الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صاحبة الجلالة.. علاقة حب abusive

مصطفى إبراهيم
(Mostafa Ibrahim)

2021 / 7 / 19
سيرة ذاتية


من طرف واحد.. هكذا نشأت علاقتنا، هكذا استمرت ما يقارب عقدا من الزمن، ثم هكذا انتهت، إلا أنه، والحق يقال وقحا، لم يكن أبدا في الإمكان أفضل مما كان.
شاءت الأقدار، دون سعي مني أو اجتهاد، أن يبدأ تعلقي بالقراءة في سن مبكرة نسبيا، في المرحلة الإعدادية إن لم تخني ذاكرتي- الخائنة بطبعها- وكان أول ما وقعت عينا الصبي الغرير عليه مجلد ضخم صفحاته كبيرة القَطٰع، متخمة بحواديت العم أنيس منصور التي لا يمل منها أي ذي عقل بجمجمته، في رحلته الجهنمية حول العالم في ٢٠٠ يوم..
اتخذ الصبي الغرير كتاب العم أنيس رفيقًا دائمًا، فما إن ينتهي من قراءة له إلا ويبدأ التالية، دون ملل أو تأفف أو حتى رغبة في التجديد، وظن، وبعض الظن إثم، أن هذا الكاتب قد حاز الدنيا بما فيها وما عليها، فأي مهنة رائعة تلك التي تدور بصاحبها حول العالم ليسجل مشاهداته، أهذه مهنة لا يسعى أي عاقل إليها؟
حسنا أيها العم أنيس، سأكبر ذات يوم لأصير صحفيًا مثلك، سترسلني جريدتي، التي سأختارها بعد المفاضلة بين البدائل المتاحة- وإن كنت أميل عاطفيا للأهرام- إلى مختلف ربوع العالم مثلك، سأزور المدن التي فاتتك، سأغوص في أعماق أفريقيا وأطير إلى قطبي الأرض جنوبًا وشمالاً، ستدفع الجريدة بالطبع تكاليف سفري وإقامتي، ولا بأس من بعض «البوكيت ماني» لزوم التسكع في بلاد العالم ومرافقة بعض الجميلات من حين إلى آخر، سأصير مثلك يا أنيس وأمتلك مكتبًا فاخرًا بذلك الصرح العملاق الكائن بشارع الجلاء، قد أحتاج سكرتيرة أيضًا لترتيب مواعيدي مع كبار الساسة الذين سيتهافتون علي ويتسابقون لإرضائي خشية لدغات قلمي، سأصير مثلك يا أنيس.
تمر بضع سنوات، يخطو الصبي أولى خطواته في مرحلة الخلاط (المراهقة في قول آخر)، حيث تحكم الهرمونات صاحبها وتقوده حيث تشاء، فلا عقل ينفع ولا نصح يشفع، كان هذا الوقت بالذات الذي قابل فيه كتابًا صغيرًا، يحمل رسما كاريكاتوريًا لحمار يعلوه شخص يبدو وجهه مألوفًا، هذا الوجه ليس غريبًا بالتأكيد، ربما التقينا في مناسبة ما، ربما ظهر في إحدى قنوات التليفزيون الثلاث اليتيمة، ثم جذب الاسم عيني الفتى ليفاجأ: محمود السعدني، نعم هذا هو، بالتأكيد هو قريب للعملاق صلاح السعدني، ربما يكون أباه أو أخاه، حسنا، لنستكشف ما خط قلمه أولاً ثم نبحث عن شجرة العائلة عبر ذلك الاختراع المبهر الجديد، جوجل، هذا الشيطان الأمريكي الذي يجلب لك أحلامك على شاشة..
بدأ الفتى يقرأ رائعة عمدة الساخرين وإمام الجورنالجية «حمار من الشرق»، وما إن بدأ في استنهال ما لدى العمدة من درر الحكي والحديث، حتى غاص فيها وربما غرق، لم يستطع أن يطوي دفتي الكتاب دون أن يكمله حتى آخره، ليمر يومان ويبدأ قراءته من جديد، ثم مرة ثالثة، فرابعة، لا يكف في أي منها عن الانبهار بهذا الصحفي المجنون، كيف قال ما قال وقتما قاله؟ كيف تحمل النفي والسجن والفصل والقمع والتنكيل؟ كيف سخر من السادات وظل يحبه رغم كل شيء؟ كيف عاش مع الملوك والصعاليك على حد سواء؟ ما هذه المهنة التي كلما رأيت أحدًا من أبنائها ما زدت إلا تعلقًا وشغفًا وانبهارًا؟ هي مهنتي المستقبلية لا شك، هي اختياري الأول والأوحد.. كيف لأي بالغ راشد عاقل ألا يكون صحفيًا؟!
صار ذاك الفتى شابًا وبالطبع اختار دراسة الإعلام، فأي بديل يمكن لمجذوب مثله أن يختار؟
في أولى سنوات دراسته الجامعية تعرف على هيكل، محمد حسنين هيكل، لا داعي لأي إضافات فالاسم يكفي، قرأ كثيرا منه وعنه، فزاده الأستاذ انجذابًا وانصهارًا في أحلامه، حسنًا، إن لم أصبح العم أنيس أو العمدة، فبالتأكيد سأكون هيكل، وسأحصل على مكتب أكبر وأفخم بذات المبنى العريق بشارع الجلاء..
تخرج الشاب، الذي لم يرضَ إلا أن يظل غريرًا، وبدأ البحث عن فرصة، هلموا يا رؤساء تحرير العالم فقد تخرج صديق أنيس والتابعي وهيكل والسعدني والأخوان أمين، اقتتلوا فيما بينكم لتظفروا بقلمي وأفكاري ولوذعيتي الصحفية النادرة، وظفوني فقد قرأت الكثير وذاكرت أكثر، سأرضى بأي راتب مبدئيًا، لكن هيهات أن تتحملوا راتبي بعد بضع سنين..
يجد الشاب نفسه فجأة أمام حقائق مختلفة، وواقع مغاير، بل مناقض لما ظنه- لهذا نوهت بداية بأن بعض الظن إثم- فهذه زميلة الدفعة قد عملت بصحيفة الوفد مقابل 500 جنيه شهريًا مع وعد بالتعيين والنقابة، مستحيل أن أقبل بإهانة كهذه، وهذا آخر يعمل «أبلودر» بموقع ما (لغير الصحفيين، الأبلودر هو الشخص الذي تتلخص مهمته في رفع المواد الصحفية على المواقع بعد انتهاء كافة مراحل التحرير والمراجعة)، لن أكون كهؤلاء بالتأكيد فأنا مميز، ودائرة علاقاتي الخيالية بأباطرة المهنة ستمنحني مميزات إضافية حُرم منها هؤلاء، ها أنا قد حصلت على وظيفة محرر بجريدة لا بأس بها، ها أنا أكتب، ها أنا أنشر، وأحصل على راتب لا بأس به في هذا التوقيت..
مرت الأيام وظل الشاب «محلك سر»، تذمر كثيرًا من حالة السكون تلك، لكنه اكتشف بمرور الوقت أنها كانت نعم الحالة مقارنة بما بعدها، ظل الأفق يضيق، ثم يضيق، صار خانقًا لا يسمح حتى بالتنفس، وجاء وحش السوشيال ميديا ليسرق ما تبقى من أمل، لم يعد المتلقي مضطرا لانتظار المعلومة من صحيفة أو موقع إخباري، صار الأخوان تويتر وفيسبوك بديلاً سهلاً رخيصًا، غير متكلف أو موجه أو مصطنع (في بعض الأحيان)، فأغلقت الصحف أبوابها، وجف الحبر في أقلام الكبار فيما ظهرت «كيبوردات» المراهقين لتكتسح كل شيء وتقضي على ما تبقى من فتات المهنة، صار الـseo حاكمًا والطبل نهجًا والرقص على جثة المهنة غاية وسبيلاً..
استفاق الشاب بعد فوات الأوان، ليكتشف أنه دخل علاقة حب abusive إن صح التعبير، مشاعرها من طرف واحد، عطاؤها، تضحياتها، شجونها وحنينها من ذات الطرف، علم وقتما لا ينفع العلم أنه لم يكن سوى مغفلٍ آخر، صدق ما كُتب، آمن بمن كتب، فواجه من ضيّع وفرّط وخرّب وأنهى كل أمل في مستقبل لهذه المهنة، أعماه حبه- كحال الحب دائمًا- عن حقيقة أن كل مهنة تمثل سوقًا، وسوقها عرض وطلب، لم يدرك أن الطلب انتهى فأنهى كل عرض محتمل، ليضيع عقدًا من عمره بلا طائل، بلا نجاح يذكر، أو حتى خيبة تفرز إبداعًا قد يفيده يومًا، أضاع عقدًا يحرث البحر، فلا حرثًا فلح، ولا زرعًا نبت، وها هو يبدأ من جديد في طريق عساه يكون خيرًا من سابقه، آملاً أن يعتبر كل آمل في هذه المهنة من تجربته، وألا يضيع غيره عمرًا لن يستطيع تعويضه.. كان يحلم أن يصير قدوة، والآن أقصى آماله أن يصير عبرة وعظة، فاتعظ.. إن كنت على ذوي الألباب محسوب!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بين أنستغرام والواقع.. هل براغ التشيكية باهرة الجمال حقا؟ |


.. ارتفاع حصيلة القتلى في قطاع غزة إلى 34388 منذ بدء الحرب




.. الحوثيون يهددون باستهداف كل المصالح الأميركية في المنطقة


.. انطلاق الاجتماع التشاوري العربي في الرياض لبحث تطورات حرب غز




.. مسيرة بالعاصمة اليونانية تضامنا مع غزة ودعما للطلبة في الجام