الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأرقام والواقع: هل الرياضيات هي كل شيء؟

يحيى البوبلي

2021 / 7 / 29
الطب , والعلوم


عندما أكمل ألبرت أينشتين نظرية النسبية العامة عام 1915، وجد من خلال تأمل معادلاته أنها تشير إلى أن الكون يتمدد. حينها لم يصدق أينشتين أن الكون يمكن أن يتمدد أو يتقلص، فأهمل ما قالته له المعادلات. بعد حوالي عقد من الزمن، وجد إدوين هابل وعلماء آخرون أدلة قاطعة على أن الكون يتمدد بالفعل. لقد فوّت أينشتين الفرصة لما كان يمكن أن يكون أهم تنبؤ في تاريخ العلم!

كيف "عرفت" معادلات أينشتين أن الكون يتمدد بينما هو لم يدرك ذلك؟ إن كانت الرياضيات مجرد اختراع من اختراعات العقل البشري، كيف يمكن أن تتمخض عن أي شيء أبعد مما نغذّيها من مدخلات؟ لا تزال بصيرة الرياضيات قادرة على إبهارنا حتى يومنا هذا. في مصادم الهادرون الكبير في سيرن في سويسرا، لاحظ علماء الفيزياء مؤخراً دلائل على وجود جسيم تم اكتشافه عام 1964 من قبل العالم بيتر هيغز، كامناً في معادلات تخص الجسيمات ما دون الذرية. كيف من الممكن أن تعرف الرياضيات عن جسيمات هيغز أو عن أي شيء في الواقع المادي؟ ربما لأن الرياضيات هي الواقع، كما يرى العالم بريان غرين من جامعة كولومبيا في نيويورك. ربما لو بحثنا بعمق كافٍ، سنجد أن الأجسام المادية كالطاولة أو الكرسي ليست مكونة من جسيمات أو أوتار، ولكن من أرقام. وربما يصح أن نقول إن الكون بأكمله مكون من الرياضيات وليس المادة.
بالتأكيد إنه من الصعوبة بمكان أن نفهم تماماً ما نعنيه عند قولنا إن الكون مكون من الرياضيات. ممكن أن نبدأ بسؤالنا مم تتكون الرياضيات. يقول عالم الفيزياء جون ويلر إن أساس كل الرياضيات هو 0=0، مشيراً لفكرة أن كل التراكيب الرياضية يمكن اشتقاقها من شيء يسمى المجموعة الخالية، المجموعة التي لا تحتوي على عناصر. قم بملء اللا شيء وستظهر الرياضيات كلها شيئاً فشيئاً. قد يكون هذا مفتاح حل لغز الوجود؛ في نهاية الأمر إن كوناً مصنوعاً من لا شيء لا يحتاج تفسيراً. إن التراكيب الرياضية لا تتطلب أصلاً مادياً على الإطلاق، إنها موجودة بشكل مستقل عن الزمان والمكان، بل إن الزمان والمكان محتويان ضمن البنى الرياضية الموجودة ببساطة؛ لا يمكن إنشاؤها ولا يمكن تدميرها.

وهذا يطرح سؤالاً أكبر: لماذا يتكون الكون من بعض الرياضيات المتاحة فقط؟ هناك جزء بسيط جداً من الرياضيات له علاقة بالعالم المادي. خذ أي كتاب رياضيات وستجد أن معظم المعادلات فيه لا ترتبط بأي جسم مادي أو عملية مادية. من الصحيح أن الرياضيات التي تبدو غامضة ولا مادية يكتشف أنها ترتبط أحياناً بالعالم الحقيقي. على سبيل المثال، الأرقام التخيلية (الجذور التربيعية للأعداد السالبة) كانت في الماضي اسماً على مسمى، لكنها الآن تستخدم لوصف سلوك الجسيمات الأساسية. مثال آخر، الهندسة اللا إقليدية التي ظهرت أخيراً في الجاذبية. على الرغم من ذلك، لا تزال هذه الظواهر تمثل قدراً يسيراً من كل الرياضيات الموجودة.

ماذا عن الرياضيات التي لا يستخدمها كوننا؟ يعتقد الفيزيائي ماكس تيغمارك من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا أن التراكيب الرياضية غير الموجود في كوننا توجد في أكوان أخرى، ويسمي هذه الظاهرة "الكون المتعدد المستوى 4" وهي أكثر غرابة من الأكوان المتعددة التي يناقشها الفيزيائيون في العادة. الأكوان المتعددة "العادية" تخضع لنفس قوانين الرياضيات التي يخضع كوننا لها بينما الكون المتعدد المستوى 4 يعمل بقوانين مختلفة تماماً.
كل هذا يبدو غريباً لكن فرضية أن الواقع المادي هو في الأصل رياضيات قد اجتازت كل الاختبارات. لو حصل واصطدمت الفيزياء بحاجز وأصبح من المستحيل لها أن تتقدم، لقلنا وقتها إنه لا يمكن تصور الطبيعة رياضياً. ولكن هذا لم يحصل. غاليليو قال إن كتاب الطبيعة قد كتب بلغة الرياضيات. كان هذا قبل 400 سنة.

لو لم يكن الواقع في أصله رياضيات، إذن ما هو؟ ربما في يوم من الأيام سنصادف حضارة من الفضاء الخارجي ونريهم ما قد اكتشفناه عن الكون. سيقولون: "آه، إنها الرياضيات، لقد جربناها، لن تأخذكم بعيداً. هذا هو الحل الحقيقي". الحل الحقيقي، ماذا عساه يكون؟ من الصعب تخيل ذلك. فهمنا للواقع حولنا لا زال في مراحله المبكرة.

من السهل الشعور بالضآلة والضعف عندما نواجه هول الواقع من حولنا. لقد مرت هذه التجربة على البشر بشكل متكرر، فالذي ظنناه في البداية كل شيء كان مجرد جزء صغير في بناء أضخم: كوكبنا، مجموعتنا الشمسية، مجرتنا، كوننا، وربما الأكوان المتوازية. من ناحية أخرى، يدعو هذا الأمر للتفاؤل؛ حيث يدل على قوة العقل البشري وقدرته على فهم هذا كله. لقد عاش أسلافنا بين أحضان هذه الطبيعة وكان لديهم متسع من الوقت ليفكروا بالسماء التي فوقهم ومن أين جاء كل ما حولهم. اختلقوا قصصاً وخرافات جميلة، لكنهم امتلكوا بكل تأكيد عقولاً مثل عقولنا، وكانت هذه العقول قادرة على الوصول إلى إجابات منذ البداية. ليس من الضروري أن نسافر للفضاء كي نفهم، بل إن السر يكمن في تحرير العقل. يحلق الخيال البشري لفك شيفرات وحل ألغاز الكون، يتم هذا بقوة العقل وليس بقوة الصواريخ.


المراجع:
1. How numbers work: Discover the strange and beautiful world of mathematics
2. Our mathematical universe: My quest for the ultimate nature of reality, Max Tegmark








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في تشيلي.. صحراء أتاكاما مكب نفايات للملابس العالمية!! • فرا


.. عودة خدمات الإنترنت الثابت إلى مناطق وسط وجنوب قطاع غزة




.. مراسل العربية: احتجاجات بمدرسة العلوم السياسية في باريس تندي


.. -ممرّ السرطان-.. ولاية لويزيانا، عاصمة التلوث الصناعي في الو




.. خرائط غوغل… قصّة سويسرية