الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن اللغة الإبداعية في الشعر والتوليد

سناء فهد هلال

2021 / 7 / 25
الادب والفن


من العسير الوصول إلى تصور ناجز وثابت عن اللغة الإبداعية شعرا، لا بل إن القبض على تصور ثابت ونهائي لهو التعسف بعينه والتجني بعينه والنقيض لطفرة الإبداع بوصفه ابتكار ونزوع عن السكون وولادة دائمة ومغادرة مستمرة خارج المألوف ومغايرة لما هو قارٌ ومدرَك مسبقا فلا يكاد يتصل بما سبقه إلا اتصالا رؤيويا فيما يخص الأفكار والمضامين على اختلاف الأشكال الشعرية المقدمة إلا أنني سأتطرق إلى الجانب القيمي والحسي والمعرفي الذي نستولده من اللغة في طور تخلّق اللغة الشعرية وإلى مدى القدرة على تطويعها لأجل نص أو محتوى أو دفق شعوري نستطيع من خلاله استدراجها إلى حيث تضيء على أحوالنا وهواجسنا وأفكارنا.
إن القول أن العربية صحراء جافة وغير مولدة للمعاني قول انفعالي وجائر فلو لم يكن هذا التوليد والاجتراح والاستنطاق والاستفزاز والانزياح للكلمات الجامدة الملقاة على صفحات المعاجم ممكنا لرفعت الأقلام ونضب الكلام عبر مئات السنين من التداول والأعمال والكتب الشعرية والمضامين المتشابهة.
إذا أين يكمن الخلل في تعاطي لغة الشعر ولماذا لا ترقى كلها إلى منزلة الإبداع؟
إنها على (سبيل المثال لا الحصر) في الكثير من المقروء المستنفذ لطاقته والخامل في اجتراح هويته، الذي لا يستدرجنا إلى خصوصيته وفردوسه ولا يبلغنا وجدانيا وشعوريا كأن يولد النص مشتتا عقيم الفكرة، أو مهيض الأجنحة مكتفيا بالسائد والواضح من منطق الأشياء وتراتبية التفكير ، أو حياديا منزوع الفتيل يتيم الهوى (الميول والأهواء) شأنه شأن العلاقات الرياضية الجافة والمستقرة ،أو كسيح الخيال مقصوص الشغف عاقا لتجليات الشعر عقوق الإبداع لغالبية متمرسي اللغة وأكاديمييها الذين يرتكبون الكتابة ظنا منهم أنهم امتلكوا ناصية الكلمة وتحولاتها ومداراتها ،أو أن يكون مجافيا لتحرر الأفكار التي لا تحتمل الزجر والنهي والتطرف والكِبر ناهيك عن افتقاره للطلاوة والصور الحارة والرؤى والتأويل المتعدد والحس الفطري تجاه الأشياء والمعاني ومكونات الحياة، أو أن يقع النص في المحظور فيأتي سافرا سفور الخطاب المباشر أو متخشبا مستسلما لقواعد النحو والصرف الصارمة، أو حتى مجسدا للواقع تجسيدا منطقيا ساكنا دون ملمح خلّاق أو نماء أو نفحة وجودية أوتوهج شعوري وعلى ما سبق علينا ألا نستغرب كيف يخرج علينا نص خاو خواء الزرع من الثمر وجاف جفاف النهر من طور الماء وفي المقابل يتملكنا نص آخر ويتلبسنا بكل أبهة الشعر وإشراقاته و سحره المكنون.
مثل هذه الانطباعات التي تتسلل خفية إلى القارئ النوعي لا يمكن وضع اليد صراحة عليها لأن الكتابة الأدبية (لا سيما الشعر ) ليست عملية رياضية أو قياسية أو ذهنية بقدر ما هي كيمياء بشرية متفردة تمسك بأيدي الأدوات في مختبر النفس والسريرة وتقودها إلى التسامي في سماء النص ولا تكتفي بموائمة العناصر الفنية والانقياد لها ولعلائقها المستقرة. إن العملية الإبداعية أشبه بشيفرة ذات ذبذبات ممغنطة تنتقل عبر تيار وجداني وتفاعلي يُحَس ويُستخلَص و يتسرب عبر القراءة الكلية ومدى الانشغال والشغف بالنص ليشكل تصورا ينتمي في نهاية المطاف إلى القول المتغضن الجاف أو إلى الكلام الحي النبات، إلى الكهرباء المنطقية الساكنة أو إلى الكهرباء السارية المولدة.
مثل هذه النصوص الساكتة والأسلوبية ذات الكعب القصير لا تشفع لها دوافع البوح والتحقق على بلاط الشعر ولا مواقع الريادة والفصاحة والتمكن والتسيد اللغوي ولا ترفع من قامتها كراسي النعمة وإعلام الغفلة ولا تدخل فردوس الشعر عبر مغازلة المفاهيم القارة في الذاكرة الجمعية المسنودة إلى بنى اجتماعية وأحكام تاريخية أكل الدهر عليها وشرب، وغير معفاة من تهمة الركود والتناول الجائر وضحالة الأفق وامتهان الشعر عبر بقائه في دوامة اللفظ المستهلك الواقف عند حدود الظواهر الصوتية اللغوية والتطريب والانضباط وفق إشكاليات التجنيس الأدبي واقتصارها على القشور المعرفية أو حتى الأحاسيس المجانية المبعثرة المغلقة على ذاتها و غير المولدة والمحرضة لأقطاب التلقي والفاقدة بالضرورة لأساسيات المنتج الأدبي المتجدد والمبتكر .
إن النص الشعري الذي يبنى بناء وظيفيا ولغويا سليما والذي ينهل من الأدوات والقوالب ويتمترس في أتون المعنى الجامد يبقى قاصرا ما لم يطوع اللغة ويأخذ بتوليفة الكلام المعتمِد على أقطاب كثيرة قد تتجاذب أو تتنافر فيما بينها، وما لم يزاوج بين الشعرية وأساليب الربط و الصياغة المقرونة بالأفكار والمشحونة بالعاطفة والمدفوعة برغبة الانعتاق والانتصار لأقانيم الجمال وبالشعور الإنساني العميق المتفرد والخلاق، هو النص الثري صرفيا والفقير جماليا المحتكم إلى مرجعيات وتوافقات من خارجه والذاهب نحو الفائض من المشاهدات البصرية والمخفق في إذابة الجليد بين اللغة والشعور الجواني المتواري، والزاحف نحو بوابة الشعر بالصور المجردة النمطية والاعتيادية البعيدة كل البعد عن التخلق وتقصي الطارئ أو المهجور والغائم في النفس ، التخلق الذي هو نفسه الإبداع في تجلياته النفسية والروحية والمحرك الأساسي في توليد المعنى و تطويع اللغة وتشذيبها واستنطاقها وتقويلها ذواتنا عبر اكتشاف لحظاتنا اللصيقة بألمها وفرحها، شغبها وضجرها، مواقفنا وآرائنا، أحلامنا وخيباتنا وذلك التحليق والعلو يرتبط ارتباطا صميميا بالفهم الحسي والمعرفي والنفسي للشعر عموما بوصفه ثقافة بذاتها ونمط تفكير وسلوكا وخلاصة رأي حر ورهافة روح ونهج حياة، كما يرتهن للوعي بالمفردة وبحرارتها وطاقتها الكامنة ورسالتها وقدرتها الإشعاعية خصوصا ولمصفوفة الكلمات في تواشج مدلولاتها وانزياحاتها واقترانها بالتلقف القيمي الواعي للمعاني وبالدفق الشعوري اللاواعي لتيارات العاطفة وأصدائها، ففي سماء الشعر تبقى المفردات غيمة جافة حتى نستمطرها بانفعالاتنا وأخيلتنا وخلجاتنا ونمضي باتجاه هدمها واقترانها بعلائق نوعية جديدة كل الجدة فيما بينها أو بين مجالها المشع واستخداماتنا المجدية لها دون التعدي على كينونتها وإمكانياتها بقسرها ودفعها نحو مصائر فاجرة تفوق طيفها كي لا تتورم في النص وتفقد حيويتها وتأثيرها في النفس والذائقة وهذا يعتمد كل الاعتماد على خلفية الكاتب الثقافية العارفة وعلى نضجه الروحي وموهبته وكنه سريرته الشاعرة و إحساسه العميق بذاته أولا و تجاه الأشياء والكون ثانيا وعبر مسباره الخاص وزاويته التي ينظر من خلالها إلى الحياة ليتشكل عبر هذه البانوراما لمحا يخطر كرفة قلب أو خفقة جناح، لمحا أشبه بسيالة ترشف من دم اللحظة الحميمة وتتكاثف فوق سحابة الكلام و تتمايز عبر الانخطاف والانشداه الشعوري نحو لحظات مهجورة لا نزورها في حياتنا اليومية، تلك اللحظات التي تأتلق عبر هيولى الروح الأثيرية في جوانية الشاعر لتغدو الصياغات هيام والمعاني نشوانة بلذة الخلق وإطلاق اللغة من غلالتها بالمجاز والانزياحات والتناقضات والصور المبتكرة و بالرمز و التضاد والتقابل والتجسيد والتمثيل والاستعارات وإلى ما هنالك من الانتهاكات المشروعة للغزو الجمالي والحسي المكنون في النص وصولا إلى القارئ المنصت لينفذ الشعور السهمي التشاركي ويتفوق على قامة الكلمات ويتسامى إلى فضاءات ممتلئة بالتحول والنشوة الروحية والخصب ، الخصب الذي يفوق تربة النص الساكنة ومناخه الظاهري من خلال سطوع المعنى المضمر والتأويل واستشفاف المضامين البسيطة المغفلة والأفكار المهمشة التي يعيد الشاعر إنتاجها ودوزنتها عبر أنساق كاشفة تستحضر الغائب وتجلو الغامض وتتفجر بالمعاني الإنسانية التي تحفل بالدهشة والصدق والعفوية والتي يكتمل ألقها بالفكرة والمعنى المنشود الذي يصلنا كخمرة ننتشي بها وترفعنا إلى برزخ من اللطافة والجمال والرقة والعذوبة والفيض الروحي العارم وهنا في هذه المرحلة المتقدمة ندرك سبب تماهينا مع نص دون الآخر لا سيما أن القارئ المتذوق واليقظ لا يخفى عليه الإقحام و الابتذال والافتعال والمواربة اللفظية وجمود الكلام وخفوت المعاني في الكثير من العلائق اللغوية حين تعتمد على الكلام المسفوح والشذوذ و الهذر وعلى الرمز المبهم والغرائبي في قصيدة النثر مثلا أو على المزاوجة الشكلية للكلمات المرصوصة وفق المقتضيات البنائية والفنية وجنوحها للتطريب في القصيدة العمودية فيما يشبه مكننة اللغة وتعليبها في مسارات لا تنبع من أعماق المشهد وطلاقة المعنى وعفويته فلا تنتمي إليه إلا خارجا وتأخذنا تلقائيا إلى الصنعة الفاضحة التي تعجز عن التأثير أو التجديد او الامتاع والدهشة ما دامت مصاهرة لفظية ظاهرية لا تتأتى من معان ملامسة للجوهر الانساني ولجبلة العاطفة وليست ثرية في توجيه دفة الانزياحات التي هي مَلكة الشاعر الأولى و غير مشغولة باستيلاد الخلاصات والمعاني ولا معنية بوحدة الذات الشاعرة مع القصيدة وتمثلها الحقيقي والحر في وحدة عضوية بين الشاعر ونصه، وحدة لا مساس بها لتسمو بالشعر الذي وإن أورق و اكتسى بالكثير من فنون الكلام إلا أن جذره عار عري الحقائق الأولى والفطرة الأولى والدهشة الأولى و نسغه ممتلئ باللذة والتمتع بالعودة إلى اللحظة البدئية المغامرة والمشاكسة ،لحظة الهيولى واللامنطق أو قيد أو يقين، لحظة الاكتشاف الأول والانفعال الطفولي الأول والزمان والمكان المفقودين والطافيين بين ضفتي الخيال والتأويل، لحظة قوامها الانبثاق والإشعاع وعرابها الشعور الصادق الذي لا يحتمل تدليسا أو مواربة أو مكابرة.
فيما تتسارع عجلة الحياة وتتغير مفاهيم العصر تتغافل بل لا تكترث فئات كثيرة بالحداثة ومواكبة روح إنسان العصر وفكره عبر نصوص ملقاة على كاهل الشعر .نصوص تحتفي بالرتابة والنظم وتمضي في تحولها إلى الملموس المستهلك والقول المهذار الذي لم يعد يغري و يستولي على ذائقة إنسان العصر الراهن الذي أصابه السأم من الحشد والتنظير و تكريس المفاهيم القيمية الجوفاء ومنظومات التفكير المتكئة على الافتخار والأمجاد و الغنائيات والمرثيات والتجهيل وتقزيم الفرد في إطار الجماعة وتدجينه بالشعارات والأعراف والتبعية والأحكام القسرية. ،منظومات أقل ما يقال عنها أنها لا تشبهه و لا تنتمي لتطلعاته ولا تمثل روحه المتوثبة للكشف والتجاوز و التحرر حيث بات يسعى إلى التفلت من الماضي والنمطية والحتمية والقوالب والخطابات والأدلجة والقول الحسم ليكون أكثر إصغاء لروحه والتصاقا بإنسانيته وإدراكا لذاته المغيبة والمقيدة في آن.
إن الاقتراب من اللغة الإبداعية الشعرية سفر شائك محفوف بالمعرفة ينهل من الإحساس العميق بالموجودات ومفردات الحياة وهو موهبة تتجلى فيها السمة الإبداعية وتتجوهر وتشف لتبلغ أسمى درجاتها حين تنصاع لها اللغة وظيفيا وفنيا وليس العكس.
إن اللغة الإبداعية أشبه بالنحت في الفلزات الداخلية المكونة للطين الإنساني وإبصار في الأعماق المظلمة لاستجلاء ماهية الأرواح وتحصل الإكسير القليل منها واستنهاض التشاركية الفاعلة مع القارئ كما لو أنها استبدال للأماكن بينهما في الجانب التخييلي والتجارب المعاشة، إنها لغة كونية منفتحة ومتخفية في آن واحد تعبر كالطيف من الفردي إلى الكلي الجامع ومن الشخصي إلى الكوني بعيدا عن الأنا بشقها المرضي.لغة عرابها في النص( أنا أو أنت أو كلنا أو أحدنا) ، إنها رحلة في المجهول بدءا من مخاض التشكل والأخيلة الناهضة في المدى المجدي للكلمة مرورا بالنمو الروحي للعاطفة وليس انتهاء بالاحتفاء بالجمال و بلطافة الطاقة المؤنسنة للحياة و الناطقة بروح الأدب والمتنسمة هواءه المنعش.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي