الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكوميديا السوداء، أو السخرية في القصيدة التجديدية الشاعر موفق محمد أنموذجاً

سعد الساعدي

2021 / 7 / 19
الادب والفن


في اضاءات نقدية عن الكثير من الشعراء وجدنا صوراً متعددة من الأغراض التي يكتبون، بها سواء استعرضنا بعضها أو توقفنا عند اسماء البعض في مجمل التشخيص والمقارنة، وعرفنا أن القصيدة التجديدية في غالب تشكيل محتواها تميل أو يميل شعراؤها لكتابة الغزل كسمة فنية يسعى بها (الشاعر/الشاعرة) الى كسر حواجز جدران الحزن، نحو ايجاد بهجة مُونِقة في وصف الحبيب أوالتشبيب تماشياً مع السائد، أو الابتعاد عن الواقع.
مع شاعر آخر من الذين مرّوا ومرّت أشعارهم علينا، بروحية شعرية مختلفة تماماً عن الشعراء العراقيين المعاصرين في المرحلة التجديدية، بخليط كتاباته الممهورة باللغة الفصيحة والشعبية، استناداً لبيئته البابلية وما اكتسبه منها، وتخصصه في اللغة العربية؛ إنه الشاعر موفق محمد أبو خمرة الذي حرقته كلمات الشعر فأطفأ بها هواجسه، وانحاز بها للمعذبين في الأرض. غزله مؤلم تغشاه الويلات والمآسي من كل مكان، وكلمات حزنه ساخرة الى حدِّ إذلال أي عنوان للطغيان والمتجبرين.
التابوهات التي تحاور بها الشاعر مع النص، لم تكن سخريةً فحسب، أو عبوراً فوق الممنوع، أو هجاءً عابراً مسافات قصيرة ليتوقف عندها، بل هو تقطيع وتهشيم للا مبالاة التي يمارسها الحاكم ضد المحكوم، الخادع ضد المخدوع، المصارع ضد الصريع، ومنازعات الأقدار الرهيبة ضد المستضعفين، لأنه واحد منهم؛ هذه هي الكوميديا السوداء التي مارسها ونجح بها متفرداً الشاعر أبو خمرة، لذا لا نستغرب عندما نسمع من يلقبه شاعر الوطن والناس. من قصيدة له بعنوان "لا حرية تحت نصب الحرية" يقول فيها:
فنيت عمرك لم تقم من وجعةٍ إلّا وطحت بأخرى سرمهر وانگس!
وما تخلصت من بوريٍ لُطِمت بهِ، إلّا تمنيته، فالجاي چان انگس!
وما تحررت من حزبٍ قُتِلت بهِ، إلّا وجاءك حزبٌ سرسري وانگس!
وتظل تقارن عمر ما بين ذاكه وذا
والصافي إلك تصطلي بنيران شرة واذى
لو گتلة فدوة الشعب محروگ، گلك وذا، ما طول أنا بالحكم، حيل وعسى بنگس!

لو گتلة فدوة الشعب مجمور، گلك وذا، ما طول ما حصلت منصب، عسى بنگس!
وها انت تُهرس بين وغدين مبتهجين، منتشيين من فرط احتراقك وانكسارك
شلُّوا يمينك واستعانوا بالذئاب على يسارك
هذا جزاءك أنْ تموت فِداً لصوتك واختيارك
فإذا ادلهمَّ دم الشهيد،
وطغى الظلام على نهارك،
ورأيت من كان المؤمَّل،
والمرجّى،
والمقدس
لا يريد سِوى انكسارك
فاقرأ على البلد السلام،
وقف الحِداد على صِغارِك..
نلاحظ هذا الاشتغال الشعري للشاعر وهو ينتقل من لغة اللهجة العامية الى الفصحى بسلاسة قلَّ مثيلها مع شعراء معدودين، منهم المتخصص بالشعر الشعبي، وهو صبغته الخاصة المعروف بها، لكنه يطعّمه بالفصحى أمثال الشاعر الشعبي إيهاب المالكي، رغم أن موضوع الشعر الشعبي بحاجة الى دراسة خاصة منفصلة ليس مجالها ضمن خطة البحث هنا.
اشتغالية موفق محمد نتج منها وعنها توظيف بنائي خالي التعقيد، لاسيما الذي يحمل السخرية المقصودة ليس للإضحاك فحسب، وإنما لدقِّ مسامير غليظة في نعوش معدَّة لمن حسبوا أنَّ الموت ناسيهم. أيضاً اشتغل الشاعر ببناء درامي ضمن نسق (هارموني) شعري كأنه عازف موسيقي يروي حكاية؛ لذا يجد المتلقي والناقد بشكل أخص مجموعة صور (بوليفونية) يمكن القول عنها أنها موجودة في كل قصائده، ليختطب بذلك اسلوبه الأدبي المتميز. كتب الشاعر بالمؤلم المضحك، وليس من السهولة الاشتغال بذلك إلّا لمن يعرف صنعته بدقة متناهية.
من بعض نصوص الشاعر هذا النص:
"قال لي شيخٌ
عاصرَ خَمس حكوماتٍ وطنية
عادت بالبلد الى ما وراء "تل حسونة"
إنَّ العراقيين لا يشبعون من الظلم ِ
فإذا أصيبوا بالتخمةِ من ظالم ٍ
استبدلوه بظالمٍ أعتى على مرِّ العصور
فالعراقيون صنّاعو طغاةٍ من الطراز الأول...
لابد من صنم !
لكي نموت دونه
و نسبق الامم.."
كلمات الشاعر لها دلالات خاصة ضمن سيكولوجية النص الذي ترى نظرية التحليل النقدية أنه سيكولوجية باعث العمل ومنتجه أصلاً، مثلما أنَّ فلسفة النص لها حضور في روح المتلقي، كونها نابعة من فلسفة الشاعر الحياتية قبل الايديولوجية، لذا فهو يريد تحريك الوجدان، وترسيخ المعنى بإرسال متتالٍ، كي تترسخ الفكرة فيما لو حلّل مضمونها المتلقي العام، أو المتخصص في فكِّ الرموز والألغاز، وهو هنا الناقد الموضوعي بكل تأكيد.
والملاحظ أيضاً أن موفق محمد في كثير من توظيفاته الشعرية يسعى لخلق دلالة صلة بينه وبين المتلقي عبر الصوت؛ فنراه في أغلب المحافل بصوته يحرك الجمهور ضمن عملية هي أدق ما تصل بها الرسالة الاتصالية حين يمارس الشاعر الاتصال الجماهيري المواجهي المباشر، بنكهة سياسية عبر مكبرات الصوت.
هذا التأثير المتحرك يضيف لثقافة المتلقي والثقافة العامة حين يرى الشاعر أمامه ردود الفعل الجماهيري، لتكون له القدرة بتفوق أن يعدل كل لحظة من رسالته التي يريد ايصالها؛ التوقف، الضحك، الابتسام، تغيير سيناريو حبكته السردية، وغالباً تأتي ارتجالاً مع ما حفظه الشاعر، وهو الذي نعبر عنه بالاشتغال التكويني ضمن تعالق دلالات الصلة حضورياً، يستفيد منه أيضاً الناقد حينما تستهويه مثل تلك النصوص، فيبدع في الكتابة عنها بكل تأكيد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟