الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسف

أحمد جدعان الشايب

2021 / 7 / 16
الادب والفن


قد نصاب بما يُعرف (ديسمورفوبيا)وهو عدم رضانا عن شكلنا , ولا ننتبه لتميّزنا في جانب أخر, وأهم ميزة , غنى المعرفة و الوعي .
.................................................................................................................................................................


من حقه أن يبحث عن ذاته . ويجدها, من حقه أن يسعى لإنشائها , وتكوينها, أن يشبع الفطرة ويرضيها ,ومن حقه أن يلقى عدالة الطبيعة, عدالة الحياة ,عدالة المجتمع, لا ضير عنده أن يحصل فقط على ما يستحقه, فلو هطل المطر إشفاقاً على عطش الأرض لما بقي في الكون بقعة جفاف .
حسه الداخلي, ينبئه بامتلاكه بعض التميّز, منذ بدء مراهقته, في النفس و الذوق, وحتى الشكل, لولا قدميه اللذين يختلفان عن غالب أقدام الناس في القرية, أصابع قدميه متساوية, بينما هي عند غالب الناس, لا تتساوى, تبدو الأصبع الثانية المجاورة للكبرى, أطول قليلا.
سمع مرة جارتهم تقول في سهرة, كل من له إصبع ثانية طويلة في قدميه, يكون محظوظاً بالنساء في حياته .
يومها, نظر الموجودون جميعهم في كل الأقدام, فطوى بسرعة ساقيه, خبأهما تحته, وظل يكره قدميه حتى صار ناضجاً واعياً. وحين اكتشف أن قدميه طبيعيتان وظريفتان, وشهيتان, لم يعجبه أي قدم بعد ذلك, إلا ما يشبه قدميه.
كان يشعر بالسعادة, لأن قدميه مخبأتان في جرابين وحذاء, حتى في الصيف, لم يظهرا, وجاهد نفسه على ألا يظهرا أبداً على أحد, حتى ابنة الحي, التي اكتشف فجأة أنها تحبه, فهي لم تعرف قدميه بعد, تقضي أوقاتاً في بيتهم, في النهار وفي السهرة, أحس بها فمال إليها بشيء من المشاعر المرتجفة .
في غالب الأوقات, تجلس قبالته, وفي حضنها أخوها الصغير, تقبّله, تلاعبه, تداعبه ,وتعصره أحياناً بذراعيها .في إحدى المرات, اقتربت قدمه كثيراً ولامست المدفئة فاحترق جرابه, ولسعت النار أصابعه ,صرخ ,وشهقت هي متأثرة, بينما أسرعت أمه لتساعده , ملأت طبقاً بالماء, وغمست فوطة, ونزعت جرابه, أخذت تمسح بالفوطة المبللة على أصابعه.
شغله الألم, فنسي انكشاف قدمه ,في حين تخفف أمه عنه ببعض الكلمات اللطيفة, تداعب قدمه وتتغزل بها, كأنها تُخرج كلماتها غناء, طمأنته بأن الحرق خفيف, سيشفى بسرعة, ووعدته بجراب جديد, وفي ذات اللحظة, كانت ابنة الجيران, تنظر إلى أصابعه بشهية, كأنها تريد التهامها, فرفعت قدم أخيها الصغير جداً إلى فمها, وقضمت أصابعه, فصعق الطفل وبكى بألم وملأ الدم الوردي ثوبها .
ظلت علاقتهما بلا فعل أو كلمة أو همسة, فقط ينظر إليها وتنظر إليه حتى غادر القرية, يوم انتقل إلى العاصمة ليدرس في الجامعة, كان في حاجة شديدة لبناء علاقة مع بعض الفتيات, لا لدافع جنسي ولا للزواج ,ولكن ليثبت لنفسه وللآخرين, أنه طبيعي ومرغوب لدى الأنثى, فقد منحت الفطرة الطبيعية, للذكر أنثى, وللأنثى ذكراً .
تشابهت أيامه في الجامعة, حين يعود إلى غرفته , تعيساً , ممزقاً , يقف أمام مرآة كبيرة, يحدق في وجهه, يبحث عن عيب في تشكيله , لم يجد شيئاً, يرضى عن نفسه , لو أمكن له أن يكشف عن قدميه في الجامعة , من شدة إعجابه بهما ,بعد أيام المراهقة تلك, فهو مرتاح من شكله تماماً.
يجلس بحيرة ,يتساءل عن سبب عدم إقبال البنات عليه ,كغيره , مصاريفه محدّدة , ولا يستطيع تغيير لباسه كل يومين ,أو كل أسبوع , أو كل شهر حتى , يعطله هذا التفكير, عن الدراسة أحياناً , لم يجد جواباً , ينفعل , ورغم أنه يكره التبغ ورائحته , يحاول إشعال سيجارة , يأخذ نفساً فيختنق . ينفخ حيرته مع الكربون , يرمي بالسيجارة في صحنها , يخنقها ويدفنها .
لم يبق إلا سنة واحدة , لينتهي من الجامعة , ثلاث سنوات مضت , لم يتحدث مع فتاة على حدة , ولم يرافق من زميلاته واحدة , يرطب بهمسها روحه التي تقصفت , وبنظراتها وبرائحتها .
تجاوز الثانية والعشرين من عمره ,بدأت تخبو شعلة المراهقة المتوقدة , وحلّ البرود شيئاً فشيئاً في جم الصبا, صار رماداً,بدأ الحلم يتلاشى. غدا بعيداً كنجم فضّي يلمع في سماء ليله ولا يطوله , توقف غرور الشباب ليتراجع مقهوراً ويصطدم بواقع يمضغ حقه ويبصقه .
عاد يتساءل: ( أليس من حقك أن ترافق فتاة من عمرك؟. كيف تشبع هذا العطش الحيواني؟ . وكيف تتماهى مع حلمك الانساني ؟).
ينظر أنّىّ اتجه. زملاؤه يتحدثون بانطلاق ويضحكون , ويهمسون , مجموعات من البنات والشباب في انسجام ومرح , هناك شاب وفتاة في ركن قصي, رأساهما يكادان يتلامسان, ويقف هو عاجزاً عن كسر حاجز من وهم , كالغريب , يختار زاوية , يجلس وحيداً, يفتح كتاباً, أو مجلة , يتصفح , ويخطف نظرة نحو اليمين , ويبرق بلمحة عين نحو اليسار .
يشتم نفسه في سره (ما أضعفك ..ما أجبنك.. ما أثقل لسانك ..لقد عطلت عواطفك ومشاعرك ) يتنهد .
ينتظر أية فتاة تأتي إليه وتجلس معه وتحدثه , لا يستطيع المبادرة , يخشى طرح نفسه, ذهنه يسوق الكلمات فتفرّ , ماذا يقول ؟ قد يكون فجاً وفظاً , عاد يتنهد ويتأوه : ( آه.. يا لتلك الأيام الفتية .. كم ألجمتك التقاليد المريضة .. حتى غدت عالة على مجتمعها .. كم أوقف نبضَك الجامحَ جدارُ حرام وعيب .. آه .. يا حديقة زهر بري .. كيف الولوج في رحابك .. وقد أُوصدت دونك أبواب فولاذية .. تحرسها الضوراي) .
ما يزال في حاجة للتعرف على أية فتاة , تتوق نفسه لصداقة أنثى , يتبادل معها الأفكار , يحدثها عن قرب , يهمس في أذنها , يطرب لجرسها .
يشعر بعزلة رغم بعض الأصدقاء , لأن شيئاً في حياته ينقصه , سوف يبحث عنه , ولا يدري كيف وأين ومتى ؟.
هو لا يدري حقاً ما هي الصداقة , لكن ما حدث معه شبيه بها , لأنه حين كان وحيداً , يراجع محاضرة اليوم , ويمشي في حديقة الجامعة , شاهد سرباً من الفتيات , يتهامسن , يغردن بضحكات عذاب , يشرن نحوه بوجوههن وأصابعهن . وبدل ان يبتسم لهن , انكفأ خجلاً , تفتته مرارة ألم الحياء . همس لنفسه :
( ماذا بي ليضحكن ويتهامسن ويشرن نحوي ؟. قد يشي لباسي عن حالتي المادية .. ليس غير .. وقد أكون منفّراً للنساء .. لا ذنب لي في أن أكون فقيراً ومحاصراً ).
انفردت واحدة منهن , اقتربت منه قائلةً :(إذا تكرمت .. ممكن تُحضر لنا من المطعم أربع صندويشات فلافل ؟ ). لم يدر كيف تجرأ لسانه ونطق بضع كلمات . ابتسم قائلاً : ( الفلافل خشن .. يأكله الخشنون .. أمّا أنتن النواعم .. تأكلن الناعم الأملس ).
ابتسمت له وقالت : ( وما أدراك أننا ناعمات ورقيقات ؟ )
فقال : ( هذه الضحكات الناعمات كالموسيقى الناعمة .. لا تخرج إلا من النواعم ).
شكرت مشاعره بفرح , وقالت : ( ما أحلى لسانك ).
حين احضر لها ما طلبت , تعرفت عليه , وصارت تبحث عنه وتلتقي به كل يوم بموعد مسبق بعد الدوام , فأحس أنه اكتمل , واستمرت علاقتهما نظيفة كصديقين.
مع مرور الوقت , اعتادته , أحبته , لكنه ظل حيادياً , فهو لم يشعر ليوم أنها فتاة أحلامه , ولم تحرك رماده ليتوهج , كل ما يحدث له , بعيداً عن حلمه البديع . صحيح هو في الواقع تعيساً , وحيداً , مهملاً , لكنه حين انتفت حاجته لصداقة أنثى , أيّ أنثى , يداوره إحساس أن امتزاجه بأنثى يتماهى معها , ظل كنجم بعيد .
بدأت تكتشف لا مبالاته في أوقات كثيرة , فكرت أن تجرّبه , تمتحنه , في عتمة الواقع , تغدو بعض الأفكار قبساً من ضياء .
صارحته بما تعاني , لجأت إليه كرجل يرافقها , يخصّها , هي في مشكلة تؤرقها , شكت له ضيقها من شاب يلاحقها , هي لا تريده , وتود التخلص منه بأية حال . لأنها منحت قلبها فقط لصديقها وحبيبها .
فوجئ بما سمع , وما من خيار , مع أنه لم يشتبك في حياته مع أحد, لم يتعلم القتال, ولا يؤمن بالعنف, فقط ، يريد أن يستمتع بمدى البحر, لكنه يرتعد من صهيل موجه .
بما أنها لا تريد ذلك الشاب الثقيل, فعليه أن يسعى لتخليصها منه فهل يضربه, أم يهددهٍ؟. عليه أن يثبت لها اهتمامه بصداقتها, لقد وضعته في موقف صعب .
لم تشاغله الغيرة ليصارعه, الأمر لا يعنيه كثيراً , وعليه إيجاد حل مقبول ينهي عذابها وخوفها, عليه أن يكون رجلاً كريماً, في موقف يتطلب كرم الرجولة . ما تزال تنتظر قراره, هو يفكر في حل , مشى خطوات بطيئة , تبعته , أطرق برأسه قليلاً, رفعه قائلاً:( اطمئني.. اليوم آخر يوم سترينه يتابعك ويضايقك ..فقط عليك أن تتقبّلي ما أقوم به.. ساعة مرورنا بجانبه ).
بدا الفرح في جسدها المهتز, ووجهها وعينيها , ظنت أنه يبادلها حباً واهتماماً قالت : ( موافقة .. افعل ما شئت ) .
مشى معها نحوه , دخلا باب حديقة , كان ينتظرها لتمر من أمامه, ليغسل عينيه برؤيتها , لتبتسم له مرة كل يوم , ولومن بعيد , وليمنحها دفقة من الرضى عن ذاتها , ولتنتعش خلاياه بنسيمها ورائحتها.
أقبلا نحوه , يتحدثان ويهمسان ويبتسمان , فبعثرته الغيرة , نفخ ألماً وأسى , اقتربا من مقعده , أمام وجهه , كادا يلامسانه.
في هذه اللحظة , جذبها بذراعه , وطوّق خصرها وضمها إليه , فتلوّت كسنبلة , التصقت به , هذه فرصتها,نظرت في وجهه بدهشة,تلاقت عيونهما وابتسما,فأحست بقلبها يرقص تحت راحة كفه.
ابتعدا قليلاً عن المكان , نظر خلفه . شاهده ينهض مغادراً بعكس اتجاههما بيأس وخيبة .
عند ذلك, تراخت يده وهبطت إلى جانبه وابتعد عنها, كأن شيئاً لم يكن.
أسرعت إليه, لفت ذراعها حول جذعه ,ضمتّه إليها, نظر في عينيها مبتسماً, لكن قلبه ظل يدق بضربات إيقاعية ثابتة, ولم يرقص أبداً.
ابتعد عنها وهي تلحق به, كان ذهنه يسرح, ليتخيل فتاة يرقص لها قلبه.
مرت أيام, بقدر ما تبحث عنه, كان يهملها, صارت لقاءاتهما قليلة, يتذرع بحجج ومشاغل , ويتهرّب ويصطنع الأعذار, فزاد حبها له وتشبثها به, وبحثها عنه .
حاول أن يختفي من حياتها كي لا تراه.
صارت تتردد على الحديقة , بنفس فقدت شحنتها , واستوحشت زمر الوطاويط لياليها , وبعد مدة , وطنت نفسها على أمل مشلول .
شاهدته مرة مع فتاة في انسجام تام . لم تعهده معها , فتحطمت , وشملها الخذلان , كالسنابل التي تحن لمنجل , تقصفها حوافر جَفُولة .
جاءت إحدى المرات إلى الحديقة , غدت عزاءها الوحيد , كان وحده , اقترب منها , سألها بجدّ مقيت .
( ألم يلاحقك ويضايقك ذلك الشاب الثقيل ؟ )
تنهدّت , كأنها تمضغ أنفاسها , تقصفت الأحلام المستعادة وجعاً , بعد نومها الطويل في دفتر الذاكرة . كان ردها صاقعاً , ودون ان تعيره اهتماماً قالت :
( لوعرفت أين أجده. لما شعرت اليوم بالوحدة )
مرّت من جانبه , ومضت مبتعدة , كأنها لا تعرفه , وراحت تبحث عن الآخر في كل مكان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما