي تُستأنف من جديد حركة العبور الطبيعية بين البلدين، ويُتاح للمهجّرين خصوصاً أن يجدوا بعض الملاذ الآمن لدى أشقائهم السوريين.
وبالطبع، مَن يصغي إلى المعلّم وهو ينذر بأنّ الردّ السوري سوف يكون فورياً، يخال أنّ الدولة العبرية لم تعتدِ حتى الآن على السيادة السورية، ولم تخرق الأجواء السورية، ولم تحلّق فوق القصور الرئاسية، ولم تقصف داخل العمق السوري، ولم تمارس الاغتيال الفردي لبعض القيادات الفلسطينية الإسلامية اللاجئة في دمشق... أو لعلّ المرء ذاته سوف يظنّ أنّ الجيش السوري قادر، بالفعل، على الردّ الفوري وإنزال أفدح الخسائر بالعدوّ، وما امتناعه عن الردّ إلا لأنّ العدو لم يتجاسر على الاعتداء، أو ـ وفق الحكمة الرسمية الشائعة ـ لأنّ القيادة السورية لا تؤمن بردود الأفعال، ولا تقع في فخّ الاستفزاز، وهي التي تحدد مكان وزمان الردّ!
وضمن روحية الجعجعة إياها، ولكن على نحو أشدّ ركوناً إلى الخطاب الأجوف، روت صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية أنّ المعلّم اشترط على أية قمّة عربية أن يبدأ جدول أعمالها من تجييش الجيوش وإحياء سلاح النفط. وحين أعرب عبد الرحمن شلقم، أمين اللجنة الشعبية الليبية للاتصال الخارجي والتعاون، عن ضيقه بـ "شعارات" المعلّم هذه، ردّ الأخير باختيال وفخار: "إننا نعبر عن الكرامة والصمود والتضحية". وبالطبع، مَن يلوم شلقم إذا ردّ للمعلّم الصاع صاعين: لماذا لا تطبقها إذاً في الجولان"!
وهكذا، أسمعنا وزير الخارجية السوري جعجعة، ولم نر طحناً من أيّ نوع، حتى على مستوى إصلاح طريق بيروت ـ دمشق. غير أنّ ألعاب الجعجعة هذه، وأيّ طراز آخر سواها مما عوّدنا عليه النظام السوري طيلة عقود، لا تُقارن البتة بأخطار الرسالة الأخرى التي حملها المعلّم إلى بيروت، أي إنذار اللبنانيين بأنّ الحرب الأهلية قادمة، أو بالأحرى عائدة، من جديد. صحيح أنه ربط تلك الاحتمالات بمشروع القرار الأمريكي ـ الفرنسي، فاعتبره "وصفة لاحتمال اندلاع حرب أهلية في لبنان"، إلا أنّ تركيز المعلّم على المزج الدائم بين هذه "الوصفة" والـ "توافق" اللبناني حولها (أي: إجماع جميع القوى، وعلى رأسها تلك الحليفة للنظام السوري) كان يوحي بأنّ التوافق الغائب بالضرورة لن يخلي الساحة إلا للوصفة القاتلة.
وهذا الربط يتناغم مع دعوات الترويج الذاتي التي أطلقها السفير السوري في واشنطن، عماد مصطفى، حول الدور الذي يمكن أن تلعبه دمشق في الأزمة الراهنة، وفي شطر تهدئة "حزب الله" بصفة خاصة (ورغم النفي الرسمي الكاريكاتوري، كان هذا ما نقله وزير الخارجية الإسباني ميغيل أنخيل موراتينوس على لسان بشار الأسد شخصياً). والحال أنّ هذا الطراز من الإتجار العلني بمأساة اللبنانيين، في ذروة انفلات البربرية الإسرائيلية من كلّ عقال، هو في الآن ذاته طراز من الإتجار الضمني بمأساة الحليف الذي يخوض الحرب، أي "حزب الله" في الواجهة وعلى الأرض. وهو، أيضاً، وفي الخلفية السياسية الأبعد، صيغة غير مباشرة للإتجار بإيران، التي تبدوـ أكثر من أيّ وقت مضى، منذ تأسيس "حزب الله" في عام 1982 ـ لاعباً محليياً مباشراً وذا صلة وثيقة وعضوية.
وفي العدد الأخير من أسبوعية "نيوزويك" الأمريكية، يروي روبرت باير، رجل المخابرات المركزية المتقاعد وصاحب كتاب "في سرير الشيطان: كيف باعت واشنطن روحنا للخام السعودي"، أنه زار دمشق في شهر آذار (مارس) الماضي، وسأل أحد رجال الأعمال السوريين المقرّبين من بشار الأسد، عن مستقبل لبنان، فردّ بالتالي: "لم يعد لبنان مشكلة سورية. لقد طردتمونا منه، فأسلمناه إلى إيران". وباير يبني على هذه الإجابة لكي يذكّر بأنه كان على الدوام ضدّ ممارسة الضغط على النظام السوري كي يسحب قوّاته من لبنان، لأسباب ذات صلة بما يجري اليوم تحديداً: أي ضبط "حزب الله"، في الساحة اللبنانية الداخلية، كما في الجنوب وعلى امتداد الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، وفي التأثر على الملفات الإقليمية وخصوصاً العراق وعواقب النفوذ الإيراني في المنطقة.
وإذُ يشحذ ذاكرته كضابط سابق في الـ CIA، يروي باير الوقائع التالية للتدليل على رأيه:
ـ في عام 1985، خُطفت طائرة الـ TWA في مطار بيروت، وجرى تهديد ركابها بالإعدام، فاتصل الرئيس الأمريكي آنذاك، رونالد ريغان، بالرئيس السوري حافظ الأسد وناشده التدخل. وكان أن أوعز الأسد لضباطه في لبنان بأن يحرّكوا دباباتهم نحو مواقع "حزب الله"، فأسفر هذا عن إطلاق سراح رهائن الطائرة.
ـ وفي عام 1987، وبعد أن خطف رجال "حزب الله" مراسل الـ ABC، ريشارد غلاس، مرّوا على حاجز عسكري سوري وهم يظنون أنهم في مأمن، فما كان من أفراد الحاجز إلا أن أنزلوا الخاطفين من السيارة، وأشبعوهم ضرباً، وحرّروا غلاس.
ـ وفي عام 1988، احتجز "حزب الله" اثنين من العاملين في الأمم المتحدة، بين آخرين، فهدد الأسد باعتقال الشيخ محمد حسين فضل الله، وإعدامه، إذا لم يُطلق سراح الرهائن. وكان للأسد ما أراد.
ـ وفي عام 1982 خطفت ميليشيا مسيحية القائم بالأعمال الإيراني واثنين من الدبلوماسيين الإيرانيين وصحافياً لبنانياً، فردّ "الحرس الثوري" الإيراني، وعلى سبيل التمهيد لمبادلة ممكنة، باختطاف الرئيس التنفيذي للجامعة الامريكية في بيروت، دافيد لودج، وتهريبه إلى إيران عبر سورية. وحين احتجت واشنطن لدى الأسد، الذي لم يكن على علم بالأمر، استشاط غضباً، وأبلغ إيران أنه سوف يطرد "الحرس الثوري" من لبنان ما لم يتمّ تحرير الرهينة. ولم يمض وقت قصير حتى كان لودج حرّاً طليقاً!
والحال أنّ باير يتناسى، لأنه لا يمكن أن ينسى، أنّ هذه الوقائع جرت في عهد الأسد الأب وليس الأسد الابن، وشتّان بين الإثنين لجهة الحنكة والسطوة ومهارة المقايضة. كذلك جرت تلك الوقائع حين كان أكثر من 35 ألف جندي سوري يرابطون هنا وهناك في الأراضي اللبنانية، وكان في وسع الأسد الأب أن يرسل دباباته أنى شاء هناك، أو أن يكلّف رئيس الاستخبارات العسكرية في لبنان بالقيام بما تعجز الدبابات عن تحقيقه في الحياة السياسية والأمنية اللبنانية. وأخيراً، جرت تلك الوقائع حين كان الأسد الأب في حال سياسية إقليمية، وأخرى اقتصادية داخلية، وثالثة مزاجية نفسية ربما، تسمح له بالذهاب حتى أقصى التجارة مع الولايات المتحدة، بما في ذلك إرسال القوّات السورية للقتال تحت الراية الأمريكية في تحالف "حفر الباطن".
كذلك يتناسى باير أنّ "حزب الله" هذه الأيام ليس "حزب الله" تلك الأيام، وأنه صار قوّة داخلية لبنانية، سياسية وعسكرية وشعبية، تخلّت بصفة شبه نهائية عن تراث خطف الرهائن والطائرات وأعمال الإرهاب اللائقة بالميليشيات، واستحقت بالتالي صفة "المقاومة". وأياً كانت طبيعة الصلات الراهنة بين "حزب الله" والأجهزة الأمنية والعسكرية السورية، فإنها لا تُقارن نهائياً بتلك الاطوار التي أتاحت للأسد الأب أن يهدد باعتقال الشيخ فضل الله، أو بطرد "الحرس الثوري" من إيران. وبالفعل، لعلّ رجل الأعمال السوري، المقرّب من الأسد الابن، أصاب كبد الحقيقة حين باح بالسرّ أمام دافيد باير: طردتمونا من لبنان، فأسلمناه إلى إيران!
لكنّ الأرباح التي تسعى تجارة الأسد الابن إلى جنيها من الحرب الراهنة (ومن "خراب لبنان"، تماماً كما توعّد به الأسد الابن أمام رئيس الوزراء اللبناني القتيل رفيق الحريري، موحياً بأنه الثمن الدامي الذي يتوجب أن يدفعه اللبنانيون لقاء انسحاب الجيش السوري من لبنان)، هي من نوع أرباح فائض القيمة، وليس القيمة ذاتها. ذلك لأنّ القيمة الحقّة، إذا تحققت بالطبع، ينبغي أن تكون من نصيب "حزب الله" بادىء ذي بدء، لأنه في الواجهة الأولى وفي الخندق الأوّل، بل على الخنادق جمعاء في الواقع. ثمّ هي، في المقام الثاني، قيمة تخصّ حصّة إيران لأسباب عديدة معقدة، تاريخية ومذهبية وسياسية تجعل من الجمهورية الإسلامية بمثابة القوّة الأبرز الواقفة خلف "حزب الله"، بما لا يُقارن البتة مع وقوف سورية... إذا جاز الحديث، أساساً، عن وقوف فعلي فعّال!
كذلك فإنّ حزمة المصالح التي يمكن أن يتاجر بها النظام السوري مع واشنطن أو الدولة العبرية، بصدد "حزب الله " وعلى أيّ مستوى ممكن من "التهدئة" أو "الضبط" أو "اللجم" أو حتى الحوار البسيط، ليست قابلة للمقايضة السهلة كما هي الحال مع المصالح الإيرانية (النفوذ في العراق، وتخصيب اليورانيوم). وعن أيّ مغانم يبحث النظام السوري، سوى تخفيف الضغوطات الأمريكية عن النظام (وليس الضغوطات الإسرائيلية، للإيضاح الهامّ، لأنّ هذه ما تزال تعمل وفق نظرية أرييل شارون حول عدم تعكير مستنقع السلطة في سورية راهناً)، أي الإبقاء عليه فترة أخرى تطول أو تقصر؟
وهل في وسع أحد أن يتجاسر اليوم على مجرّد التفكير بإعادة طرح الجولان المحتلّ على طاولة المفاوضات، إذا وقعت المعجزة وشهدت تلك المفاوضات النور في أيّ يوم قريب، باعتبار استرداد الأراضي السورية المحتلة هو الملفّ الأهمّ في حزمة المصالح السورية؟ وفي الأساس، مَن يضمن أنّ هذه هي الأولوية في حسابات النظام، وأنّ سلامة السلطة بما تعنيه من مدّ أهلها ببضع سنوات أخرى من النجاة، ليست هي الأولوية الأولى والثانية والثالثة و... القصوى؟ وفي عبارة أخرى، هل فضل القيمة التي تطمع دمشق في الحصول عليه من خراب لبنان، ينبغي أن يكون وفيراً بما يكفي لإعادة شراء الجولان، أم بخساً لا يتجاوز نفقات إعادة شراء بيت السلطة؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. #ترامب يهدي #بايدن أغنية مصورة و النتيجة صادمة! #سوشال_سكاي


.. التطورات بالسودان.. صعوبات تواجه منظمات دولية في إيصال المسا




.. بيني غانتس يهدد بالانسحاب من حكومة الحرب الإسرائيلية


.. صحفيون يوثقون استهداف طاي?رات الاحتلال لهم في رفح




.. مستوطنون ينهبون المساعدات المتجهة لغزة.. وتل أبيب تحقق