الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قحابهم أكثر وجداناً من قحابنا . رواية ( تسلسل 1)

بهار رضا
(Bahar Reza)

2021 / 7 / 21
الادب والفن


الأنا التي استخدمها في كتابة هذا النص تناسبني، هي لا تعنيني شخصياً بالضرورة، ولكنها وبكل تأكيد تعني كل امرأة تسكنني ، كما إن شخصيات هذه الرواية هي من وحي خيالي، وإن وجدت في الواقع فبمحض الصدفة لاغير.
أهدي هذه السطور إلى كل امرئ حر...

’’ أصبح هذا الجسد
سجناً مظلماً مجنوناً
بين جدرانه
يشنق نفسه ألف مرّة في كل يوم
ولا يموت".
الشاعرة الأفغانية شکرية عرفاني


في ذلك اليوم الربيعي شديد البرودة، بدت الغرفة أكثر سخونة مما هي عليه حقاً، وأنا أجلس على ذلك الكرسي غير المريح تحول العالم الواسع فجأة إلى حذاء أصغر مقاساً بدرجتين، حوض من ماء أخرج منه رأسي بين الحين والآخر بحثاً عن بعض الأوكسجين، عالم فنت ألوانه، خرست جميع أصواته وظهر صوت الرجل كنفخة بوق إسرافيل حاملاً كل الشر والرعب، كان في ذلك الصوت سوط، نوع من العنف الخفي، صوت دفع غريزتي الأنثوية للاستنفار، أنا امرأة وهو رجل ليس بمسل، بل مقزز.
"أنت من بغداد، لهجتك تشير إلى ذلك".. قالها بطريقة فاجرة، تفتقر إلى الحياء خالية من أية مسحة من الجمال، بل كانت تجسد القبح بعينه،"بنت جميلة"، قالها وهو يخرج لسانه ليطوف به على شفتيه ويمتصها ويلمسها بأصابع يد بينما اليد الأخرى أشغلها بحك ما بين فخذيه، كان يبالغ في نبرته المبتذلة، صوته كان عبارة عن تنهيدات طويلة أشبه بسائل لزج كريه التصق بكل ما حولي، بثيابي، بجلدي.
لم يكون سوء تصميم الكرسي هو الأمر الوحيد الذي جعله غير مريح بالنسبة لي، بل إن الأمر يعود كذلك لعلاقتي غير الودية بالكراسي طيلة حياتي، يتملكني دائماً هاجس أن من ابتكر الكراسي إنما فعل ذلك فقط من أجل إظهار الفوقية، السلطة والقدرة، كما أرادها أيضاً وسيلة للتعذيب، فقد قرأت قبل مدة تقريراً عن تعداد الكراسي حول العالم، كان العدد التخميني مهولاً وصادماً، ما لا يقل عن عشرة كراس مقابل كل إنسان على وجه الأرض، وإذا ما سلمنا بهذا التخمين، ونحن نعرف بأن هنالك مجتمعات لاتستخدم الكراسي إطلاقاً، ونعرف بأن هنالك دول تخصص في سجونها كرسياً واحداً فقط لجلوس كل أربعة سجناء عليه معاً وهو مقلوب!، فسنستنتج بأن هنالك شعوب تفوق النسبة عندهم العشرة كراس لكل فرد، إنها شعوب تتصف بالفوقية والرخاء المفرط، وهذا دليل على إن الكرسي ليس إلا وسيلة قذرة صممه من كان يفكر بإظهار الطبقية قبل أن يفكر بالحاجة.
(بنت جميلة)، هذه الجملة كانت في الماضي لحناً يطربني، لم أتخيل يوماً بأن يكون وقعها علي ثقيلاً كوقع مطرقة عملاقة، بفعل هذه الجملة تسمرنا أنا والكرسي الذي امقته، تسمرنا ككتلة كونكريتية امتدت جذورها إلى أعمق نقطة في الأرض.
في الوقت الذي شتت انعدام الجاذبية في بقية انحاء الغرفة حواسي ، كنت أحاول أن استجمع هدوئي المتبعثر، بعثرة المواد في الفضاء الخارجي، أبحث عن الهواء الذي نفد، ادفع بيدي المرتجفتين بكرسيي الذي أصبح في ذلك الظرف، وبالرغم من ثقله ، كرسياً طيباً، أدفعه إلى الخلف فأخلق بذلك مسافة بيني وبين الرجل، أبحث عن صوتي المختبئ في أعماقي، أسحب صوتي ليصل بعد أن يقطع رحلة طويلة وشاقة كصوت ذبذبات مذياع ترانزستور يلتقط إذاعة خارجية حجبها التشويش المتعمد.. "لست بنتاً، وإنما امرأة".. كي تكون نظرتي فارغة من أية انفعالات، ركزت كل طاقتي على أنفاسي واستجمعت بقايا شجاعتي كي أنطقها، خرجت بثقة باهتة "لست بنتاً، أنا امرأة".. لم أفكر كيف كانت صورتي في ذهنه! كيف تخيلني! لم أطرح أي سؤال من هذا النوع على نفسي، ولم أشعر حتى بالإهانة، جل ما كنت أفكر فيه هو أن أحمي نفسي، أريد أن أصرخ ولكنني لم أقدم على ذلك، التزمت الصمت وَبقيت عيناي وكل جسدي في حالة استنفار، أحسست بأنني لو أغمضت عيني للحظة واحدة أو شتت طاقتي في الصراخ فربما لن أتمكن من الدفاع عن نفسي، تذكرت تلك التمارين التي كنت أجريها أثناء الولادة ( تنفسي بعمق واستجمعي قواك، لا تفرطي بمثقال من طاقتك في الصراخ، ركزي على الطلق وعند الإحساس بالوجع ادفعي بكل القوة التي جمعتيها).
أحكمت قبضتي على ما علي من ملابس، عدت لارتداء معطفي الشتوي السميك، أقفلت أزراره، خلعت الشال السميك والذي كان مغسولاً بمسحوق خال من المعطرات التي اجتنبها لفرط تحسسي منها، خلعت ذلك الشال الكبير من حول عنقي واحكمته كقماط حول ساقي اللتين كانتا محشورتين في جوارب سميكة وسروال مخملي وجزمة ذات عنق طويل، أصحبت مكبلة بذلك الشال، وهذا الأمر يقلل من فرص الهروب، لكنه سيجعل مهمة الرجل في خلع ملابسي عني مهمة ليست بسهلة، في تلك اللحظات التي كانت تتمدد فأشعر بها وكأنها الأبد، والتي لم أتمكن خلالها من استحضار ولو شيء بسيط من مشاعر الكراهية والغل، أن اصفعه مثلاً، تمنيت أن تكون لدي القدرة على التلاشي كالتي لدى الهنود الحمر وأختفي من هذا المكان الذي لم تكن لي فيه إمكانية الصراخ أو التذمر، حتى إمكانية لوم الذات كانت رفاهية معدومة، في مراهقتي كنت قد سمعتها مراراً من أسرتي عندما كنت أتعرض لبعض المضايقات كأي شابة ، بأنني لست المسؤولة عن تصرفات الآخرين ولا أتحمل وزر ما يقترفون من حماقات. في تلك اللحظة كانت عيني قد وقعت على الباب، ماذا لو أنني اتجهت نحوه؟ أفتحه وأخرج منه مسرعة بعد أن أصفع الرجل بعنف من دون النظر إلى الخلف، ولكنني أصبت بالهلع وأنا أفكر بالهروب من فكرة الاصطدام بكرسي المعوقين الذي يجلس عليه ذلك الرجل الضرير عظيم الوزن وكسري لضلع او مفصل بعد اصطدامي به كانت أكثر رعباً من فكرة فقدان عملي كمترجمة فورية في ذلك المركز، لم يكن الرجل قد وصل وحده للقاء أخصائي التغذية لتنظيم الغذاء والانسولين بل كان بصحبة أحد موظفي الدعم والذي فهمت منه لاحقاً بأن وظيفته تتمثل في منع الرجل من الاقتراب من النساء ووضع يديه على مؤخراتهن ولمس اجسادهن، قال لي الموظف بان الرجل (سعيد نساء)، وهل يستطيع الانسان أن يسعد نفسه وهو يتلمس عدم الرضا وحزن الآخر؟ أم إن أمثال هذا الرجل لا يملكون أي إحساس بالذنب؟ وحدودهم تنتهي عند رغباتهم غير عابئين بما يرفضه الآخر؟ أنهيت وظيفتي مع الرجل دون أن أعرف إن كنت قد أتممتها على وجه الدقة أم أنني قد تركت بعض الجمل معلقة لانشغالي. خرجت مسرعة إلى حيث الغيوم ونتوف الثلج حيث يولد الصمت الناطق.
في ذلك اليوم وبعد عودتي إلى المنزل أعددت طعاماً مستخدمة فيه كل المطيبات، الكثير من اليانسون النجمي والكثير من عيدان القرفة والزعفران والقرنفل والهيل، غسلت أرضية البيت رغم إنها كانت نظيفة ، لمعتها حتى أصبحت جديرة حقاً بأن تكون مادة إعلانية تروج لمنظف جديد، اغتسلت ونزعت جلدي الذي تدنس بلمسة ذلك الرجل الضرير كبير الحجم الذي كان يجلس على الكرسي المتحرك، اغتسلت قبل أن أدخل إلى الفراش مع طفلتي، كنت بحاجة للالتصاق بجسد كان يسكنني يوماً ما ، جسد أعرفه، جسد أحبه، تركت مسامعي تصغي لصوت أنفاس طفلتي، وسرعان ما انتظمت أنفاسي على نسق أنفاسها، ونمت نوماً دون قلق.
وأنا في فراشي وقبل أن أخلد إلى النوم العميق راودتني أسئلة كثيرة! ماذا لو كان الرجل وسيماً؟ شاباً أنيق المظهر أو كما تتحدث عنه صديقاتي وزميلاتي بشهوة رجلاً بعضلات كبيرة وبعض الوشم؟ ماذا لو كان الرجل ثرياً يجلس على كرسي إدارة شركة عملاقة؟.
( يتبع )








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الحكي سوري- رحلة شاب من سجون سوريا إلى صالات السينما الفرنسي


.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع




.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج