الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية (سالم من الجنوب) الحلقة السادسة.

زاهر رفاعية
كاتب وناقد

(Zaher Refai)

2021 / 7 / 18
الادب والفن


(لطالما كنت تعيش طوال حياتك كجرذ مختبئ ويلذّ لك هذا الدّور, ثم تفتح عينيك لحظة فتجد أنّ ليدك مخالب ولفمك أنياب, فتتبرّأ من نفسك و تبحث عن الجرذ داخلك, اعذرني يا "سالم" فهاك الجرذ لم يكن دوراً تتقن أداءه, بل إنّ سالماً لهو جرذ أصيل خلق لنفسه أسلحة, لم تخصصها الحياة لبني جنسه) هكذا كان سالم يحدّث نفسه بينما لا تزال يده تمسك الهراوة الّتي أهوى بها للتوّ فوق رأس المفوّض, في اللحظة الّتي أعقبت سقوط جسد الأخير أرضاً.
أتراك شعرت مرّة أو مرّات بذاتك وهي توشك أن تتفكك, وأنّ اللحظة القادمة محالٌ أن تكون ملكك, بل مُلكاً لدمعة مرّة, تضنّ على أحدٍ أن يراها, ولكن يأبى اليأس إلّا أن يغريك بالاستسلام, فتسمح لدمعتك أن تنساب برضى منك خشية أن تغلبك عيناك و تفرضا عليك مهانة الهزيمة. هذا بالضبط ما حصل مع سالم بعد أن أخبر نفسه قصة الجرذ صاحب الأنياب.
الأمر لم يعد شجاراً بين الشابّ وعمّه ليلة الزّفاف, والّذي يُقسِم الخاطب أنّ خبط هراوته على رأس عمّه كان صدفة ولم يتعمّد منه شيء, وأنّه قد انسجم مع عمّه في الرّقص تغمره السّعادة بزفافه من "ابنة سالم" هذا المساء, فلم يدر إلّا وقد أصابت هراوته رأس عمّه.
لا لم يعد الأمر كذلك, فسيّان أكان صهره قد آذاه عامداً أم راقصاً, لن يتسنّى لهذا الجمع أن يعرف ذلك, لأنّ معرفة حقيقة ذلك لم تكن لتكشفها سوى الأيّام, وهذه الأخيرة لم يكن أحد يأمل بعيشها بعد أن فعل سالم فعلته وشجّ رأس المفوّض, فكأنه شجّ بتلك الهراوة رأس العمدة ومن خلفه الحاكم ابن الينابيع الآسنة.
والآن لم يعد هناك ما يقال, فكل عتبٍ على سالم لا طائل منه, فحين سيصل الأمر للعمدة وما سيكون أسرعه من وصول, فإنّ أقل ما سيحصل لجميع سكّان قريتهم هو أن يستنكف الحاكم عن الحيلولة دون الخوازيق الشماليّة التي تترصّد أدبارهم, لذلك شارك جميع من كان هناك ابن قريتهم سالماً في صمته, بل ودموعه, في مشهد مهيب ,يبعث الخوف من عالمٍ يبكي فيه النّاس مصائرهم بصمت.
- والآن.. ماذا؟
شقّ سؤال المصرفيّ الشاب صمت الاحتضار, وكأنّ الدّهشة عدوّ الموت, و بالفعل كانت, فقد حرّك سؤاله شيئاً يكمن في دواخلهم, لم يتصوّروا يوماً أنّ هناك دائماً ثمّة شيئاً يُفعَل, ولذلك يبقى الأحياءُ أحياءً طالما يفعلوه, ودار برأس الجميع أنّ المراكب من خلفهم قد رحلت, فبصق سالم على رأس المفوّض, ولم يدرِ هو نفسه أيّ موهبة في القنص بالبصاق كانت لديه, ورمى حينها الهراوة من يده, ماسحاً فمه بكمّ رداءه, ثمّ التفت مخاطباً الوجوه الذاهلة (يا معشر أهلي و أبناء قريتي, ها أنتم ترون جزاء من يعيب على أهل قريتنا كيف يزوّجون بناتهم و أبنائهم, فمن كان منكم يا معشر أهل قرية الجنوب متبرّأً من كرامته, مستأنساً بما فاه به هذا البغل ذو الأوسمة, فليتبرّأ منّي لأنني منه براء, ومن كان منكم موافقاً على ما اقترفته يداي فليأتِ وليبصق على رأس المفوّض) , نهض الخاطب وكان حتى حينها لايزال يفترش الأرض, فكان أول الباصقين, فاختلط بصاقه بدماء فمه من أثر ركلة المفوّض, ثم تبعه أهل القرية عدا المصرفيّ الأب, أمّا المستثمر الشماليّ فأبى أن يبصق لأنّه عدّ بصاقهم على مفوّض شرطتهم مسألة جنوبيّة, ولكنه أعرب في لفتة كريمة عن تضامنه مع اللعاب الممطر على أمّ رأس المفوّض المغمى, بينما لم يقتنع "ابن المستثمر" بجنوبيّة المسألة لأنّه أراد أن يشارك "ابن سالم" التصويب بالبول على أذن المفوّض الكبيرة, لكنّ سالم اعترض على مقترح الصبيين, وعدّ ذلك قلّة أدب من الأولاد لمن هو أكبر منهم سنّاً, كما شرح للغلامين رمزيّة البصاق, فامتعض اليافعان وهزّا رأسيهما بالموافقة قبل أن يفسحا المجال لبقية الناس المنتظرين مجيء دورهم ليبصقوا.
هنا استدار سالم يسأل المصرفيّ الأب عن تفرّده برفض ما أقرّه جميع أهل قريته, فتذرّع ابن الستّين عاماً بأنّه لا يمكن أن يقوم بشيء كهذا دون موافقة الكاهن و مباركته.
كان سالم قد رفض مسبّقاً دعوة الكاهن للزفاف, متهماً إياه ببيع زجاجتين للمستثمر عن طريق المفوّض, من المياه الّتي لم تباركها آيات الرّب, وهذا برأي سالم كان السبب في ابيضاض الاسفلت أمام كوة المخبز دوناً عن بقيّة أسفلت القرية على الرّغم من أنّ سيارة السيّد المستثمر والتي هي الوحيدة بالمناسبة, قلّما تمرّ من تلك البقعة كما أكّد سالم, وهذا اتّهام رفض الشيخ العجوز الإقرار به, مؤكّداً أنه يشرف بنفسه على مباركة كل قطرة في كل قارورة, ولكن البقعة التي يتحدّث "سالم" عنها قد فقدت لون زيت قارها بسبب ازدحام الأرجل أمام الكوّة كل صباح, لذلك يجب على سالم أن يشتري بنفسه زجاجة ماء مبارك من عند المفوّض ويرش منها ما شاء أمام كوة مخبزه, وهذا ما لم يكن مقنعاً لسالم بأيّ حال.
الآن وبعد أن طلب المصرفيّ الأب حضور العجوز لإتمام واجب البصاق على رأس زبون مصرفه (المفوّض), لم يجد سالماً من عذرٍ أمام أهل قريته لحرمان المصرفيّ الأب من هذا الحقّ, فطلب سالم من المستثمر أن يتكرّم ويذهب لإحضار الكاهن العجوز, فوافق المستثمر وانطلق بسيارته قاصداً محفل الرّب.
كان ضوء الغرفة الحقيرة التي لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار أسفل الصومعة مضاءً حين وصل المستثمر, فطرق باب الشيخ برفق متعمّد, حينها سمع سعالَ العجوز في عقده الثامن, وقرقعة نوابض سريره الصدأ, كما استغرق الأمر دقيقة كاملة حتى قطع الشيخ الأربعة أمتار الّتي تفصل بين السرير وباب الغرفة, وحين فتح الباب طالعه وجه المستثمر الشّماليّ حليق اللحية, يشوب بياض وجنتيه أثر حمرة شمس الجنوب, فحيّاه المستثمر وردّ الشيخ ضعيف البصر التحية بمثلها, ولم يجهد نفسه إخفاء ملامح الدّهشة الّتي اعتلت حاجبيه لدى رؤية المستثمر ولكنّه دعاه للدّخول, فردّ عليه هذا الأخير, أنّ الأمر عاجل و خطير, ورجاه أن يذهب معه في السّيارة, فأغلق الشيخ باب غرفته وذهب دون أن يسأل إلى أين.
بعد دقائق حين سيصلون هناك ,سيتمنّى أنّه لو سأل فلم يذهب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدء التجهيز للدورة الـ 17 من مهرجان المسرح المصرى (دورة سميح


.. عرض يضم الفنون الأدائية في قطر من الرقص بالسيف إلى المسرح ال




.. #كريم_عبدالعزيز فظيع في التمثيل.. #دينا_الشربيني: نفسي أمثل


.. بعد فوز فيلمها بمهرجان مالمو المخرجة شيرين مجدي دياب صعوبة ع




.. كلمة أخيرة - لقاء خاص مع الفنانة دينا الشربيني وحوار عن مشو