الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (سالم من الجنوب) الحلقة الخامسة

زاهر رفاعية
كاتب وناقد

(Zaher Refai)

2021 / 7 / 16
الادب والفن


رأى المفوّض فيما يرى المغمى ديداناً تسبح في مقلتيه, فيما عبر الأفق ظلّ حمائم يقطع ضياء القمر, وحطّ فوق قمّة الجبل الّذي أذهب لون المساء خضرته وأبقى شموخه, حينها تناهى لسمع المفوّض قبل أن يغوص في صمته, آهة كآهة عاشقٍ ندت بفخر عن زوجة سالم, فاستعذب المفوّض وقع آهة الفخر كما استعذب من صهرها آهة القهر, وأحسّ المفوّض بثقل في رأسه وغصّة في قلبه الذّي لا مفاتح له, حيث لطالما جدّ فلم يجد عباءة امرأة يمسح بها دمعه الدّامي, لأنّه كان قد استنفذ جميع عباءاتهنّ بتلميع حذاءه الأسود.
حتى في ذلك الغفو الحزين, ما فارقت رأس المفوّض صور من جدّ في اعتيادهم, فلم يجد في نفسه حبّاً لهم, فها هو العمدة قد استحال ذبابة تقف على المرآة, يرقب عن كثب انعكاس شيخوخة أوداجه, بدلاً من أن يجده المفوّض كما كان يأمله, وليّ انعكاس صورة كل رجل شرطة في الجنوب, وها هو الحاكم ابن الينابيع المتفجّرة, كما تبدّى للمفوّض في غمضه, يموت في عزلة على ضفاف محبّة أهل الجنوب, ويترك أعوانه المخلصين مع ديدانهم في هذا الاغماء المترامي الاستدارة, الذي تفوح منه رائحة الأسياد من كل ما ليس بكلبٍ, ولأنّ المفوّض كان مغمى, لم يتسنّ له أن يسمع همس "ابن سالم" في اذن "ابن الشّمالي" يخبره أنّ أٌذُن المفوّض الكبيرة تبدو فوّهة جيدة لتدريبات القنص بالبول.
(إنّ قمّة الشجاعة أن تعترف بأنّك جبان!) حدّث مانع الأفراح بذلك نفسه, قبل أن يغوص في غمضه مغشياً.

كان المفوّض معتاداً ما اعتاده "سالم" من قبلُ, ولم يفتأ يساءل نفسه حول الفعل المزمع, أصائبٌ يكون أم خاطئ؟ ولكنه أيضاً كان سالميّا في حكمه, فلم يشترط أن يكون فعله هذا أو ذاك, لذلك فقد أخذ يشتري كلّ شهر بمبلغ يعادل ضعف مرتبه -كمفوّض شرطة- صكوكاً لا تحمل أيّة أيمان بأيّة آلهة, يبيعه إيّاها المصرفيّ الأب بضمانة اسم الحاكم الّذي يزيّن رأسها بخطّ أسودٍ جميل, وحين ألمح له المصرفيّ الأب يوماً بخبث, أنّ مرتبه كمفوّض لا يكفي سوى لشراء نصف صكّ كل شهر, قهقه المفوّض متسائلاً إن كان المصرفيّ ينوي بيعه نصف الصكّ العلوي أم السفلي! ثم يقهقه الاثنان بتواطؤ غير معلن, فالمصرفي يعلم بتجارة المفوّض, بل قل من لم يكن يعلم أنّ المفوّض يشتري من كاهن القرية ماءً مباركا, يعود المفوّض فيبيعه للمستثمر الشماليّ بضعف ثمنه, حيث يقوم هذا الأخير بإضافة نقطة مباركة لكل دلو قار مستخرج, ليمنح القار اسوداداً كاسوداد الليالي بلا زفاف ولا قمر, ذلك أنّ أهل القرية كانوا دائمي التشكّي من أنّ سواد أزقتهم يبهت بسرعة, بسبب كثرة تجوال الشماليّ بمركبته في القرية, بينما وبعد معرفتهم بتجارة السّواد المباركة تلك, ازداد جمال لون أزقّتهم بناظريهم ضعف ما كان, وحققت تجارة السواد لكلّ من المفوّض و الكاهن أرباحاً لا بأس بها, كانا يشتريان بها المزيد و المزيد من صكوك عائلة المصرفيّين, إلّا أنّ الكاهن كان يشتري من صكوك الابن لا صكوك الأب, ذلك أنّ المصرفي الشاب المؤمن كان يزيّن طرفاها العلويين باسم الرّب مكتوباً بخطّ أسودٍ جميل.

هذه التّجارة لم تزر ذاكرة المفوّض في ذلك الاغماء, لأنه لا مكان للذاكرة حين يعتلي الخيال مسرح الفهم, لذا فقد أخذت مخيلة المفوّض تمدّ رؤياه في لحظة غمضه تلك بنور بصيرة الاغماء, وأسبغت على تصوّرات المفوّض متانة تضاهي متانة حذاءه الأسود, لذلك انتعل المفوّض خياله وطار به فوق قرى الجنوب, الّتي بدت له من علٍ صغيرة و موحشة, كانعكاس ضوء بندقيّة الصّياد في عينيّ أرنبٍ برّي, فعافت نفسه التحليق فوقها, وشرع يطير نحو قمّة الجبل الشّامخ, وحام فوق سقف المحكمة المكسو ببعض زرق النّسور فلم يجد شعاع ضوء يعبر النوافذ من الدّاخل, حينها ساوره الشك بوجود قاضٍ مستيقظ في غير فراشه فترك القمّة متّخذاً من القمر المكتمل وجهة له, وحين قطع شعاعه مع الحمائم التي لم تتلقّفها بعدُ مخالب النّسور, نظر فلم يجد في أرجلها أيّة رسائل من ساكني القمر, فأصيب بخيبة أمل مبعثها أنّ تيوس قرية "سالم" كانوا على صواب حين لم يصدّقوا أسطورة حمائم القمر الشّمالية, الّتي نقلها له العمدة عن الحاكم.

أصابته خيبة الأمل تلك بشعور الحنين للمشي على قدميه, فالتفّ على نفسه و أدار قفا حذاءه للسّماء ونجومها, فتبدّت له أنوار مدن الشّمال البرّاقة من بعيد, تفصلها عن أنوار قرى الجنوب من تحته بحارٌ مترامية الشطآن, تنتهي عند الجنوب بصحارى ومراكب متهالكة, بينما تتكسّر أمواجها شمالاً عند سفوح جبالٍ كساها الثلج بياضاً لا يضاهيه سوى بياض ثوب زفاف ابنة سالم. وعمّت المفوّض رغبة الوصول هناك, فاتخذ من قمّة الجبل الجليديّة بوصلة لجناحية, ما لبث أن اصطدم بحاجز أثيري فوق آخر حبّة رمل في الشاطئ الصحراويّ, تكسّرت إثر ذلك جناحاه, وهوى من حالق فوق إحدى المراكب المتهالكة, فاصطدم رأسه بمقبض المجداف, وتسللت لأنفه رائحة ماءٍ آسن, ففتح عينيه ببطء, فوجد نفسة في الجدول الآسن الّذي رمى أهل القرية درويشهم عنده.

رابط الحلقة الأولى:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=712551
.
رابط الحلقة الثانية:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=713091
.
رابط الحلقة الثالثة:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=724510

رابط الحلقة الرابعة:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=724789








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي