الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان ليس سعيداً في الناصرية! (الجزء الثالث)

طارق حربي

2021 / 7 / 21
الادب والفن


3 - الرجال والشبّان طاقة مهدورة في مدينة منكوبة!
وليست معاناة الرجل أقلَّ من معاناة المرأة التي تمضي كل حياتها تقريباً بين أربعة حيطان والعراق أكبر سجن! لكنه أكثر حرية منها في التعبير عن محروميته وبث شكواه، ويغادر بيته متى يشاء إلى الشارع والمقهى وساحة لعبة كرة القدم وغيرها، ويملك حرية السفر والتنزّه حتى ساعة متأخرة من الليل صحبة أصدقائه وغيرها.
مع ذلك بان الحزنُ على وجهه مما تراكم خلال نصف قرن تقريباً من مآسي الحروب والطغيان والحصار والفقر، وما جلبه الاحتلال الأمريكي من طبقة حاكمة فاسدة. أطلق لحيته إما تعبيراً عن احتجاج أو إهمال، أو تأثراً بنجوم المسلسلات التركية التي غزتْ عقول المشاهدين في البلدان العربية منذ أكثر من عشرين عام. أو بمن حوله لكيلا يبدو مختلفاً عن النسق الذي تبناه سائر الرجال وأصبح تقليداً عاماً!
لم يُطلق الرجل لحيته في الناصرية سابقاً إلّا في حالة وفاة أحد أفراد العائلة، أو قريب له أو صديق عزيز، ولفترة محدودة هي سبعة أيام قد تطول إلى 40 يوماً أو تمتد إلى عام حسب علاقة القربى مع المتوفى أو الصداقة، مع ارتداء السواد كما يقتضي العرف الاجتماعي.
لا تغير اللحية من وجه الرجل وهيئته وتلبسه قناعاً أسود، دافعة سلوكه أحياناً إلى اتخاذ موقف ما من الحياة وتراجعها في الناصرية حسب، بل قد تكون عنواناً لنسق مضمر من التعصب، فيتساوى بها المنتمي إلى عصابة تسمى في العراق حزباً دينياً يسنده القضاء الفاسد، إلى حد تبرئة ساحته من اعتداء على مواطن لسبب أو من دون سبب لأن الطقس حار في شهر تموز مثلا! أو جريمة بحق الشبّان المتظاهرين المطالبين بحقوقهم في العيش الكريم. وهُوية المؤمن الذي يرى في ارتياد أمكنة العبادة واللحية مكملين لبعضهما، في هامش الحرية الممنوح للشعب العراقي بعد عام 2003!
النقاب على قلة مرتدياته لكن الحجاب أصبح ظاهرة اجتماعية عامة واللحية التي يكاد الرجال والشبّان يتساوون في هُويتها، تُغيِّب ملامح الوجوه وتترك الزائر إلى المدينة المنكوبة بالقمامة والأحزاب في حيرة من أمره! فشلتُ عدداً من المرات في تمييز وجه صديق قديم أو جار أو أحد الأقرباء!
أجتاز في شوارع أسلمتها الأحزاب المغتصبة للسلطة في دولة كانت في بدايات تأسيسها في عام 1921 مدنيّة. طويلة كما أراد لها مدحت باشا وخططها المهندس البلجيكي تيلي لتسهيل مرور الجندرمة العثمانية وإخماد ثورات عشائر المنتفك حينذاك. مزدحمة بالسيارات وزعيق منبهاتها وملوثة بالضجيج وموجات الغبار، وتنتشر فيها القمامة وتتعالى أصوات الباعة في كل مكان، وتموج بالآلاف من النساء والطفلات المحجبات والمُنَقَّبات، والرجال والشبّان الملتحين بلحى كثة سوداء ومشذبة. ولم تكن الشوارع بمثل هذا الحال المزري ولا الناس قبل مغادرة العراق في عام 1991!
جعلتِ اللحيةُ والشاربان رأس الرجل أكبر من اللزوم! مخيفاً سيما إذا كان طويلاً مُعضَّلاً، عبداً ومعتدياً في نفس الوقت وأحياناً قاتلاً في موكب حراسة أحد السياسيين الفاسدين، أو من محدثي النعمة بعد التغيير أو الشركات الأمنية. أو حماية رجل دين نافذ وأبواب مقرات الأحزاب الدينية، ومنهم من يفرش سجادته في الباب ويصلي نفاقاً ومراءاة! مقرات سيئة السمعة ومكروهة تنتشر منها العشرات في طول الناصرية وعرضها، يمكنُ لملتحيها من ذوي النظرات الشَّزرة التي يُلقونها على المارَّة، بما اختزنتْ من عتاد الأحقاد على من يخالفهم في رأي أو ملبس أو يحلق لحيته، أن يسقطوا المدينة بعد نصف ساعة من تلقيهم أوامر من زعاماتهم الدينية والسياسية!
رجال وشبّان عاطلون عن العمل يمضون أوقات طويلة في المقاهي المنتشرة في المدينة المليونية جلوساً أمام (الناركيلة) كأنها رمز إله جديد! ليس إله الحب الذي تُقفل له الأقفال على جسور العالم دلالة على الحب والوفاء بين العشاق، لكن إله الفقر والبطالة واللاجدوى! تذهب أنفسهم حسرات مع الدخان المتطاير في الأركان، وتصد الحيطان المتآكلة نظراتهم المتوسلة أفقَ خلاصٍ وهروبٍ إلى دول الغرب حيث استقر فيها أصدقاؤهم وأقرباؤهم، فكتبوا إليهم عبر التواصل الاجتماعي وأرسلوا صوراً رسمتْ بأزهى الألوان رغد الحياة فيها، وأن الأمر يستحق المغامرة فاعبروا الحدود وانسوا العراق!
تصدرتْ محافظة ذي قار قائمة إحصائية الفقر بين المحافظات في عام 2012 وجاء ترتيبها ثانياً في عام 2013 ، وتجاوز عدد العاطلين عن العمل فيها بحسب دائرة إحصاء ذي قار أكثر من 160 ألف، وهو عدد ضئيل ومشكوك في صحته!
في أقصى درجات الفقر التي يصعب تصورها في بلاد النفط والخيرات الوفيرة إلّا إذا كان الحاكم يسرق بلا حساب، يضطر الكثير الرجال والشبّان إلى الانخراط في سلكيّ الشرطة والجيش. وتقوم الأحزاب بعملية دمج في السلكين لسواهم. أو من يدفع المال مقابل التوظيف في دولة المافيات والميليشيات! قد يهرب الجندي في مواجهة مافيات التهريب وعصابات العشائر والحركات الإسلامية الأصولية في المناطق الغربية خاصة، ويستولي الضابط المسؤول على نصفِ مُرتَّبه أو كله! وكان الفساد المالي والإداري متفشياً في الجيش خلال الحرب العراقية الإيرانية، منح الضباط الكثير من الجنود والمراتب إجازات مفتوحة ولم نعد نراهم في خطوط المواجهة إلّا إذا قلَّلوا ما يعطونه من رشاوى إلى الضباط! ويقف الشرطي اليوم مكتوف الأيدي أمام الحوادث والجرائم خوفاً من محاسبة العشائر لهم في بلد الفوضى! فلا يدافع عن المظلوم والمعتدى عليه في الشارع، ولا ينقذ الشاب المتظاهر المطالب بحقه قبلما يرديه أحد أفراد العصابات الدينية قتيلاً في تظاهرة جماهيرية ضد الفساد والمفسدين!
على مناكب الشبّان تبني الدول مستقبلها وترسم أحلامها، وليس شيوخ العشائر ورجال الدين وكبار السنِّ الذين تقدمهم الفعاليات الحكومية والحزبية على الطفل والمرأة والشاب في كل المناسبات، لتضمن إعادة انتخاب مرشحيها الفاسدين في الانتخابات النيابية!
تشير الاحصائيات إلى أن عدد نفوس الشبّان بلغ ثلثي نفوس العراق. لكنهم في الناصرية طاقة مهدورة في مدينة منكوبة! وكان يمكن لهم لو وضعتهم الدولة في استراتيجيتها أن يكونوا طاقة التغيير والتنمية المستدامة. فالشبّان وهم في ذروة النشاط والطاقة والحيوية يمكن أن يكونوا قوى مؤثرة في سوق العمل لأنهم الأكثر استيعابا للمتغيرات السريعة في عالم اليوم ويتمتعون بطاقة حيوية وتفاعلية مع أحداث عالمهم
. وبهم يمكن أن ينتقل العراق بوجود اقتصاد قوي لا يذهب ريعه إلى جيوب الفاسدين إلى مصاف الدول المتطورة والشعوب المزدهرة.
لكنهم يجلسون ساعات طويلة في المقاهي عابسين ويمشون في الشوارع المغطاة بالقمامة يائسين وعلى شواطىء الفرات الناضب يائسين ومُحبطين! قد يحبط الإنسان بعد قصة حب فاشلة أو انعدام فرص العمل بعد التخرج من الجامعة، لكن أن تتنكر له دولته وتجافيه حكومته فذلك أمر لا يمكن أن يخطط له وينفذه سوى الفاسدين والعملاء للأجنبي. لا توجد مؤسسات دولة تنظم حياة المواطنين في إحصاء سنوي وتلبي احتياجاتهم الإنسانية، ولا حكومة ترعى متطلباتهم وتؤمن لهم حياتهم من فقر ومرض وتشرد وعجز في مرحلة الشيخوخة. ولا عجب بعد ذلك إذا مال العاطل اليائس إلى عشيرة تقويه وحزب يؤويه! أو جهاز مخابرات إقليمي أو دولي يعمل فيه ضد مصالح شعبه وبلاده! أو تسلحه الفاعليات الإيرانية في العراق وترسله إلى سوريا بحجة الدفاع عن الأضرحة المقدسة! لكن الحقيقة هي الدفاع عن النظام الجائر فيها!
ومثلما كنا نبحث خلال حرب الثماني سنوات العبثية ضد إيران قبل أكثر من ثلاثين عاماً عن منفذ حدودي للهروب من الجحيم العراقي ولم نجده، تبحث جيوش من الشبّان والرجال العاطلين عن العمل اليوم عن منافذ للهروب بعد تراجع كل شيء في حطام العراق ودولته المنهارة، وتسيّد أحزابه وميليشياته وانسداد أفقه بصخور اليأس واللاجدوى.
طوى خريج كلية العلوم شهادته الجامعية في خزانة ثيابه القديمة لانعدام فرص العمل في مجال تخصصه، وجلس في السوق يبيع دواء مكافحة الدود والحشرات والقوارض والهوام. وصعد على أكتاف خريج كلية الآداب قسم اللغة العربية شاعر شعبي دمجته الأحزاب في الإعلام الحزبي اللّامهني، وراح صوته يلعلع في الفضائيات وأخذ يجني الأموال ويستثمرها بعد تراكمها في شراء العقار والأسواق والمطاعم، ويقيم علاقات مشبوهة مع المُعجبات بعدما أصبح نجماً تلفزيونيا. واتجه خريج كلية التربية قسم اللغة الإنجليزية إلى تعليم الطلاب في بيته، رضي منه بأجر زهيد يقيم بجزء منه أوده ويوفر جزءاً آخر للمهربين علَّهُ ينفد بجلده من العراق في يوم قريب! وفشل من أنهى دراسة التضميد في الحصول على وظيفة فأشفق عليه صديقه أو أحد أقربائه ليعمل معه في دكاكين الحجامة الغير خاضعة للرقابة الصحية! ومن أنهى دراسة الفيزياء عمل كاتب عرائض في باب محكمة بداءة الناصرية! وجلس من تخرج من قسم الكيمياء خلف صندوق زجاجي لتصريف العملة أو بيع شريحة الهاتف النقال في شارع الحبوبي! وسوى ذلك الكثير مما شاهدته في درب المأساة الوطنية!
ومن شَظَفَ عَيْشُهمْ ونَكَدَ حَظُّهمْ ولم يجدوا لقمة حلالاً في بلد الفساد يأكلونها مع زوجاتهم وأطفالهم وهِدماً يلبسونه وسيكارة يدخنوها تبعد عنهم هموم التفكير في البلد المتجه بسرعة صاروخية إلى الهاوية، يقف المكدودون منهم منذ طلوع الفجر في المسطر وتشرق الشمس على وجوههم الحزينة المتوسلة ويطلع النهار وتشتدُّ حركة المارَّة، لكن لم يمر بهم بنّاء أو مقاول ويختار أحداً منهم ويصحبه إلى مواقع العمل، وينقده قبل مغيب الشمس أجراً قليلاً يُسكتُ جوعه وعائلته ليوم واحد لا أكثر! يعودون قبيل الظهر إلى بيوتهم خائبين مثلما كنتُ أعود إلى بيتنا في حي الأرامل والأيتام قبل عقود لأتناول فطوري المكون من الخبز والشاي وأحياناً الخبز والطماطم المقلية! ومنهم بعدما تمكن منه الفقر وضاقتْ في وجهه السبل شدَّ الرِّحال إلى العاصمة للوقوف مع الفقراء من أبناء بلاده في (مساطر) عمال البناء في بغداد. ولسوء الحظ كان لهم الارهابيون بالمرصاد فزلزلوا الأرض تحت أقدامهم بسيارات مفخخة وأسلحة رشاشة، لتُحمل نعوش من قضى منهم إلى مقبرة السلام في النجف ويعود الجرحى الجياع إلى الناصرية مرة أخرى! ومنهم من تطوعوا في الجيش من أجل مُرتَّبٍ يحفظ لهم آدميتهم فيتصدى لهم عتاة المهربين والمجرمين في حدود البلد السائبة بيد العصابات.
أخبرني جندي هارب من المواجهة مع المهربين في عام 2013 أي قبل هجوم داعش في عام 2014 واحتلال ثلث مساحة العراق بالدراجات النارية وسيارات الفلاحين نوع تويويتا يابانية لينهار الجيش العرمرم أمامه، ويترك أسلحته التي نهبتها فصائل البيش مركَه الكردية والفلاحون في القرى المجاورة، وكان رئيس الوزراء حيدر العبادي قَدَّرَ خسائر العراق جراء احتلال داعش بأكثر من 100 مليار دولار! ما يقدر بميزانية أربع دول مثل لبنان وإيران وسوريا والأردن ثلاث مرات على أقل تقدير!
قال الجندي
- تطوعتُ في سلك الجيش جندياً من جنود البادية على الحدود الغربية للعراق، وتم توزيعنا على نقاط الحراسة الممتدة عبر الصحراء الشاسعة الممتدة من ناحية الرمّانة على الحدود العراقية السورية إلى مدينة عكاشات الغنية بالفوسفات، وكان من المفروض أن يكون في كل نقطة من 6 إلى 8 جنود لكن الأغلبية كانوا يهربون ولا يبقى في النقطة سوى جنديين أو ثلاثة، وكان المدعو أبو حاتم وهو أحد كبار المهربين من سكان الرمادي ويملك أسطولاً من الشاحنات الكبيرة لنقل المواد الغذائية والمشروبات الروحية والمخدرات عبر حدود العراق مع الأردن وسوريا، أوقفَ على ظهر كل شاحنة حراساً مسلحين بأسلحة ثقيلة ومتوسطة ويطلقون النار عشوائياً لإخافتنا ولديهم أجهزة اتصال متطورة، ويخطب أبو حاتم خلال مروره بنقاط التفتيش في مكبرة صوت قائلاً
- عودوا إلى عوائلكم في بغداد والكوت والنجف وكربلاء والناصرية والبصرة والعمارة!
لا نريد أن نقتلكم ونحمل وزر دمائكم فنحن متفقون مع (الرؤوس الكبيرة) أي الضباط من ذوي الرتب الرفيعة على المرور من هنا وقتما نشاء ونقدر! ولنا منكم وبينكم (علّاسة) يوافونا بالأخبار وبأسماء الجنود والمراتب والضباط!
لهذا السبب كان يخاطب الضباط والمراتب بأسمائهم دون خوف أو وجل!
لا أحد في الحكومة والبرلمان يفكر في أمرنا ولا قوات جوية تحمي ظهرنا في الصحراء، فقررت أن لا أموت في حروب العراق التي لا تنتهي وتخليتُ مثل الكثيرين من الجنود عن مُرتَّبي الشهري للضابط المسؤول وعدتُ إلى الناصرية، وهناك أنهكني الفقر وأذلتني الحاجة فاستدنتُ نقوداً من الأقرباء واشتريتُ سيارة أجرة قديمة نوع سايبا إيرانية وكانت كثيرة العطل لا نفع فيها ولا خير يرجى منها ما زاد في فقري وحاجتي وشعوري بالخسران في بلدي الغني أضعافاً!
* الفصل الأخير من كتاب (الطريق إلى الناصرية)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في