الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


دفاعا عن القدرة الشرائية للكادحين ضدّ جشع عصابات المحتكرين : -التجميع الفلاحي- (Agrégation agricole) هو الآليّة الوحيدة للتحكّم في الأسعار

عبدالله بنسعد

2021 / 8 / 2
الصناعة والزراعة


تصدير : « يحدّد الليبراليّون الجدد مهمّة الدولة في عصر العولمة بأنّها مضيّفة للشركات المتعدّدة الجنسيّة وما يقترن بالضيافة من كرم وترحيب وفرش البسط وتزيين الطرقات وغيرها من الخدمات ولكن المشكلة أنّ هذه الخدمات أصبحت باهضة الكلفة وتحمّل الدولة أعباء ماليّة مرهقة لإنجازها وهي مضطرة في الوقت نفسه لإعفاء الشركات العالميّة من الضرائب أو التخفيض فيها على الأقل وهو ما يؤدّي حتما إلى تقليص الإنفاق الحكومي على الرعاية الإجتماعيّة والخدمات العامّة من نقل ومدارس ومستشفيات وجامعات ومؤسّسات ثقافيّة وترفيهيّة. هذا وضع الدولة في البلدان الصناعية الغنية أمّا في البلدان النامية فحدّث عن البحر ولا حرج ، فقد تدهورت مؤسّسات كثير من الدول وهياكلها لتصبح مجرّد نظم رسالتها الأساسيّة حراسة أرخبيل أثرياء الداخل والخارج فلم يعد الحديث عن الدولة بل عن أجنحة المافيا المتصارعة والمؤثّرة في القرار السياسي ولم يعد الحديث عن المجتمع بل عن هذه الجماعة أو تلك» - الحبيب الجنحاني -
1. مقدّمة لا بدّ منها
من سنة لأخرى تكتوي جماهير شعبنا الكادحة بنيران الإرتفاع الجنوني للأسعار نتيجة سيطرة عصابات المافيا على النشاط التجاري للخضر والغلال وعلى مسالك التوزيع بتواطئ الأحزاب الرجعية الحاكمة التي تحمي تلك العصابات من أجل اللجوء لها لتمويل حملاتها الانتخابية كلّما لزم الأمر بل الأدهى من ذلك عملت تلك الأحزاب على إصدار قوانين "مُوجّهة" أو على القياس لخدمة تلك العصابات في أكثر من نشاط ومجال.
علما وأنّ كلّ الأنشطة الإقتصادية في تونس أصبحت ترزح تحت سيطرة عصابة من عصابات المافيا التي تتقاسم تلك الأنشطة فيما بينها مثلما تتصارع الإمبرياليات على الأسواق العالمية. بالمقابل فإنّ "قرع طبول الحرب" ضدّ "السماسرة" و"المحتكرين" و"الفاسدين الذين يتلاعبون بقوت الشعب" ، من طرف مسؤولي الدولة ، يصمّ أذاننا في كلّ مرّة ترتفع فيها أسعار الخضر والغلال وبقية المواد الغذائيّة لكن لا شيء من تهديداتهم كانت له نتيجة تذكر.
والكل يتذكّر يوسف الشاهد ، رئيس إحدى الحكومات الفاشلة السابقة ، وهو يلعب دور الشرطي في سوق الجملة ببئر القصعة حين داهمه فجر يوم 15 نوفمبر 2017 مثلما كان يداهم بوليس العميل بن علي منازل السياسيين المعارضين والحقوقيين. ورأينا كلّنا كيف كان يخاطب أحد وكلاء البيع المحتكرين (الذي قام ببيع 480 كيس بطاطا بطريقة غير قانونية) بلغة التهديد والوعيد قائلا له بالحرف الواحد "أنا باش نشكي بيك" لكن لا أحد إلى اليوم يعرف ما حصل بعد ذلك.
وقد نسج على منواله رئيس الحكومة الذي تلاه إلياس الفخفاخ الذي أدّى زيارة هو الآخر إلى نفس السوق بتاريخ 7 ماي 2020. أمّا عن زيارات وزراء التجارة والفلاحة للسوق المذكور فحدّث ولا حرج. والنتيجة ما هي ؟ صفر مذبّب. فتحديد الأسعار لازال تحت سيطرة تلك العصابات والسبب هو أنّه لا نيّة لحل المشكل من الأصل. فتلك "الخرجات الإعلاميّة" لم تكن سوى مسرحيّات سيّة الإخراج الهدف منها ذر الرماد على العيون وإيهام الرأي العام بأنّهم ضدّ الإحتكار والفساد وإرتفاع الأسعار بينما هم من يحمي المحتكرين والفاسدين لأنّ هؤلاء هم المموّلين الرئيسيين لحملاتهم الانتخابية مثلما أشرنا لذلك سابقا.
ولتبيان حجم الزيادات المهولة في الأسعار بعد ما يُسمّى بـ"ثورة 14 جانفي" نقدّم الأرقام "المفزعة" الصادرة عن "المرصد التونسي للإقتصاد" سنة 2017 حيث تبيّن الدراسة بأنّ الخضروات شهدت زيادة مفرطة بين 2010 و2017 وصلت إلى نسبة 79.3 % وبالتوازي شهدت الفواكه أيضا تضخّما حادّا ناهز 63.5 %. لكن إذا ربطنا الزيادات الكبيرة في الأسعار بتراجع المقدرة الشرائيّة للمواطنين التي بلغت نسبة تقارب 50 % منذ 2011 فإنّنا نكتشف حجم المأساة التي يعيشها المواطن التونسي اليوم.
2. مسالك توزيع المنتجات الفلاحية
1.2. مسالك التوزيع المنظّمة
تتوزع مسالك توزيع منتوجات الفلاحة والصيد البحري في تونس بين القطاعين العام والخاص كما يلي :
 أسواق الإنتاج : تهدف هذه الأسواق نظريّا إلى تجميع المنتوجات الفلاحية في مناطق الإنتاج والقيام بكل الأشغال المتعلقة بها من تحديد للأسعار وتكييف وخزن وغيرها. توجد حاليا 9 أسواق منها وهي موزّعة على 3 أسواق للزيتون و2 أسواق للتمور وسوق للقوارص وسوق للبطاطا والطماطم وسوق للباكورات وسوق للبقول.
 أسواق الجملة : وهي تنقسم إلى ثلاثة أصناف ، أسواق الجملة ذات المصلحة الوطنية وعددها 8 وأسواق الجملة ذات المصلحة الجهويّة للخضر والغلال وعددها 73 موزعة على كامل تراب البلاد وأسواق الجملة لمنتوجات الصيد البحري وعددها 50 وهي موجودة في أهمّ موانئ الصيد البحري.
 أسواق البيع بالتفصيل : وهي أسواق يومية أو أسبوعية يقع تهيئتها من طرف الجماعات العمومية المحلية (بلديات ومجالس جهوية) ويصل عددها إلى حوالي 241 سوقا منها 16 سوقا للأسماك إضافة إلى 148 سوقا للدواب.
يضاف إلى كلّ ذلك نقاط البيع بالتفصيل الموجودة في كل المدن والقرى التونسية. ويقدّر عدد تجار الجملة والتفصيل للمنتوجات الفلاحية بحوالي 32 ألف موزّعين على كامل البلاد.
وتجدر الإشارة إلى أنّه وقع سنة 2007 وضع "البرنامج الوطني لتأهيل مسالك توزيع منتوجات الفلاحة والصيد البحري 2007/2016" لكنّه لم يرى النور إلى حدّ اليوم.
2.2. مسالك التوزيع العشوائيّة أو التجارة الموازية
إنخراط البلاد التونسية في مسار العولمة الليبرالية الذي إبتدأ بتركيز برنامج الإصلاح الهيكلي سنة 1986 وبرنامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي سنة 1987 ، جعلها تُبادر بإصدار القانون عدد 64 المؤرخ في 29 جويلية 1991 المتعلّق بالأسعار والمنافسة وهو يندرج في سياق الإصلاحات الهيكلية للإقتصاد عبر مراجعة التشريعات في إتجاه التحرير الكلي للإقتصاد والتقليص من تدخّل الدولة في قطاعات الإنتاج والخدمات والتشجيع على الخوصصة وحذف التراخيص وتحرير التجارة الخارجية وغيرها من الإجراءات الليبرالية.
وهكذا وبعد أن كانت كل الأنشطة التجارية خاضعة لنظام الترخيص سواء التجارة الداخلية أو الخارجية وقع تحرير قطاع التجارة الداخلية ما عدى المشروبات الكحولية التي بقيت خاضعة للرخصة ثم تمّ تحرير التجارة الخارجية مع ضبط معرّف ديواني يُسند للمورّد.
طبعا إلغاء الترخيص المُسبق للقيام بالنشاط التجاري في ظلّ تقلّص عمل أجهزة رقابة الدولة (المراقبين الإقتصاديين بوزارة التجارة أو المراقبين الصحيين لوزارة الصحة) نظرا للتقليص الكبير الذي شهدته ميزانية الدولة تطبيقا للتوصيات الواردة ببرنامج الإصلاح الهيكلي سيّء الذكر وخاصة منع الإنتداب في قطاع الوظيفة العمومية ، فتح الباب واسعا أمام عصابات المحتكرين والسماسرة بتركيز تجارة "عشوائيّة موازية" تُشرف على حوالي ثلثي نشاط المتاجرة في المنتوجات الفلاحية.
إذ تؤكّد دراسة صدرت بتاريخ 1 جانفي 2020 في "مجلة تونس الخضراء" تحت عنوان "الوسطاء يتحكمون في مسالك التوزيع وحق الفلاح يُسرق ويضيع" أنّ 40 % فقط من المنتوجات الفلاحية تمرّ عبر الأسواق المنظمة و60 % تتلاعب بها عصابات المحتكرين والسماسرة" وهو ما يجعل الأسعار مرتفعة على طول السنة.
لكنّ هذه النسبة ترتفع إلى 75 و80 % عندما نعلم بأنّ كلّ المنتوجات الفلاحية التي تدخل سوق الجملة ببئر القصعة على سبيل الذكر لا الحصر لا تباع كلّها إذ تتراوح نسبة المنتوجات التي لا تباع في السوق بين 15 و20 % كمعدّل يومي وهو ما يعني بأنّها تذهب مباشرة إلى السوق الموازية أي العشوائية لتُضاف إلى نسبة 60 % التي ذكرناها آنفا.
فالتجارة الموازية هي تجارة غير مستوفاة الشروط بحكم أنّها تمارس بدون ترخيص قانوني وبالتالي فإنّ المنتوجات مجهولة المصدر لا تكون مستندة إلى "فاتورات" وما يعنيه ذلك من تهرب جبائي من ناحية ومن التلاعب بالأسعار من ناحية أخرى. وفي هذه الحالة فإنّنا نسجّل تضرّرا لخزينة الدولة لكن أيضا لجيب المواطن غير أنّ هذه الدولة التي ترى بأنّ حوالي 60 % من المنتوجات الفلاحية غير خاضعة للضرائب لا تحرّك ساكنا. وقد زاد الطين بلّة الفساد الذي تغلغل في كلّ أجهزة الدولة بعد "ثورة" 14 جانفي 2011 بما فيها جهاز الرقابة الإقتصاديّة والكلّ يتذكّر ما حدث يوم 26 ديسمبر 2020 حيث نجحت فرقة مكافحة الإجرام بحي الخضراء في نصب كمين لموظفين في وزارة التجارة والقاء القبض عليهما بصدد تسلم رشوة.
وحسب مصادر مطلعة فاٍن الموظفيين الساميين الموقوفين وهما رجل وامراة كانا بصدد تسلم مبلغ قيمته 60 ألف دينار من تاجر أصيل ولاية المهدية، في حين مازالت الأبحاث جارية عن مورطين آخرين.
3. عندما يُصبح المُنتج لقمة سائغة لعصابات "السماسرة" والمحتكرين"
نصّ القانون عدد 86 المؤرخ في 23 جويلية 1994 المتعلّق بمسالك توزيع منتوجات الفلاحة والصيد البحري في فصله الأول على أنّ مسالك التوزيع "تشمل أسواق الإنتاج وأسواق الجملة وأسواق التوزيع بالتفصيل لمنتوجات الفلاحة والصيد البحري". ونصّ الفصل 4 على أنّه "يقع توزيع منتوجات الفلاحة والصيد البحري في مرحلة الجملة عبر أسواق الإنتاج و/أو أسواق الجملة وفي مرحلة التفصيل عبر أسواق التوزيع بالتفصيل". المُؤسف في الأمر هو أنّ عصابات السماسرة وضعت يدها على كلّ تلك الأسواق وجعلتها تحت سيطرتها.
تخلّي الدولة عن دورها في تمويل الفلاحين وتهميشها للقطاع الفلاحي هو الذي زاد في جشع عصابات المتاجرة في منتوجات الفلاحة والصيد البحري ، ومن أجل الحصول على تلك المنتوجات بأرخص الأسعار يعملون على شرائها من الفلاّح على رؤوس أشجارها (ما يُعرف باللهجة الدارجة بـ "التخضير") لأنّ الفلاّح غير قادر على نقل منتوجاته إلى أسواق الجملة وخاصّة أكبر سوق في تونس ألا وهو سوق "بئر القصعة" بجهة بن عروس. وفي هذه الحالة فهم من يحدّد أسعار الشراء ويجبرون الفلاح على القبول بها وإلاّ فإنّ منتوجاته سيكون مآلها الإتلاف. لكن ما الذي يجعل الفلاّح يقبل بهذا الوضع ؟ والجواب سهل جدّا : فالدولة هي التي تركت الفلاّح وحيدا ولقمة سائغة للسماسرة والمحتكرين منذ تركيز "برنامج الإصلاح الهيكلي للقطاع الفلاحي" (PASA) في شهر جويلية 1987. فذلك البرنامج سيّء الصيت تميّز بتخلّي الدولة عن تدخّلها في القطاع الفلاحي فلم يعد هناك إرشاد فلاحي يصاحب الفلاحين ويؤطّرهم عند قيامهم بأشغالهم الفلاحية وبتفكيك دواوين المناطق السقوية التي كانت توجد في كل ولاية ، غابت كلّ أنواع الدعم عند شراء المستلزمات الفلاحية من بذور وأدوية وأسمدة وغيرها ولم يعد هناك وجود لأي تسهيلات لترويج المنتوجات محليّا أو تصديرها للخارج وتقلّصت بشكل كبير جدّا نسبة حصول الفلاحين على القروض من البنوك إذ لا تفوق هذه النسبة في احسن الحالات 10 % فقط.
كلّ ذلك يُضاف إلى سياسات توجيه الأسعار الفلاحية والتي أدّت إلى تكالب المنتجين الكبار على توجيه الإنتاج نحو التصدير وبالتالي أصبحت تونس "تُصدّر المُحلّيات والمُفتّحات وتستورد الغذاء الأساسي" La Tunisie exporte l’hors d’œuvre et le dessert et importe le plat de résistance وهو ما زاد في إستشراء الفساد داخل القطاع.
هذه الوضعية الغير مسبوقة في تاريخ النشاط الفلاحي في تونس أجبرت الفلاّحين على اللجوء إلى "السماسرة" والمحتكرين" لطلب تسبقات مالية من أجل مواصلة نشاطهم وبالتالي فقد أصبح "السماسرة" والمحتكرين" يلعبون دور "المموّلين" (مثل البنوك ومؤسسات القروض الصغرى وشركات التأجير « Leasing ») مع فارق بسيط وهو أنّ هؤلاء "الممولين الجدد" للفلاحين وعوض توظيف "نسبة فائدة" على التسبقات/القروض التي يعطونها للفلاحين ، فإنّهم يفرضون عليهم أسعار شراء غير قابلة للنقاش. وطبعا يجد الفلاحون أنفسهم مجبرين على القبول بكل شروطهم وهم صاغرين لا حول لهم ولا قوّة.
4. الرأس مال في المناطق الساحليّة يفرض قوانينه على الفلاحين في المناطق الداخلية
من مظاهر توطئ الدولة أيضا مع عصابات السماسرة والمحتكرين هو التوزيع الغير عادل لـ "اللأسواق ذات المصلحة الوطنيّة" (Marché d’Intérêt National « MIN »).
فهذه الأسواق التي يصل عددها إلى ثمانية (08) على كامل التراب التونسي ، والمنضوية تحت ما يُسمّى بـ "الشركة التونسية لأسواق الجملة" (علما وأنّه بدأ الإعداد لتركيز سوق ثانية في جهة تونس الكبرى لتصبح عدد الأسواق 9) ، نلاحظ بأنّها موزّعة بطريقة تخدم تلك العصابات حيث أنّه من المعروف أنّ رؤوس الأموال في تونس تتركّز في المناطق الساحليّة وخاصة على طول الشريط الممتدّ من قابس إلى بنزرت. فهل هي الصدفة أن نجد ستّة (06) من تلك الأسواق ممتدّة على ذلك الشريط ؟ هنالك سوق في قابس وأخرى في صفاقس وثالثة في المكنين ورابعة في سوسة وخامسة في بئر القصعة ببنعروس وسادسة في بنزرت. أمّا الإثنتان المتبقّيتان فنجدهما في القيروان وباجة. ملاحظتان تسترعيان الإنتباه : الأولى تتعلّق بوجود 3 أسواق جملة ، هي صفاقس والمكنين وسوسة ، على طول خطّ لا يتجاوز 135 كم (المسافة الفاصلة بين سوسة وصفاقس).
بينما المسافة التي تفصل سوسة عن المكنين لا تتجاوز 40 كم. الثانية تتعلّق بغياب سوق جملة في كامل المنطقة التي تغطّي الجنوب الغربي التونسي وخاصة ولايات سيدي بوزيد والقصرين وقفصة والتي تُعرف بإنتاجها الوفير من الخضر وخاصة الغلال والفواكه.
طبعا هذه الوضعيّة تجعل الرأس مال الموجود في المناطق الساحلية ، والذي يُكوّن "عُصبة" السماسرة والمحتكرين في مجال تجارة المواد الفلاحيّة ، يقوم بـ "إفتكاك" منتوجات الفلاحين في المناطق الداخليّة بأبخس الأثمان لإعادة بيعها فيما بعد بأثمان باهضة تمكّنه من تكديس الأرباح والحصول على فائض القيمة. ومن أجل إنجاح عمليّة الإحتكار تلك قام ببناء مئات مخازن التبريد بدعم مباشر من الدولة عبر المال العام. فقد أكّدت وزارة الصناعة أنّ 83 % من مخازن التبريد توجد على طول الشريط الساحلي.
5. سوق الجملة ببئر القصعة : مثال حيّ لتطاول عصابات "السماسرة" والمحتكرين" على الدولة
تعد سوق الجملة ببئر القصعة أكبر فضاء تجاري بالجملة من بين 8 أسواق جملة ذات مصلحة وطنية موجودة في تونس. وتسيّرها الشركة التونسية لأسواق الجملة ببئر القصعة التي رأت النور بتاريخ 04 ديسمبر 1980 برأس مال يساوي ملبوني دينار. كما دخلت مرحلتها الفعلية مند 17 ديسمبر 1984 و يصنفها القرار عدد 125-85 بتاريخ 02/01/1985 سوقا دات مصلحة وطنية.
وتمتدّ السوق على مساحة خمسون هكتارا وتستقبل يوميا حوالي 30 ألف زائر و 10 آلاف عربة وتتزوّد بحوالي 1100 طنا من الغلال و الخضر و 50 طنا من منتوجات البحر.
كما توفّر هذه السوق خدمات متعددة لحرافئها منها :
• 6 بيوت تبريد داخل أجنحة الخضر والغلال والأسماك
• 42 بيت تبريد للغلال تبلغ مساحتها قرابة 2000 متر مربع
• مصنع لإنتاج الثلج طاقته 24 طن وخزان للثلج طاقته 40 طنا وذلك لحفظ المنتوجات البحرية
• ميزان عملاق على مسافة 100 م من مدخل السّوق خاص بموسم الدلاع والبطيخ
• مأوى للسيّارات طاقة استيعابه تتجاوز 800 سيارة
• كما توجد وكالتان ( 2) بنكيتان داخل السوق لتسهيل العمليات المصرفية ومكتب بريد وقباضة مالية ومركز للأمن و7 مقاهي و 3 مشارب و 4 مطاعم وهاتفين عموميين.
غير أنّ كلّ هذه البنية التحتيّة التي تجعل البعض يصف السوق بـ "المدينة التجارية" لا تستقطب سوى نسبة تتراوح بين 15 و20 % فقط من الإنتاج الفلاحي الذي يباع في أسواق الجملة.
هذا من ناحية اللوجستيك لكن لنضع "الزوم" الآن على سير عمل هذه السوق لنرى ما يحدث داخلها. ففي ظلّ ضعف الدولة ووهنها منذ 14 جانفي والذي يتفاقم يوما بعد آخر ، تصبح "العصابات" التي تحدّثنا عنها ، والتي لا تترك أي فرصة للتطاول عليها وإحتقارها ، هي المتحكّم في كلّ مفاصل "سوق الجملة" ببئر القصعة. فيصبح الحارس الموجود في الباب وكلّ "الموظفين" في السوّق أسرى لدى تلك "العصابات" ويتلقون الأوامر منها وليس من الرئيسة المديرة العامّة للسوق وما يفتحه ذلك من باب للرشوة والفساد. ألم يقل يوسف الشاهد في خطابه الشهير في جلسة الحوار بمجلس النواب يوم 20 جويلية 2017 "أنّ الفساد استشرى بشكل كبير في كلّ مفاصل الدولة في تونس" ؟
وأريد أن أفتح قوسا هنا لأقول بأنّ إحدى تمظهرات تواطئ الدولة مع هذه العصابات للأسباب التي ذكرتها سابقا ، يتمثّل في تعيين "امرأة" على رأس هذه "المدينة التجارية" الضخمة. وحتّى لا يقال بأنني معادٍ للمرأة (وأنا الشيوعي الماركسي اللينيني الذي لا فقط يتبنى المساواة بين المرأة والرجل وإنما يمارسها فعليّا في حياته الخاصة) فإنّني سأذكر أمثلة حيّة تثبت أنّ تعيين المسؤولة الحالية هدفه ترك تلك "العصابات" تعبث في السوق كما تريد وتطبّق قوانينها دون رادعٍ.
فالذين يعرفون سوق الجملة جيّدا يعرفون بأنّ وكلاء البيع أو ما يسمّى باللهجة الدارجة التونسية "الهبّاطة" (وهم يمثّلون إحدى العصابات الموجودة في السوق إلى جانب عصابات التجار بالجملة وعصابات أصحاب المخازن وغيرها) يستعملون اللغة السّوقية الفجّة والبذيئة والفاحشة ، صباحا مساءا ويوم الاحد ، وهي اللغة التي تمتاز باللجوء إلى أقبح التوصيفات التي تعتمد على الأعضاء الجنسية كحطب وقود للسب والشتم والتهديد (علما وأنّ العنف اللفظي والمادّي في تونس أصبح ظاهرة متفشّية بشكل كبير جدّا وخاصة بعد ما يسمّى بثورة 14 جانفي 2011). والغريب في الأمر فإنّهم لا يتحدثون إلاّ بأصوات عالية وعندما تسألهم لماذا كل هذا الصياح يجيبونك بأنّ السوق مكتظّة ويجب الحديث بصوت عالٍ لكي يسمعك الآخرون. أمّا العمّال التابعين لوكلاء البيع فهم في أغلبيتهم الساحقة من مفتولي العضلات الذين يتطاير الشرر من أعينهم ويكونوا حاضرين ومتحفّزين دوما لتأديب كلّ من يتطاول على "أسيادهم/أعرافهم" أو يريد التقليل من سطوتهم وفي أغلب الأحيان بإسعمال القوة الجسديّة. طبعا الرئيسة المديرة العامة/الإمرأة ولتحاشي الوقوع في مواقف حرجة مع هؤلاء قلّ وندر أن تغادر مكتبها بل حتّى الموظفين من الرّجال يتعرّضون إلى العنف اللفظي وحتّى العنف المادي لو حاولوا تطبيق القانون على هؤلاء. وهذا هو طبعا ما يبحث عنه أفراد تلك "العصابات" أي أنّهم يجدون أنفسهم "اللاعبين الوحيدين في السوق".
وللتدليل على ما أقول ، وقد كنت شاهدا على مثل هذه الأفعال في أكثر من مرّة بحكم أنني أقطن بجانب السوق وبحكم أنني كباحث فلاحي أهتمّ بأسعار المنتجات الفلاحية ، أحيلكم على ما جرى في لقاء رئيس الحكومة السابق الذي تحدثت عنه آنفا يوسف الشاهد يوم زار سوق الجملة يوم 15 نوفمبر 2017 وكيف أنّ "وكيل البيع/الهبّاط" كان يصيح في وجهه وفي وجه أحد المسؤولين عن السوق (أنظر الرابط التالي : https://www.youtube.com/watch?v=BGHA7dLfDVY&ab_channel=Hakaek(OnLineTunisie وقد كان وجه يوسف الشاهد يقطر عرقا (رغم أنّ الزيارة وقعت في الفجر) لا بسبب درجة الحرارة المرتفعة وإنّما بسبب وقاحة الشخص الذي واجهه. فإن كان الوزير الأوّل في ذلك الوقت قد تحرّج كثيرا من طريقة حديث ذلك الشخص وسلوكه نحوه فما عسى أن يكون موقف الرئيسة المديرة العامّة للسوق يا تُرى ؟
أمّا على المستوى العملي فإنّ "الوكلاء" المتحكّمين في السوق يقومون بما يُعرف بـ "البيع تحت الطاولة" إذ يقومون بتحرير وصل الشراء ، مع تجّار التفصيل ، بثمن قانوني في حين السّعر الحقيقي يفوق ذلك بكثير وذلك أمام مرأى ومسمع من المسؤولين على السوق.
وأكبر دليل على ما أقول ما حصل في السوق ذي المصلحة الوطنية بالمكنين خلال الأيام الأخيرة أي يوم 25 نوفمبر 2020 حيث كشف الفريق القارّ للمراقبة الاقتصادية الراجع بالنظر إلى الإدارة الجهوية للتجارة بالمنستير بسوق الجملة للخضر والغلال ، عن عملية تلاعب بفواتير البيع قام بها أحد وكلاء البيع المنتصبين بهذه السوق وحجز لديه 250 صندوقا من الخضر وفق ما ذكره المدير الجهوي للتجارة الذي بيّن أنّ الوكيل يعمد عند تحرير الفواتير إلى تغيير صنف المنتوج أو التقليص الكبير جدّا في الكميات المصرح بها على مستوى الشراء ليتسنّى له التصرّف في أكبر كمّية وبيعها فيما بعد بالأثمان التي يريد.
6. مخازن التبريد تتكاثر مثل الفقاقيع
أتحدّى أي مسؤول في تونس يمكن أن يُعطينا رقما حقيقيّا لعدد مخازن التبريد في تونس. فكلّ ما يملكه المسؤولون هو قائمة في المستثمرين الذين تقدّموا بطلب الحصول على منحة الإنتصاب من أجل بناء مخزن للتبريد. أي أنّهم لا يعرفون إلاّ عدد المخازن التي توصف بـ "المنظّمة" (رغم أنّ طريقة عمل أغلبها عشوائية بكل ما في الكلمة من معنى) أمّا المخازن العشوائيّة فإنّهم يجهلون عددها وذلك لأنّ عصابات السماسرة والمحتكرين لم تعد في حاجة لمنحة الدولة من أجل تركيز مخازنها نظرا للأرباح الطائلة التي يجنونها من بناء تلك المخازن. والعارفين بهذه المسائل يؤكّدون بأنّ عدد المخازن العشوائيّة يفوق بكثير عدد المخازن المنظّمة.
الأرقام الغير الرسمية تتحدّث عن وجود ما يفوق 1000 مخزن تبريد بين عشوائي ومنظّم دون إحتساب المخازن غير المبرّدة والتي تستعمل للتخزين الوقتي لبعض المواد والمنتشرة كالفقاقيع في الأحياء الشعبية حتّى يصعب مداهمتها من طرف أجهزة الدولة والكلّ يتذكّر المداهمة التي قامت بها فرقة الحرس الديواني لأحد المخازن العشوائية يوم 23 أكتوبر 2018 بمنطقة سيدي حسين السيجومي حيث وقع إعتراضها من طرف العديد من سكّان المنطقة ووقعت مواجهات بين الطرفين أدّت إلى سقوط قتيل. ونظرا لشحّ المعلومات حول عدد المخازن في تونس فإنّ آخر دراسة تعلّقت بمخازن التبريد تقول بأنّ 71 % من هذه المخازن توجد على طول الشريط الساحلي وأنّ القطاع الخاص يستحوذ على 87 % من هذه المخازن بينما لا يملك القطاع العام إلاّ 13 % فقط. طبعا الدولة ليست عاجزة عن معرفة مكان تواجد كلّ المخازن العشوائية إن أرادت ذلك، فالتكنولوجيا الحديثة تمكّنها من ذلك (سنتحدّث عن هذه المسألة عند تقديم المقترحات أدناه)، لكنّها غير راغبة في ذلك من أجل ترك تلك العصابات ترتع كما تريد. المخيف في الأمر أنّ لا أحد يعرف ماذا يمكن أن يوجد داخل تلك المخازن فما الذي يمنع تخزينها للسلاح في ظل التحالف الذي أصبح مكشوفا بين المهرّبين والإرهابيين. فالشاحنات تدخل وتخرج من تلك المخازن دون أي رقيب. وكما لا يخفى على أحد فإنّ مخازن التبريد المنظّمة والعشوائيّة ، على حدّ سواء ، تُعتبر أهمّ آلية للتحكّم في الأسعار في تونس. بل يمكن لنا أن نجزم بأنّ تغوّل السوق السوداء في تونس وتضخّمها (عديد الخبراء الإقتصاديين يؤكّدون بأنّ الاقتصاد الموازي يمثّل أكثر من 50 % من جملة النشاط الاقتصادي في البلاد) إرتكز على نشاط المتاجرة في الخضر والغلال.
فإلى جانب حصول أصحاب المخازن على "منحة الإستثمار" عند بناء المخازن فإنّهم يتحصّلون على منحة أخرى تسمّى "منحة الخزن" عند تعاقدهم مع "المجمع المهني المشترك للخضر والغلال" من أجل تكوين المخزونات التعديليّة وخاصة في مادّة البطاطا. لكن بعد إمضائهم للإتفاق مع المجمع المذكور يعمد أغلب أصحاب المخازن المنتمين لعصابات المحتكرين إلى ترويج المخزون التعديلي للدولة بالسوق الموازية ممّا يتسبّب في شطط الأسعار دون قدرة للدولة على مراقبتها لضعف غير مسبوق في أجهزتها الرقابيّة.
وعلى سبيل الذكر لا الحصر فإنّنا نورد نتائج المراقبة التي قامت بها مصالح وزارة التجارة في أواسط شهر نوفمبر 2017 ، بعد الزيارة الشهيرة ليوسف الشاهد لسوق بئر القصعة ، حيث بيّنت أنّ 51 مخزنا من جملة 103 مخازن وقعت مراقبتها (حوالي 50 %) سجّلت فيها مخالفات إقتصادية مرتبطة بعمليات إحتكار مخالفة للقوانين والعقود التي تربطها بالدولة.
لكن السؤال الذي يُطرح ماذا فعلت الدولة لأولئك المخالفين ؟ لا شيء لأنّ التشريعات الحالية التي أكل عليها الدهر وشرب لا تسمح بوضع حدّ نهائي لمثل هذه الجرائم إذ لا تتعدّى خطية الإحتكار ، مهما كان نوعه ، بضعة عشرات من الدنانير وهو ما يسمح للمحتكرين بإعادة الكرة مرات ومرات. مع العلم أنّ الإستنجاد بالمخزّنين الخواص لتكوين المخزون التعديلي بدأ سنة 1998. وقد بيّنت دراسة حديثة للمجمع المهني المُشترك للخضر والغلال أنّ المعدل السنوي لمخزون مادّة البطاطا خلال الفترة المتراوحة من سنة 1998 إلى سنة 2017 بلغ حوالي 21.882 طن منها 79 % منجزة من طرف المخزنين الخواص و 21 % فقط من طرف المجمع. وهو ما يفتح المجال واسعا أمام عصابات السماسرة والمحتكرين المسيطرين على المخازن من التحكّم في أسعار البطاطا وهو ما نلاحظه كلّ سنة من ارتفاع مشطّ وفي أغلب الأحيان أسعار لم تشهد تونس لها مثيلا أمام العجز التام للدولة (إن كانت ما زالت هناك دولة) للتصدّي لذلك. وبمثل هذه الممارسات تقوم تلك العصابات بـ "ذبح" الفلاّح والمستهلك على حدّ سواء.
7. المراقبة الاقتصادية تمثّل "كعب أخيل" في المنظومة التجارية في تونس
حريّ بنا أن نذكّر في البداية بأنّ السياسات الليبرالية الشرسة والمتوحّشة وقع تثبيتها بعد سقوط جدار برلين وإنفلات الرأسمالية من تحت عقّالها بعد مرورنا من عالم ذو قطبين )الإتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأمريكية( إلى عالم ذو قطب واحد تتحكّم فيه الإمبريالية الأمريكية كما تشتهي وتريد حيث مرّت من "سياسة الإعتراض" ) عتراض الزحف الشيوعي( بين سنوات 1947 و1988 إلى "سياسة التوسّع" ) وضع اليد على كلّ أسواق العالم( بداية من ذلك التاريخ (أنظر مقلنا بعنوان "العولمة الليبراليّة : التعريف ، الآليات والنائج" الصادر بجريدة الشعب بتاريخ 3 و10 جوان 2006). وقد إرتكزت تلك السياسات فيما تركّزت على ما عُرف باسم "برنامج الإصلاح الهيكلي" الذي وضع حدّا لتدخّل الدولة ودفع بها إلى أن تُصبح "دولة الحدّ الأنى" (Le minimum d’Etat) كلّ ذلك من أجل أن يستحوذ رأس المال وخاصة الرأس مال المالي على كلّ الأنشطة الاقتصادية والإجتماعية بل وقع المرور إلى ما يُعرف بـ "سلعنة الخدمات" (Marchandisation des services) مثل الصحة والتعليم والنقل وغيرها. وتونس التي رضخت لضغوط وتوصيات صناديق النهب الإمبريالي مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدولي قبلت بتركيز برنامج الإصلاح الهيكلي للإقتصاد (Programme d’Ajustement Structurel « PAS »)في شهر جوان 1986 ثمّ قامت بإفراد القطاع الفلاحي ببرنامج خاص به سمّي "برنامج الإصلاح الهيكلي الفلاحي" (Programme d’Ajustement Structurel Agricole « PASA ») في جويلية 1987. هذه البرامج كان لها الأثر المدمّر على هياكل الرقابة بالخصوص حيث لم تعد الدولة تقوم بتعويض أعوان الرقابة المحالين على التقاعد بتعلّة "إيقاف الإنتداب في الوظيفة العمومية" كما لم تعدّ تمكّنهم من وسائل العمل والتنقّل. وأصبح منذ ذلك الحين قطاع الرقابة في تونس مشلولا شللا تامّا إضافة إلى تفشّي ظاهرة الفساد فيه مثل كلّ أجهزة الدولة.
آخر الإحصائيّات تقول بأنّ عدد المراقبين الإقتصاديين (أعوان وإطارات بمن فيهم المديرين) لا يتجاوز 700 عون موزّعين على كامل البلاد. فماذا يمكن أن يفعل 700 عون أمام أكثر من 1000 مخزن تبريد ومئات المخازن غير المبرّدة ؟ وماذا يمكن أن يفعل 700 عون أمام أكثر من 32 ألف تاجر جملة وتفصيل في تونس ؟ وماذا يمكن أن يفعل 700 عون أمام عشرات المساحات الكبرى المنتشرة في كامل مناطق البلاد ؟ لا شيء ، غير المشاهدة بالعين دون القدرة على فعل أي شيء.
فحسب التعريف المنشور على صفحة وزارة التجارة ، يقوم جهاز المراقبة الاقتصادية بضمان التوازن بين العرض والطلب لمختلف المنتجات والتحكم في مستويات الأسعار وذلك عبر :
• * ضمان انتظامية التزويد وتنوعه (المنتجات والمواد الأساسية والحساسة )،
• * تسهيل النفاذ إلى السوق وحفز المنافسة فيها (المنتجات والخدمات الأخرى)،
• * التصدي للممارسات والمضاربات الاحتكارية،
• * احترام المرجعية القانونية لأسعار المنتجات المؤطرة،
• * عقلنة أسعار المنتجات الحرة...
• فهل يمكن أن يقوم بكل هذا العمل 700 مراقب ؟ وهل تحققت هذه الأهداف ؟ قطعا لا ، والأسباب هي ما ذكرناه آنفا.
فكل بلدان العالم وآخرها المغرب أصبحت تعتمد على التطوّر التكنولوجي للقيام بعمليّات المراقبة حتّى تقطع الطريق على عصابات الفاسدين والمحتكرين. وحدها الحكومة التونسية مطبّعة معهم ولا تريد إقلاق راحتهم.
نقولها وبكل وضوح ، المراقبة التي ترتكز على الإنسان فقط لم تعد مجدية ولا ذات فاعليّة نظرا لتفشّي الفساد والرشوة داخل كل القطاعات ولكم في مثال فضيحة اللحوم الفاسدة سنة 2017 والتي عمّت تقريبا كل المدن التونسية خير دليل على ذلك. فقد كشف رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب قائلا إن "شركة من أكبر شركات توزيع اللحوم ، وهي معروفة في جهة الساحل ، تقوم بتوزيع لحوم فاسدة للجيفة والحيوانات المصابة بداء السُلّ على المبيتات والثكنات العسكرية بتواطؤ أشخاص مؤتمنين على صحة المواطن"، مشيراً إلى أن هؤلاء المتواطئين هم من فرق مراقبة الصحة والمسالخ البلدية حيث يتعمّدون وضع تأشيرة الصلاحية على هذه اللحوم رغم أنّها فاسدة. كما وقعت الإطاحة بعصابة تتكون من رئيس مركز شرطة بلدية وأعوان بلدية قاموا بإعادة بيع اللحوم الفاسدة بعد أن كلّفوا بإتلافها.
فالحديث عن وضعية اللحوم في تونس يتطلب كتبا أو مجلدات. فمن بين 206 مسالخ موجودة في تونس لا تتوفر شروط السلامة الصحيّة إلاّ في 10 مسالخ فقط. وقد إعتبر رئيس عمادة الأطباء البياطرة في ندوة صحفية يوم 3 أكتوبر 2017 وضعية المسالخ في تونس بالكارثية والمزرية وتبعث على الإنشغال. وبيّن بأنّ أكثر من نصف المواشي يقع ذبحها خارج المسالخ مما يشكّل خطرا على صحّة المواطن. نحن هنا أمام مسؤولية مباشرة للدولة عبر البلديّات المسؤولة مباشرة عن المسالخ. يعني أنّ أجهزة الدولة مساهمة هي أيضا في الفساد. أفلا يكفي المواطن المسكين جشع عصابات السماسرة والمحتكرين لكي تزيد الدولة في مآسيه وفي التلاعب بصحّته ؟
8. التجميع الفلاحي هو الآلية الوحيدة للتحكّم في الأسعار
تتعدّد في تونس آليات التصدّي لإرتفاع الأسعار (لجان حكوميّة وجمعيات المجتمع المدني) لكنّها آليات فاقدة كلّ فاعلية وجدوى فهي بُعثت لذر الرماد على العيون وإيهام المواطنين بأنّ الدولة تقوم بمحاربة هذه الآفة. لكنّ الدولة تغافلت وتجاهلت أو لنقل تعمّدت عدم اللجوء إلى الآليّة الواحدة والوحيدة القادرة على وضع حدّ لإرتفاع الأسعار والتي تسمّى بالفرنسية (Agrégation agricole) عرّبتها أنها بـ "التجميع الفلاحي".
وهي آليّة مستعملة في كلّ البلدان الصناعية والسائرة في طريق النمو : فرنسا سنّت قانونا يقنّن ألية التجميع منذ سنة 1964 وتوجد بها الآن أكثر من 2600 تعاضديّة تُغطّي كلّ قطاعات الإنتاج الفلاحي ، في أمريكا تُقدّر كمّيات المنتجات الفلاحية المشمولة بآلية التجميع مرّت من 12 % سنة 1969 إلى 63 % سنة 2004 ، في الهند بدأ تطبيق هذه الآلية سنة 1975 وقد مكّن ذلك من تقليص نسبة الفقر في الريف أكثر من النصف ، في الصين المساحة التي تشملها آلية التجميع الفلاحي بلغت سنة 2001 حوالي 18 مليون هك أي بزيادة قاربت 40 % مقارنة بسنة 2000 أمّ المغرب الشقيق فقد بدأ تطبيقها سنة 2008 وتمكّن من وضع حدّ للسماسرة والمحتكرين الذين يحصلون على النسبة الكبرى من القيمة المضافة للمواد الفلاحية (خضر ، غلال ، لحوم ...). وتتمثّل إحدى مكوّنات هذه الآليّة فيما يُعرف بـ "الفلاحة التعاقديّة" (Agriculture contractuelle) التي يقع اللجوء إليها لقطع دابر السماسرة من مسالك توزيع المواد الفلاحية.
ترتكز هذه الآليّة على أربع إجراءات أساسيّة :
 أولا ، تجميع الفلاحين في شكل تعاضديات خدمات ، على مستوى كلّ عمادة أو معتمديّة ، تقوم بـ :
* إمضاء عقود بيع مع أسواق الجملة مباشرة دون أي وساطة. لكن مع ضرورة إعادة هيكلة أسواق الجملة مثلما كانت عليه في البداية عند بعثها لوضع حدّ لتدخّلات عصابات "الحمّارة" (المعروفين باسم الهبّاطة)
* إمضاء عقود بيع مع أسواق الإنتاج وأسواق البيع بالتفصيل
* إمضاء عقود بيع مباشرة مع المساحات الكبرى
وبذلك يقع القضاء نهائيّا على الوسطاء والسماسرة (الذين يشترون الصابة على رؤوس أشجارها ، الوسطاء خارج سوق الجملة ، أصحاب المخازن العشوائيّة ، وسطاء سوق الجملة)
 ثانيا ، إمضاء عقود بيع مع معامل الصناعات الغذائية لتحويل كميات الخضر والغلال الزائدة عن الحاجة (طماطم ، فلفل ، قوارص ، إجاص ، مشمش إلخ) وخاصة خلال السنوات التي يكون فيها الإنتاج وفيرا مثلما حصل للقوارص سنة 2017.
 ثالثا ، إستعمال تقنية "منظومة المعلومات الجغرافيّة" (Système d’information géographique SIG) لتحديد مواقع كلّ مخازن التبريد القانونية وخاصة العشوائيّة التي تعدّ بالمئات والتي يستعملها المضاربون بعيدا عن أعين الدولة. على سبيل الذكر لا الحصر المغرب الشقيق بدأ في إستعمال هذه التقنية لمراقبة المخازن سنة 2018 ووقع إكتشاف آلاف المخازن العشوائية منها ما هو موجود في المناطق الصحراويّة وقد أدّت هذه العملية إلى القضاء على التلاعب بالأسعار.
 رابعا ، ربط كلّ مخازن التبريد (Frigos) بكاميرات مراقبة رقميّة تكون مرتبطة مباشرة بـ "غرفة التحكّم" (Salle de contrôle) التابعة لوزارة التجارة كما يجب تجهيز الشاحنات التي تنقل المواد الفلاحية بأجهزة " GPS" لتسهل مراقبتها لوضع حدّ لإحتكار المواد الفلاحية. وبذلك يصبح بإمكان وزارة التجارة تتبّع كل شاحنة تدخل أو تخرج من مخزن التبريد ويمكن إرسال فريق مراقبة في الحال في صورة الشك في حمولة أي شاحنة )المراقبة الموجّهة(.
غير هذه الآليّة لا يمكن أبدا القضاء على ارتفاع الأسعار ويكذب من يقول غير ذلك. فالذين يتحدّثون عن تشديد المراقبة (يوجد كما قلنا سابقا 700 مراقب فقط موزعين على كامل القطر وهم لا يملكون الإمكانيّات اللازمة للقيام بعملهم إضافة طبعا إلى الرشوة التي تفشّت داخل القطاع) وكذلك الزيارات الفجئية لأسواق الجملة من طرف الوزراء ورؤساء الحكومات المتعاقبة وكذلك مراقبة مخازن التبريد التي تقع من حين لآخر ، يعرفون جيّدا أنّ تلك الإجراءات لم تفعل شيئا لوضع حدّ لإرتفاع الأسعار وهم يعرفون أيضا أنّ العصابات التي تسيطر على قطاع تجارة الخضر والغلل هي محمية من بعض الفاسدين في أجهزة الدولة وهو ما لا يمكن القضاء عليه إلاّ عبر الآلية التي طرحناها.
غير أنّ هذه الآلية تبقى غير ذي جدوى إذا لم تنصهر صلب "منوال تنموي بديل" للقطاع الفلاحي وهو ما سنقترحه وسيكون محور مقالنا القادم.
الخاتمة
خلافا لكل بلدان العالم التي تكون فيها قاعدة العرض والطلب هي المحدّد الرئيسي للأسعار فإنّ من يتحكّم في هذه الأخيرة في تونس هي عصابات السماسرة والمحتكرين المرتبطة ببعض العائلات/اللوبيات الاقتصادية التي وضعت الاقتصاد التونسي في "جيوبها" وهو ما أكّدته عديد الدراسات أهمّها الدراسة الصادرة عن البنك العالمي وأيضا تصريحات السفير السابق للاتحاد الأوروبي في تونس "باتريس برغاميني" الذي أكّد انّ حوالي 10 عائلات في تونس تتحكّم في مفاصل الاقتصاد عبر الإحتكار وهو ما عرّفه بـ "عقلية اللُزمة العثمانية" وتمنع بالتالي صعود مستثمرين إقتصاديين جدد.
وفي هذا الإطار يتنزّل الإرتفاع المهول لأسعار المواد الغذائيّة في تونس والذي كانت له تداعيات سلبية جدّا على الأغلبية الساحقة من العائلات التونسية سواء منها المفقّرة والتي فاقت نسبتها ثلث الشعب التونسي خلافا لما يروّج له المعهد الوطني للإحصاء أو حتّى ما يسمّى بالطبقة الوسطى (البورجوازية الصغرى) إذ تفيد الإحصائيّات الرسميّة أنّ العائلات التونسيّة تخصّص أكثر من 30 % من ميزانيتها للغذاء. ولا أحد يمكنه أن ينكر اليوم أنّ الفقر المُدقع الذي تعيشه أغلب العائلات التونسية أجبرها على الإكتفاء بطبخ وجبات غذائيّة فاقدة للسعيرات الحراريّة الضروريّة للجسم (مقرونة مسموطة في الماء). علما وأنّ الإنسان بصفة عامّة والعامل بصفة خاصّة في حاجة إلى كمّية من "الكالوريهات" الضروريّة لتجديد طاقة الجسم حتّى يتمكّن من بيع قوت عمله. وللتدليل على مظاهر الفقر يُعتمد على مؤشّر "نموذج الإستهلاك" (Modèle de consommation) المعتمد في أي بلد. فإذا كان ذلك النموذج يعتمد بالأساس على الحبوب فإنّ الفقر متفش في ذلك البلد وهذا هو حال تونس حيث تُعتبر أكبر دولة مستهلكة للحبوب في العالم بمعدّل 258 كغ من الحبوب للفرد الواحد سنويّا بعد أن كانت الثانية بعد كازاخستان قبل 14 جانفي 2011 والمصنّفة هي أيضا من أفقر دول العالم. بالمقابل فإنّ مُعدّل إستهلاك المواطن التونسي من اللحوم شهد تقلّصا كبيرا خلال السنوات الأخيرة حيث نزل من 18 كغ سنة 1999 للشخص الواحد إلى 12.3 كغ حاليّا مقابل 24.6 كيلوغراما كمعدل استهلاك عالمي للفرد و60.2 كيلوغراما في أوروبا. علما وأنّ أسعار اللحوم الحمراء إرتفعت بأكثر من 30 % منذ سنة 2011.
أي أنّ غذاء التونسي فقير جدّا من البروتينات الحيوانيّة (لحوم وأسماك) اللازمة لتجديد طاقة الجسم.
أمام هذا الوضع الخطير وهذه الحقائق الدامغة وبعد أن كنّا سنطرح السّؤال التالي : أما آن للدولة التونسية أن تلتجأ للآلية الوحيدة لوضع حدّ لإرتفاع الأسعار والتصدّي لعصابات السماسرة والمحتكرين أم أنّها مرتاحة لهذه الوضعية ؟ ألم تتّعض الدولة إلى اليوم من قدرة عصابات السماسرة والمحتكرين على تحدّيها وإسقاط كلّ "قراراتها الترقيعيّة" ؟ وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكّر بقرار "تسقيف أسعار بيع البطاطا" (أو ما يُعرف بالتسعير لدى التجار) سنة 2017 في حدود دينار واحد (1 د) للكيلوغرام إذ بمجرّد صدور القرار غابت مادّة البطاطا تماما من أسواق الجملة لأنّ تلك العصابات لم تضخ كميات البطاطا المخزّنة لديها في تحدّ واضح للدولة لتجبرها على التراجع على قرارها.
لكن بعد القرارات الجريئة التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد يوم 25 جويلية وبالتالي إسقاط أتعس حكومة رجعية عميلة في تاريخ تونس ألا وهي حكومة هشام المشّيشي ، فإنّنا نأمل بأن تقوم الحكومة الجديدة بالأخذ بعين الإعتبار بهذا المُقترح حتّى تستقرّ أسعار المواد الفلاحية في تونس ويُصبح المواطن التونسي قادرا على ضمان غذاء يُوفّر له الطاقة الضرورية لبيع قوّة عمله.
أستاذ التعليم العالي الفلاحي - المعهد الوطني للبحوث الزراعية بتونس
تونس في 1 أوت 2021








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجيش الروسي يستهدف قطارا في -دونيتسك- ينقل أسلحة غربية


.. جامعة نورث إيسترن في بوسطن الأمريكية تغلق أبوابها ونائب رئيس




.. قبالة مقر البرلمان.. الشرطة الألمانية تفض بالقوة مخيما للمتض


.. مسؤولة إسرائيلية تصف أغلب شهداء غزة بالإرهابيين




.. قادة الجناح السياسي في حماس يميلون للتسويات لضمان بقائهم في