الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية: هموم الشباب _ عبد الرحمن بدوي وخطاب التنوير

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

2021 / 7 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


استمرت الرواية العربية في دورها التنويري لتحديث المجتمع العربي، ومن الروايات التي تناولت التنوير كطريق حضاري لتحديث المجتمع العربي رواية " هموم الشباب " للفيلسوف عبد الرحمن بدوي، إنه أيضاً يلجأ إلى الشكل الروائي لطرح أفكاره حول حداثة الوطن العربي. لكن الرواية العربية كانت قد تأسست في الأدب العربي، وأصبح يمكن لفيلسوف أن ينتج رواية فنية يضمنها مقالاً تنويرياً. يقول خالد في رواية عادل كامل " مليم الأكبر": " فما أنا إلا صريع الجيل الذي ولدت فيه "، الجيل الذي تألم من تخلف بلاده بعد اطلاعه على فكر الحداثة الأوروبية. لكن نتيجة ظروفه الخاصة، وظروف البلاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أخفق في انجاز ثورته. وبطل رواية عبد الرحمن بدوي " هموم الشباب " لا يختلف عن خالد، فهو يقول عن جيله " نحن جيل من الشباب ألقى بنا المجهول الى عالم غريب "، جيل بلا هوية لأنه " لم يبق من تراثنا العتيق العريق _ الفرعوني _ إلا أشلاء صامتة بعدت الصلة بينها وبين نفوسنا منذ آلاف السنين، فلم تعد غير آثار رمزية لا تثير في النفوس غير ذكريات باهتة ونداءات خفية لا يكاد يسمعها أحد، والتراث الروحي الآخر _ الإسلامي _ الذي اتخذناه لأنفسنا منذ أكثر من ألف عام قد تضاءل أثره وصار طائفة من الأساطير الفقيرة والعادات الزائفة والعقائد الشاحبة التي غادرها الدم فلم تعد تتردد فيها حياة، ولقد أنبت الحبل بينها وبين العصر منذ عهد بعيد فلم تساير التطور العام، لهذا تبدت هزلية تثير السخرية والابتسام العريض حين غمرنا فجأة بذلك الفيض من النور الهائل الذي قذفنا به ذلك البطل الكورسيكي الجبار _ نابليون " (ص135). هذا الجيل الذي نشأ في مجتمع متخلف وتابع، في حالة من العدم الروحي والمادي، أراد أن يعيش تجربته، فعاش بعقله محن الشباب الأوروبي وعاناها روحياً، ثم زودها بتجاربه الأليمة، فتكونت في نفوسه قنابل هائلة من الثورة والقلق والبلبال الروحي والاضطراب النفسي، لأنه تعلق بالأفكار الحادة الخطرة الشاذة التي تتسم بالطرافة والغرابة مادياً وروحياً: جيل، في السياسة ترك أفكار الثورة الفرنسية للشيوخ من أبناء الوطن.. في الاجتماع ترك فكرة تحرير المرأة كشيء فرغ منه.. في الاقتصاد اهتم بالناحية السياسية من المذاهب الاقتصادية.. في الأدب أهمل النوع الكلاسيكي _ الأدب اليوناني الخالد.. في الفن لم يكن هناك من الأصالة ما يسمح بالتوقف عند ناحية معينة، فحار تتجاذبه التيارات المتباعدة.. وأخيراً في الدين حار الحيرة الكبرى " ففريق أمعن في التجديف والإلحاد حتى لم يكد يبقى على شيء متأثراً خصوصا بفولتير وعصر التنوير ثم برينان واشتروس، وخاضعاً لعوامل أجنبية أخرى من ماركسية ووثنية فكرية وحضارية، وفريق تمسك بالدين وغالى الى أبعد حد، محاولاً العود إلى الدين في صفائه الأول، متأثراً خصوصاً بنزعات التجديد التي شغلت العالم العربي في أواخر القرن الماضي (التاسع عشر) أو عائداً مباشرة إلى الكتاب والسنة مستمداً منها كل شيء بلا واسطة من تفسيرات ومذهب، وفريق توسط بين الطرفين المتباعدين ولهذا هو فريق لا لون له ولا طعم " (ص136). وفي هذه المعركة لم يستطع جيل رواية " هموم الشباب " أن يثبت شخصيته، فلا الفريق الأول استطاع أن يكون مذهباً جديداً فيه عوض عن المذهب القديم أو يشيع فيه إيماناً يحل محل الإيمان الموروث، ولا الفريق الثاني استطاع أن يوفق بين مطالب الدين ومطالب العصر، ولم يولد روحاً جديدة تستطيع أن تسكن ثائرة الشكوك التي تعصف بعقل كل شاب مفكر حر في مطلع شبابه.. وهكذا وجد هذا الجيل نفسه ضائعاً في متاهات الأوضاع الجديدة والأفكار الطريفة: سياسياً ضاع بين الشيوعية والنازية، اجتماعياً ضاع بين فرويد ولورنس وهكسلي والعودة الى المجتمع الأبوي، اقتصادياً ضاع بين سان سيمون وفورييه وماركس وسوريل، أدبياً ضاع بين الرومانتيكية والرمزية والسوريالية، وفنياً ضاع بين النزعات العصرية المتطرفة. جيل بعيد كل البعد عن هويته القومية، وغارق كلياً في حضارة الغرب.
هذه هي خصائص جيل رواية " هموم الشباب " الذي ولد بين عام 1910 و1920، هذا الجيل الذي وجد أن إيجاد حضارة عربية جديدة إنما يقع عليه. وهو، كجيل، لم يرض أن يكون وسيطاً بين حضارة محتضرة وحضارة جديدة كما حدث من قبل في دور الحضارة العربية الوسيطة، بل أراد أن يكون خالقاً لتلك الحضارة لا متمثلاً ولا ناقلاً. وكان لا بد له من العمل، فقد سئم من تكرار الأقوال وآمن " إن الفعل هو الدليل الوحيد على الحياة الحقيقية " (ص42)، وأنه " لا شيء أقتل للأمل وروح العمل من ألا تتجسد الآمال والأفكار أشخاصاً حقيقيين واقعيين أحياء " (ص135). ولذلك قرر أبطال رواية " هموم الشباب " وهم أربعة: ضابط وفنان ومفكر وعالم " الانتقال تواً إلى العمل الايجابي الحاسم والسريع " (ص45) بالالتجاء الى رجل وطني ذو خبرة سياسية ليقود ثورتهم. ومع الرجل الكبير نتعرف على ملامح جيل آخر، جيل كان يؤمن بنيتشه وإنسانه الأعلى، كان يؤمن بالتطور، وبالنزعة التنويرية في الدين، وبالعلم والصناعة. ويتساءل ذلك الرجل " أما اليوم فماذا يتبين لي ولمن ينتسب إلى جيلي من وراء هذه الأحلام العريضة؟ لم يتبين غير إننا كنا واهمين مساكين " (ص163). هذا الرجل الكبير الخائب أصبح يرى أن " أنبل عمل يأتيه _ المرء _ هو أن يقضي على نفسه بنفسه بواسطة فعل حر إرادي يترك له الذكر الطيب _ الثورة " (ص161). ولكن ثورتهم تفشل رغم أنهم تجاوزا قيمهم الارستقراطية واقتربوا من روح " العصر الحديث بما تقتضيه من إشراك للجماعات والشعوب في كل أمر يقوم به فرد " (ص151). فقد كان بطل الرواية (الراوي) على علاقة مع إحدى بنات الهوى (سرفناز) التي كشفت أمر الشباب وثورتهم للإنكليز، ونقلت إليه مرض السل.
إن مجتمع رواية " هموم الشباب " بلا مستقبل، ولذلك فان شبابه يبدون ضائعين مثل الشباب الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن كان لدى الشباب الأوروبي تراث روحي خصب يستطيع أن يعمر نفوسهم الخربة وأرواحهم المنهارة (ص134)، أما الشباب العربي فقد أصبح ماضيهم بدون حياة، وحاضرهم " تحت تأثير الغاصبين من كل ملة " (ص134). ورغم ذلك فقد كان لدى الشباب العربي طموح لإيجاد حضارة عربية جديدة خالقين لها لا متمثلين أو ناقلين لحضارة أخرى. والمقال الفكري لرواية " هموم الشباب " يتجه من أجل إيجاد تلك الحضارة الجديدة، بعد أن رفض التراث العربي وحضارة الغرب المعاصرة، إلى أفكار عصر الأنوار من أجل خلق إنسان حر، قادر على استخدام عقله بشجاعة ليخرج من حالة القصور، حالة القصور هذه التي كانت خلف فشل ثورتهم، وجمود المجتمع العربي. ويحدد عبد الرحمن بدوي حالة المجتمع العربي من خلال تحديد رؤيته حول الموسيقى الاسبانية والموسيقى العربية " الموسيقى الاسبانية تعود في شيء منها إلى أصول الموسيقى العربية في العصر الوسيط، بيد أنها استطاعت بفعل قواها الخاصة الخالقة أن تتطور وتنمو حتى ترتفع إلى المستوى الذي نشاهدها عليه اليوم، مستعينة في هذا بروافد عدة صبت فيها من أوروبا ومن المستعمرات الأمريكية. أما موسيقانا العربية فقد تصلبت في قالبها الذي اتخذته في القرون الوسطى ووقفت عنده، وجئنا نحن المحدثين فلم نستطع أن نأخذ بيدها من حيث وقفت، ولا أن نستوحي الموسيقى الأوروبية في آخر مراحل تطورها.. وتحت تأثير هذا التردد العاجز هلكنا كما هلك حمار بوريدان " (ص11). وحالة المجتمع العربي كحالة موسيقاه، بفعل التردد العاجز هلك كما هلك حمار بوريدان. ومن أجل خروج الشباب العربي من حالة التردد العاجز، من حالة العدم الروحي والمادي لا بد من العودة إلى أفكار عصر الأنوار الأوروبي التي تركها ذلك الجيل (أفكار الثورة الفرنسية) في السياسة والاقتصاد والاجتماع.. (ص136، 140)، وإنتاج عصر أنوار عربي حديث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو