الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينة الرياح وأساطير البحر

سعد محمد موسى

2021 / 7 / 30
الادب والفن


الجزء الثالث
بعد معايشتي عن كثب لطقوس موسيقى الگناوة وحلقاتها في مدينة مراكش القديمة أرتأيت أن أزور بعدها، مدينة الرياح والقلاع والحصون التأريخية والنوارس لؤلؤة المغرب (الصويرة) أو (موگادرو) أسمها التأريخي الاول حين أسسها الفينيقيون في القرن السابع قبل الميلاد وجعلوا منها ميناء ومركز تجاري، تلك المدينة التي يمتهن أغلب أهلها مهنتيّ الصيد وصناعة العرعار.
إنها عاصمة الموسيقى الگناوية في العالم والحضرة الروحية لهذا التراث الموسيقى والتي تضم ضريح الولي (سيدي بلال) الذي يعد المرجع الاعظم والمقام الروحي الاعلى للگناوة، ومن داخل الزاوية في ضريح الولي كان يقام الاحتفال والطقس السنوي الموسيقي لتلك الطائفة، ومن قدسية هذه المناسبة نظم مهرجان تخطى حدود المغرب وقارة أفريقيا حتى استقطب عدةّ بلدان حول العالم في مهرجان سنوي بعنوان ( گناوة وموسيقى العالم).
زرت تلك المدينة الساحلية الساحرة التي تقع على المحيط الاطلسي مرتين مرة كانت مع زوجتي التي أعجبت كثيراً بسحر موگادروا وبعمقها التأريخي ومتعة تسوق التحفيات الفنية من دكاكينها الملونة، والمرة الاخرى مع الصديق (خالد بو زاهر) في صيف عام 2018 وبصحبة الصديق الآخر (توفيق بو زاهر) الذي كان يقود سيارته بنا من مراكش الى مدينة الصويرة الواقعة على مسافة 170 كم جنوباً، قطعنا طريقاً تنتشر حوله أشجار الارگان ويعتبر جنوب المغرب موطنه الوحيد في العالم، بينما الماعز المشاكس كان يتسلق تلك الاشجار العفصية ويمضغ بثمارها والمزارعون منشغلون بقطف وتجميع تلك الثمار التي تنتج الزيت النادر بعد تنظيفه وتقشيره وعصره انه ذهب المغرب السائل.
وعلى مشارف مدينة الصويرة في بلدة (أوناغة) توقفنا أمام إحدى تعاونيات انتاج وتسویق زيت الارگان وتحضیر مربى (إملو) المكون من مزيج العسل واللوز المطحون بزيت الارگان والمعبأ ببرطمانات زجاجية، ثم قدم لنا المسؤول عن الجمعية دعوة لمشاهدة عملية تحضير الزيت في معصرة كانت تقع خلف التعاونية وكانت هنالك بضعة قرويات منشغلات بعملهن الدؤوب ما بين تكسير وتقشير ثمار الارگان وعصر اللب فی مطاحن يديوية حجرية تقليدية.
الصويرة مدينة الفنون أضافة لشهرتها في إستقبال المهرجان السنوي الشهير (گناوة وموسيقى العالم) فهنالك أيضا يقام مهرجان الموسيقى الكلاسيكية ومهرجان (جذور) الذي يحتفي بالموسيقى الصوفية ومهرجان (الجاز تحت الارگان) ومهرجان الاندلسيات الاطلسية الكرنفال المشترك الذي يجسد التآخي والحوار والتأريخ المشترك ما بين المسلمين واليهود في الصويرة.
وحتى للفنون التشكيلية كان لها حضورها ومعارضها وقاعات العرض في نشاطات متواصلة، إنها مدينة الفنون المتجذرة في التنوع الثقافي وقد تضمنت في قائمة التراث الانساني في منظمة اليونسكو وأستقطبت الكثير من الفنانيين لما تتمتع به أيضاً من جمال الطبيعة التي تجمع هارمونية اللون الازرق بتناغماته ما بين السماء والبحر فوق الرمال البيضاء التي شيدت عليها مدينة تأريخية عريقة يحيط بها الاطلسي من ثلاث جهات إنها مدينة الدهشة أو المدينة الفاضلة التي يبحث عنها الفنانون والشعراء.
أختار الفنانون التشكيليين المغاربة بالمشاركة مع فنانيين أخرين من بلدان أخرى أن يقيموا مهرجانهم السنوي تحت عنوان (من القلب الى القلب) في تجمع فني استقطبت الابداعات الفنية من رسم ونحت وطباعة وفخار وحفر على سطوح المعادن والاخشاب ومصوغات وعرضها في المدينة.
تعج المدينة الصغيرة بعشاق الفن والموسيقى ومن سواح قادمين من بلدان عدة يصطافون في أزقتها الضيقة الملتوية لا سيما في أحياء وزنقات (المدينة العتيقة والقصبة والملاح اليهودي) وفوق أرصفة الزنقات تنتشر الدكاكين الانيقة التي تعرض الحرفيات اليدوية والصناعات التقليدية وزيوت الارگان أضافة الى التحفيات والمنحوتات المصنوعة من خشب (العرعار) التي تفنن باخشابها الحرفيون والنجارون والنقاشون وصنعوا الطاولات والكراسي والتحفيات والصناديق المرصعة بالاحجار وباغصان أشجار الليمون فتظهر الحرفية العالية والدقيقة في النقش على خشب العرعار وعلى الأبواب والشبابيك أيضاً.
وفي حي الملاح اليهودي تنتشر ورش النقش والحفر الذي يضم أمهر صناع فنون خشب العرعار وكذلك تعرض أمام واجهات الدكاكين الفخار الملون والفوانيس المغربية المزججة والزرابيّ والمنسوجات والمصوغات الفضية والذهبية التي تشكل سوقاً رائجاً بين السواح والمتبضعين.
ان لتلك الاحياء والازقة والاسواق مثل حي الملاح وبقية المحلات تأريخ يمتد منذ نزوح الناجون من ضحايا التهجير القسري من (المورسكيين) المسلمين (والسفارديم) اليهود بعد سقوط فردوسهم بلاد الأندلس في آواخر القرن الخامس عشر الى شمال المغرب العربي وبلدان أخرى وقسم منهم وصلوا الى مدينة الصويرة وأستقروا بها بعد أن شيدوا أحياء سكنية وحومات وأسواق أخرى وجلبوا معهم تراثهم وحرفياتهم من بلادهم الأندلسية.
لابد لكل زائر للمدينة أن يقصد المطاعم الشعبية قرب الميناء التي تشوي أسماك السردين التي تشتهر بها سواحل الصويرة وكذلك الروبيان والبوري وسمك موسى والمأكولات البحرية الطازجة الاخرى، والتي تمتد على طول الساحل، وأيضاً هنالك المقاهي التي تعج بروائح القهوة وتقدم المشروب الساخن التقليدي الشاي الاخضر المغربي بالنعناع، بينما القطط الوحشية وجدت لها مملكة مريحة وكسولة بين القلاع والازقة وقرب شباك وقوارب الصيادين ومحلات بائعي الاسماك.
وعلى عمق كيلو متر واحد من المرفأ يترأى أرخبيل جزيرة موگادرو وهو عبارة عن صخرة بيضاء بمساحة 26 هکتار عائمة وسط مياه الاطلسي.
بمتعة بالغة كنت أتامل تحليق الطيور نحو أرخبيل الصويرة من ساحل المدينة مثل (النوارس) التي يتعالى نعيقها فوق الميناء وهديل (الحمام الازرق) أو الطيور المهاجرة التي تقطع مسافات شاسعة حتى تصل الى الجزيرة مثل طيور (الغاق والسنونو والطائر المغرد) أو صقر ا(لاليونور) النادر المهاجر الذي يقطع آلالاف الكيلومترات مجتازاً قارة أفريقيا والصحراء الكبرى وجزيرة مدغشقر في المحيط الهندي قاصداً جزيرة موگادرو حيث يضع بيوضه في تجاويف صخور الارخبيل، تحليق الصقر المهاجر فوق الجزيرة يسر الناظرين ويبعث البهجة والدهشة وكأنه رسول يحمل رسالة موسيقى الغناوة من خلال مروره بالصحراء الافريقية الكبرى موطن الگناوة الاول قبل التهجير والنزوح ليوصلها الى جنوب المغرب.
الصويرة زاخرة بالتراث المعماري والتأثيرات الهندسية تتجسد في تصاميم الابنية والقلاع عبر الازمنة الماضية وعبر جمالية بناء الاحجار والجدران البيضاء التي تنتصب في فضاء مفتوح يوحي بالتعايش السلمي، فتجلت ثقافة العمارة التي ترمز للتسامح الديني والاندماج العرقي المتنوع كمدينة أممية تفتح ذراعيها لاستقبال الجميع، ويبدو التنوع المعماري جلياً في انطباعات اللمسات الحضارية والثقافات والموروثات التي تتجسد ما بين التأثيرات الفينيقية والرومانية والقرطاجية والامازيغية والعربية واليهودية وكذلك القلاع التي يظهر عليها تاثير العمارة بطابعها الايبيري الاسباني والبرتغالي والاندلسي... لقد لفت انتباهي أيضاً انتشار الاقواس وأبوابها المنحوتة من الصخور ومسجد سيدي يوسف والقصبة والكنيسة البرتغالية وبيت الذاكرة اليهودي الذي يضم الكنيس، وفي الجهة الاخرى المواجهة للبحر تنتصب القلاع الدفاعية المتمثلة بالصقالتين، صقالة البحر وصقالة القصبة بجوار بطارية المدافع البرتغالية االبرونزية القديمة التي تمتد على الساحل بفوهاتها الموجهة نحو مياه الاطلسي لحماية المدينة في القرن الثامن عشر من قراصنة البحر وتهديد السفن الحربية الاسبانية لها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي


.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل




.. ما حقيقة اعتماد اللغة العربية في السنغال كلغة رسمية؟ ترندينغ


.. عدت سنة على رحيله.. -مصطفى درويش- الفنان ابن البلد الجدع




.. فدوى مواهب: المخرجة المصرية المعتزلة تثير الجدل بدرس عن الشي