الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أبجديات القراءة لمشروع أحمد بوقراعة أنموذج - قصة: هيفاء البكر..للأديب التونسي/ أحمد بوقراعة.. للناقد المغربي/ المطفى بلعوام

محسن الطوخي

2021 / 8 / 2
الادب والفن


١
متفرد في أسلوبية لغته القصصية، بديع في تركيبتها النصية حيث كل لفظ له معنى وكل معنى له مبنى؛ ومبنى كل معنى يستقيه من تاريخ لغة الضاد كما معنى كل مبنى يجترحه من هموم العباد. إنه مايسترو فكر اللغة ولغة الفكر التي يحتفل بجمال روحها ويعري درر جواهرها في القص: الأستاذ أحمد بوقراعة. هو أستاذ من نصوصه، تشهد عليه وبصمته في إبداعه. مامعنى ذلك؟ المعنى في المبنى ومبناه في المشروع الذي يسكن، إن لم نقل يحرق الأستاذ الباحث عن تأصيل لغة القص من تاريخ فكر لغة الضاد وهَم فكر مضاد في عالم الارتداد. الشيء الذي يقتضي بمقتضى الحال احتياطات منهجية معرفية على أوجه متعددة في مناولة أي نص من نصوصه:
- أولا: بما أن نصوص الأستاذ تخضع بطريقة أو بأخرى إلى مشروعه في الكتابة القصصية التي تقوم على ركيزتي تثوير فنية لغة القصة من تاريخ لغة الضاد وما اعتراها من تبدلات في أشكال أسلوبية التعبير، معجميا وتركيبيا وبلاغة؛ وعلى سبر أغوار"ذات"، أي تلك التي تسكنها كما تُكَون وجودها بأسئلتها المقلقة والقلقة حول معنى وجودها؛ بما أن الأمر هو ما عليه، ينصه مشروع الأستاذ في نصوصه، فإننا لا يمكن مقاربتها إلا بالبحث فيما تُقدم من نوعية إبداعية في مسار تحولات الحركة الأدبية عامة. ولا يمكن قراءة نص له، وجعله مطية لتداعيات لغوية تَرْكب على همه دون الانشغال بمشروعه الأدبي الناظم لمنتجاته القصصية، والذي يمتح منه كل منتوج فيها، شرعيته ومشروعيته.
- ثانيا: وبناء عليه، يملي مشروعه الأدبي من حيث المنهاج أن نقرأ كتابته القصصية دون وصاية مرجعية في لوازم فن القصة القصيرة ومستلزماتها. نقلب شرطي المعادلة لتتحول
الصيغة من علاقة متبوع لتابع (تطبيق لوازم فن القصة القصيرة في تنظيرها الغربي) إلى علاقة إبداع يتبع ذاته حيث هو تابع ومتبوع فيما يبدعه ومن داخل ما أبدعته ثقافة لغته العربية.
- ثالثا: لا يمكن قراءته إلا داخل إشكاليته هو من منظور مصطلح القص وتجسيد سردياته في الموروث الأدبي العربي وبالتالي، تذييله في إشكالية علاقته بالمتلقي: ما محل الأخير من مشروع قصصي ينبني على موروث أدبي في لغته وبرموزه، أدبيا وفكريا؟
- رابعا: وهنا مربط المعضلة المرتبطة أساسا بالمصطلح النقدي وأسئلته على ذاته، بعيدا عن مشاكسة جدلية علاقته بموضوعه، أكان أدبيا أم لا أدبيا. فكثيرا ما نلحظ أن المقاربة النصية لأية مادة أدبية تتم وفق علاقة العبد بالسيد، بالتعبير الهيغلي للتوضيح. هو دوما - أي النص الأدبي- في حالة استجابة لما قد يستوجبه المصطلح النقدي من أسئلة تهمه أكثر ما تهم النص وتتضمن بالنهاية إجاباتها من قبيل تحصيل حاصل لما يريد أن يحصل عليه هو من النص، وليس ما قد يحصل عليه النص منه. فقد نستدعي كل العلوم/النسبية في علميتها آي في تصورها وفبركتها لنظرية مرتبطة بموضوعها ووفق مسلماتها الأولية، لكن قد لا نبالغ إذا قلنا إن هذا الاستدعاء لا يهم آي علم فيه غير ما يهم موضوعه. ينظر إلى النص من خلال ما يهم موضوع المعرفة التي تهمه هو في حقله المعرفي، وليس الذي يهم النص في ذاته. الشيء الذي يعني، وبكل بساطة مربكة استحالة وجود حقيقة مطلقة في "نقد"أي نص؛ لكل "ناقد" حقيقته ولكل حقيقة مضاداتها أي حقيقة أخرى…والشيء نفسه يمكن قوله حول مفهوم "النقد" الذي لم يعد يحمل إلا اسمه الفارغ من كل "هوية إبيستيمية" يمكن الاعتماد عليها في مقاربة النص الأدبي. إذ كل شيء أضحى بالنسبة له ذريعة لشريعة جديدة تقوم على قول ما لم يقله النص فتُقوله مادام يحمل رمزا من هنا وهناك - على سبيل المثال- وكأن هذا الرمز لا حدود له فيما يرمز؛ تجاوزا إذا كان بالفعل يرمز لشيء وله وظيفة في نسيج وبنية قصة النص.وبصريح العبارة، إنه ليس قصةَ قصةٍ، يركب عليها من أجل كتابة ما جاءت به بلغة أخرى؛ فلا يقدم لها قيمة مضافة، عدا إعادة كتابتها ب "شكل ثاني"..
٢
أقل ما يشترط من مقاربة نص الأستاذ أحمد بوقراعة أو نصوصه القصصية عامة؛ أن نبدأ ببديهيات هي من قبيل المعطى في المنهج وحسبما تشترطه:
- موقعها من داخل معايير القصة القصيرة
- موقعها في تاريخ تجليات القصة القصيرة، وأنماط تطور كتاباتها.
والمسألة هنا بسيطة جدا؛ فيكفي استطلاع التعاليق على نصوصه وما تعطيه للمعاينة- دون حاجة إلى فرز احصائي لها- لنلاحظ أنها تتمركز حول المحاور التالية:
- سرد بأسلوب القدامى، وخصيصا في صناعة السجع والجناس
- سرد على حدود فن المقامة والقصة القصيرة.
- سرد مبني على الإيقاع التضميني بكل تجلياته وفي غالبية القصص.
إنه حالة شاذة في فن القص الذي يدل عليه بتفرديته ويثير بالموازاة نوعا من الغرابة إزاء كاتب يكتب بأسلوب يبعثه من رماد أساليب القدامى، في عالم يجري وراء "لغة العصر". يضعنا توًا في لج اجتراحات القصة القصيرة وأسئلتها، بدءًا من مساءلة خياره لهذا النوع من الأسلوب في الكتابة القصصية ودلالاتها. بين لغة العصر في الكتابة القصصية وتطور هذه الأخيرة على مدى سنين خلت، لا يسع الباحث إلا أن يسجل زخم وكمية الإبداعات التي شهدتها في أنحاء المعمور وكذا فيضان زحمة المفاهيم والنظريات في زمن تتقاطع فيها العلوم بشتى أصناف فروعها؛ ويصعب هنا الإلمام بها في شكل جرد عام لما أتت به من جديد في الكتابة القصصية. غير أنه من الممكن اختيار زاوية معينة تماشيا مع غرض بحثنا، نطل بها على معالمها العامة. وتتمثل في النواة الأولى التي كونت القصة القصيرة في جانبها الشكلي :
- البنية — الحبكة — الحكاية
ستكون هذه النواة محورية لزمن طويل لأية
كتابة قصصية؛ يكفيها أن تنبني على تقديم وعرض وخاتمة بحبكة ذات ذروة تفضي إلى ما يسمى ب "السقطة". فلنا الحدث؛ يُطعم بتواليه الحبكة في تناميها في زمن ما ومكان ما وعبر شخصية ما. ويؤثت فضاءها الحوار والوصف بدرجات متفاوتة من جهة، وتحث إطار المحاكاة، محاكاة الواقع كناظم لها من جهة أخرى.
بعدها سنشهد حمى التجريب الذي سيطال كل عنصر من عناصر القصة القصيرة نتيجة تيارات مستوحاة من "فلسفات ومنطومات متعددة المشارب النظرية". فالواقع لم يعد هو الواقع كما كان في القصة القصيرة حيث أصبح واقعا آخر في إطار التجريب: الواقعية السحرية، العجائبية، الغرائبية، خارج الواقع وما فوق الواقع؛ عموما، أضحت الكتابة من التخييلي وبه، علميا أو لا، هاجسها في إبداع نمط آخر من القصة القصيرة.
كل عنصر من عناصر القصة القصيرة سيجد نفسه في محك عملية التقويض وبمسميات عديدة؛ فأحيانا:
-/ يغيب الحدث تماما: حدث بالقوة يصعب رسم ملامحه بالفعل في القصة.
-/ لا شيء غير الحدث: لا حادث له غير لغته التي تخفي حدوثه في القصة.
-/ تحل المشهدية محل الحبكة كقطعة في انتظار من يملأ فراغاتها "بقصة".
-/الحكاية ذاتها تصبح دون حكاية، شعلة في انتظار من يشعلها على هامش القصة.
وأحيانا أخرى، تطال عملية التقويض أشياء أخرى نحصرها في مجالين :
- فنية القصة —- لغة القص
تتلاشى خطية السرد في بعده الهرمي الذي يقتضي اتجاها واحدا : أ- ب؛ وتأخذ فنية
القصة أساليب متنوعة في فبركة معماريتها حيث لا حدث من وراء وأمام العقدة باتجاه الصعود/ السقوط، ولا نمطية في ترتيب وكذا تراتبية تفاصيل الحبكة: فنية المونتاج، فنية الكولاج، فنية اللوحات المتقطعة/ متقاطعة، فنية المتواليات ….
بينما لغة القص تتماهى ولغة الشعر مرتكزة أساسا على "جمل فعلية" تهدف إلى تحقيق درجة الصفر للوصف؛ وتلجأ لحذف علامات الترقيم، والاستغناء عن أدوات الوصل.. الخ.
٣
نصوص الأستاذ أحمد بوقراعة تقتضي، إذن، أن نتعامل معها من داخل إبداعات مشروع الكتابة القصصية الذي يحمل همه. إذ لسنا أمام كتابة قصصية، تقتضي البحث فيها عن معادل في معيار ومعايير القصة. ولكننا أمام كتابة قصصية تنتج مفهومها معا لفن القص ومعايير القصة: النص لا يمكن أن يًختزل في معادلة (تودوروف)، لكن حين يكون مبدعا لا يمكن له إلا أن يبدع أدوات القراءة التي نقرأ بها إبداعه.
على ماذا تقوم الكتابة القصصية في مشروع الأستاذ أحمد بوقراعة؟ وما هي موقعتها في
المشهد الأدبي؟ وكما قال أستاذي محسن الطوخي: من أي زمان يأتي هذا الحكي (في
قصصه). وهنا لنا الإجابة من خلال قصة :
—— هيفاء البكر —-
لمناقشة هذه الأسئلة، سنعتمد على بعض التوجهات الفرضية :
- نرى أن جل النصوص بما فيه نص الأستاذ أحمد بوقراعة تعتمد على السرد التضميني الذي نحدد وظيفته في ما يلي :
وظيفة التضمين: توليد شيء من شيء آخر لا علاقة له به فيما ينتهي إليه من معنى؛ شيء آخر بالضرورة حتى ولو كان لا مناص له منها وتلك ميزته في تطويع الشيء من مبناه في تداخل معناه.
لا يتعلق الأمر فقط بتقنية بل بماهية.
- تحتل لغة القص الصدارة في القصة؛ لغة مفخخة باستنباط ذاكرة لغة الضاد وتجليات فكرها عبر تاريخها الأدبي. وهنا استثمار فكر اللغة في بنينة أشكال الفكر وكيفية التفكير من حيث المنطق الصوري في موضوعاته. مثال، الجمل القصيرة في شكلها الصوري. علاوة على أنها تلعب دور فاعل قصصي من أجل جمالية وحساسية جديدة.
- نجد أن مفهوم "البنية المعرفية" للأديب سليمان جمعة له إجرائية خصبة في نصوص الأستاذ أحمد بوقراعة.
٤
ننصت إلى النص وفق ما يعطيه للمعاينة:
- الموقع الذي يأتي منه الكلام
- المتلفظ للكلام
- طبيعة ملفوظ الكلام
ثم نرى ما يمليه علينا من أدوات في قراءة
مجموع الكلام وعلاقته بالقصة القصيرة.
في الظاهر، لنا لغة الراوي في السرد، ولغة
المروي عنه التي يأتي بها الراوي؛ وعينة من لغة كل منهما كافية لتقريب وتلمس طبيعة الكلام فيهما.
أ- لغة المروي عنه:
——
قال: من تراب أو رمل ينفخ فيه النافخ بنار فيستوي أشكالا
ليقول: العمر كالزجاج إذا تكسر لا يعاد له سبك
همس: أصبحت أطوع خلق الله كلهم
(قال)- حدثت عيناها ب " هيث لك"
أقول في نفسي: لعلها ليست ممن خلق في أحسن تقويم
/-
ملفوظ المروي عنه مفخخ على مدى السرد فهو يتكلم بكلام غيره كما لو أنه كلامه، دون إشارة على إحالة أو مرجعية. إنه كلامه الذي يقوله في مقصوده، ولا يهم إن كان لغيره أو لغير غيره ما دام متقمصا الكلام وساكنا له:
- همس: أصبحت أطوع خلق الله كله
هنا المروي عنه يهمس بالذي أصبح عليه؛ فما تلفظ به يعنيه من موقف أنه هو مالك الملفوظ في تلفظه ولا يدل على أنه لغيره. تاء "أصبحت"؛ هي ضمير متصل مبني على الضم في رفع فاعل. الملفوظ يعبر إذن عن حالة فعل فاعل ومفعول به.
( نترك مؤقتا دلالة وموقع كلمات الملفوظ؛ إنها مفاتيح النص كله: أصبحت ——- أمسى.. (في الهمس) / أطوع — الطاعة/ الخلق/ الله، التي تحتاج إلى مقاربة سيميائية.)
- ليقول: العمر كالزجاج إذا تكسر لا يعاد له سبك
هو الزجاج يتكلم عن تجربة ويربط ما يعرف (تشكيل الزجاج) بما كان لا يعرفه عن العمر: وجه الشبه استحالة ترميم شيء فاقد بالقوة وفي بنيته، قابلية الترميم. زمن المعرفة غير هو زمن التجربة.
- قال: من تراب أو رمل ينفخ فيه النافخ بنار فيستوي أشكالا.
ملفوظ يحمل دلالته في ذاته وعمل "زجاج"
في علاقته بمادة العمل الزجاج الذي يكون
منه مادة تفكيره بالحياة والعمر ..
- (قال)- حدثت عينها ب "هيت لك"
لعلها الصيغة الوحيدة التي تأتي مرفوقة في النص بعلامة التنصيص "هيت لك". هل هو استعارة، اقتباس أو تناص جاء بعد حين؟
- أقول في نفسي: لعلها ليست ممن خلقت في أحسن تقويم
المسرود عنه يتلفظ بملفوظ في محادثة مع نفسه؛ كلمات ملفوظه مرتبطة به من حيث هو متلفظ لها وتعبر عنه، لا أقل ولا أكثر في سياق التلفظ.

إلى حد هنا، نلاحظ أن ملفوظات المسرود عنه مشبعة بدلالاتها ولاتحتاج إلى "قاريء عليم" بأصلها كي يفهم المعنى الذي تحيل إليه؛ فمعناها في اتساق مع مجريات السرد.
لكن السؤال الممكن طرحه هنا:
من هذا المروي عنه الذي يتكلم "كلاما" غير عادي؟ وكيف يمكن له ذلك مع "أناس" جد عاديين؟ يجيبنا الراوي بلغته الخاصة.
ب- لغة الراوي
———
وأمسى قليل المحادثة رغم سرد الناس عنه عجيب المقال وطريف الكلام
واعتقد بعض الناس أنه تحول صوفيا ما تحت الجبة سوى الله
ومنهم من يقول إذا سمع منه كلاما وزنا ومعنى ذاهبا في الايغال ومقصدا يحار الوهم فيه تخييلا "إن المعرفة تورث النصب والنصب يوجع النفس ويقطع الأنفاس
ومن الناس من أوغل فيه قبحا جاء لا يعلم من أين ( كما يوسف)
ويدمنها الباحثون عن العيون التي في طرفها حور وحول
وعاد يذكر تلك الليلة (..) امتدت يدي
/-
ملفوظ الراوي لا يختلف عن ملفوظ المروي عنه، في تركيبه وإيجاز العبارة فيه كما لو أن بينهما لعبة مرايا. ويحمل هو الآخر مقصود معناه دون حاجة إلى انزياحات مرجعية.
- الراوي : رغم سرد الناس عنه عجيب المقال وطريف الكلام
المروي عنه يتميز حسب الناس بطرافة في الكلام وعجب في المقال. له لغة غير عادية وخاصة به لكنها مستحبة. من الأول، نعرف أنها تحقق ايصال الرسالة في علاقة المرسل بالمرسل إليه.
- واعتقد بعض الناس أنه تحول صوفيا ما تحت الجبة سوى الله
في نفس السياق السيميائي، نجد "تحول— أصبح—- أمسى" / ما تحت الجبة سوى الله —— أطوع خلق الله كلهم". إننا هنا في حيّز اعتقاد الناس الذي يحتمل الصحة وعدمها، لكن هل لها علاقة بما قيل عنه كونه عجيب المقال وطريف الكلام؟ هل تحوله "صوفيا" كان استنباطا من سلوكه وليس من لغته بما أنه كان قبل التحول، عجيب المقال وطريف الكلام؟
- ومنهم من يقول إذا سمع كلاما (..) يحار الوهم فيه تخييلا:" إن المعرفة تورث النصب والنصب يوجع النفس ويقطع الأنفاس."
لم نبق في مدار الرصد. فدرجات المقال في طبقات الكلام عندما توغل في المعنى تحتم تعليلا نظرا لتكسير قناة توصيل الرسالة بين المرسل والمرسل إليه. إنها "المعرفة" دون تحديد طبيعتها ولا كنهها، عدا أنها "معرفة شقية".
- ومن الناس من أوغل فيه قبحا جاء لا يعلم من أين
يحمل ملفوظ الراوي معلومة كأنه يمر عليها مر الكرام/ جاء لا يعلم من أين/. لكنها مثقلة
الدلالة في اختراقها لملفوظات المروي عنه.
- ويدمنها الباحثون عن العيون التي في طرفها حور وحول
لعبة مرايا بين الراوي والمروي عنه؛ تسقط فيها مسافة السرد بينهما.
- وعاد يذكر تلك الليلة (..) امتدت يدي.
هنا بعثرة الأوراق بين الراوي والمروي عنه، وكأنها نفس لعبة المرايا، يختلط على الراوي ضمير الغَائِبِ بضمير المتكلم، فلا نعرف من يتكلم: الراوي، المروي عنه، الكاتب ذاته.
٥
كانت غاية القراءة الأولية لبعض مقتطفات قصة الأستاذ أحمد بوقراعة أن تظهر إمكانية قراءتها "خطيا"، تبعا لخطية السرد فيها أي اعتبارها نصا في حد ذاتها ولا تحتاج انطلاقا من ذلك إلى نص أو نصوص أخرى مبطنة أو
غائبة لقراءتها. لكن لنرفع درجة القراءة على خلفية الدرس النقدي.
أول ما يلاحظ عامة أن لغة النص من طبيعة كلامية خاصة، وهي تبدو في ظاهرها عبارة عن مجموعة اقتباسات تراثية تطعم الحكاية التي يبنى مجراها الراوي عبر محكي الزجاج لصديقه. نقول ظاهرها باعتبار أنها المعطى في النص ولا تمثل حقيقته على أنه نص في نص يخلق نصا متفردا يتميز الأستاذ أحمد بوقراعة في صنعه وإبداع صنعته. وبطريقة أخرى: " الموضوع المعطى هو النص، بينما الموضوع المبني (المصنوع) هو التناصية (ميشال أريڤي). لكن هل هناك فعلا اقتباس أو تضمين في نص الأستاذ أحمد بوقراعة وما معنى فرضيتنا المتعلقة بما اطلقنا عليه "السرد التضميني"؟
أولا: التضمين هو تقنية من قبيل الاستعارة في البلاغة؛ولها تعريفات كثيرة نأخذ واحدة
منها: "إشراب لفظ معنى لفظ آخر، واعطاؤه حكمه؛ لتصير الكلمة تؤدي معنى الكلمتين"
( مغنى اللبيب). قد نقول إن نص الأستاذ أحمد بوقراعة يعتمد أولا وأخيرا على تقنية التضمين، وخصوصا بالنسبة للمقاطع التي يمكن الحصول على أصحابها بسهولة. غير أن نصه يذهب أبعد من ذلك؛ كله عبارة عن لغة تضمينية: كلمة (ضلع مثلا)، جملة ( من أين جاء / قصة يوسف )…إنه لا يستعير قولا
في قصة ولكنه يكتب ماهية نمط من كتابة القصة القصيرة التي يمكن تسميتها بالقصة التركيبية، أي المركبة كلها من أصوات نص أو نصوص أخرى، بما فيها الراوي والمروي عنه. لنشرح؛
اعتدنا عندما نتعامل مع تداخل النصوص في نص أو التناص أن نميز بين نوعين:
-التناص العشوائي الذي لا يمثل غير خلفية ثقافية، "ذاكرة دائرية"؛ تطعم ولكن لا تؤثر في معنى النص إذا تجاهلنا مرجعية النص المناص.
-التناص الإلزامي: هنا إلزامية معرفة النص المتناصة في معرفة المعنى
(مرجع رفاتير)
-التناص التركيبي الذي نضيفه انطلاقا مما يبدعه الأستاذ أحمد بوقراعة في الكتابة القصصية، أي القصة التركيبة؛ وهي تتميز بخاصتين : أولا، تضم التناص العشوائي والتناص الإلزامي. تانيا: أن لها بنية تناصية في كتابة القصة القصيرة، تشكل هويتها وماهيتها. وعليه، تتوفر على ميزة القراءة المزدوجة : خطية وغير خطية تكسر بها قواعد القصة القصيرة.
٦
تلك هي قصة الأستاذ أحمد بوقراعة: صوت لأصوات في أصوات لصوت. صوت خطابات يتحدد بها المروي عنه الذي لا صوت له غير المتعدد بصيغة الواحد؛ هذا الواحد الفاقد، على الأقل، الباحث عن صورة لهوية صوته.
فنحن حياله لسنا أمام "شخصية" بالمفهوم المتعارف عليه في القصة القصيرة؛ ولا أمام "بوليفونية" غارقة مفهوميا في صور محاكاة "الواقع"؛ ولسنا أيضا أمام شخصية من ورق
ولكن أمام "شخصية" مفبركة من ذاكرة لغة ولغة ذاكرة، من كلمات تجترح أشياء الحياة وحياة أصوات احترقت بها في أقصى حالات عشقها بها. فكائنات اللغة وإمكاناتها الكبيرة التي تعج بها وتمنحها لتشكيل أي تعبير هي خلاصه، غريب المقال عجيب الكلام، لا مفر له منه؛ هو الكلام في غريب أطواره لحظة أو حُلْم لحظة للإجابة عن سؤال عديم الجواب إلا في طرحه من حيث هو معرفة اللامعرفة؛ لا يعرف من أين جاء، إنه عارف، يعرف شيئا يجهل معرفته به كما هم الباحثون عن أصل
الفَصل، فلا يجدون غير اللغة كإجابة معلقة دوما وأبدا. وإذن ليس بحثا عن حلم مفقود
بقدر ما هو سؤال حول ضرورة السؤال ذاته ومساءلة الوجود.لكن لم السؤال من الأصل. جوابه يكمن في كم الاستدعاءات التي يقوم بها منذ المتخيل الثقافي وتمظهرات تاريخه
وأدبياته. من أين جاء؟ يفتح محتمل الجواب باتجاهين: اتجاه ذاكرة ذاتية وذاكرة ثقافية. لكنهما في العمق يصبان في اتجاه واحد، ألا وهو موضعة "الآخر" في مواجهة اتجاهاته؛ ومعنى الآخر، ما لا هو فيما هو، هو الفضاء الذي يطرح فيه على (الذات) سؤال وجودها على اعتبار أن "رسالتنا"، في اللغة، تأتينا من الآخر"-جاك لاكان. وفي قصة "هيفاء البكر" يتموقع"الآخر" بافتراض أنه فضاء حاضر في غيابه في لغة المروي عنه والراوي؛هو فضاء المتخيل الثقافي باللغة العربية في تناقضاته وإشكالاته الحاضرة في غياب "حقيقة الذات الآنية" وعلاقاتها بتاريخها؛ إنه نوع من تلك الغرابة المألوفة؛نمجد بها اللغة العربية وفي ذات الآن نرميها في مكان ما، حيث الأطلال وقوافي لحن الحياة؛ نقرأ تاريخها وقراءة لغة القصة هنا بذاكرة وتاريخ الآخر حيت رموزه - روسيين، فرنسيين،امريكيين، ومن كل بلاد العجم أجمعين-حالة سكيزوفرينية سعيدة.
لمن يكتب إذن الأستاذ أحمد بوقراعة بهذه اللغة الآتية من عمق المنسي المهمش فينا؟
يكتب لنفسه أولا وأخيرا؛ ولربما لقاريء بلا طاعة لكن له استطاعة التمرد على هذه السكيزوفرينيا السعيدة. فلا رهان على قارئ مادام الأستاذ أحمد بوقراعة يقوض في جل كتاباته منطق قانون العرض والطلب:
القاريء يريد - الشعب يريد ..فهو ذا منطق العرض والطلب في قرية العالم الصغيرة.
وأخيرًا، نشير فقط إلى خاصيتين لا يسمح المقام ولا الوَقْتِ لتناولهما تدقيقا:
أولا: إن الأستاذ أحمد بوقراعة يكتب بلغة المنطق ومنطق اللغة التي اعتمد الغرب عليها كثيرا - وخصوصا ابن سينا- في تطوير علم المنطق وعلم اللغة.
ثانيا : إن "البلاغة"- مجازا- التي يستعملها
ليست زخرفة لغوية يمكن الحكم عليها بالترهل، إنها جزء لا يتجزا من عملية الإدراك.
المصفى بلعوام/ المغرب
_______
النص:
هيفاء البكر
أمسى غريبا في أعين الناس، وأمره أمسى مسترابا. وأمسى قليل المحادثة رغم سرد الناس عنه عجيب المقال وطريف الكلام. ورغم طلب الناس مجالسته إلا أنّه قد أمسى طالبا للهجر والمباعدة. إذا اشرقت شمس الصباح التفت الى المغرب كأنه يطوي في نفسه المكان والزمان. وإذا أظلم الكون غاص من نظره في ظلمة السماء كأنّه يحدّق فيما خلفها.
يعمل رغم حذقه صناعة الزجاج، ما يدفع عنه الجوع ويقي جسمه حرًا أو بردًا. إذا سأله بعض خلّانه في صناعته قال :" من تراب أو رمل ينفخ فيه النافخ بنار فيستوي أشكالا …" ثم يبتسم ابتسامةً خفيفةً لم يعرف أصدقاؤه أهي سخرية أم توجّع أم مخزون رئة غصّت بالدخان أم مجاملة جلّاسِ لألفةِ وإيناسِ ليقول:" كذا العمر كالزّجاج اذا تكسّر لا يعاد له سبكُ."
أمسي فريدا، وقد كان ذا صحبة، وكثيرًا ما أمسى لنفسه رفيقا، وقد كان ذا رفقة وليس يدري أحدٌ هل في وحدته هو بنفسه رفيق ولها صديق.
واعتقد بعض الناس انه تحوّل صوفيّا ما تحت الجبّة سوى الله ساكن في أعماقه مسكينا لفظ الحياة أو لفظته ومنهم من يقول إذا سمع منه كلامًا وزنًا ومعنى ذاهبا في الايغال ومقصدًا يحار الوهم فيه تخييلا" إنّ المعرفة تُورثُ النّصب والنّصب يُوجع النفس ويقطع الأنفاس. "ومن الناس من أوغل فيه قبحًا جاء لا يعلم من أين ولكنه أتى ربّته عاقرٌ أحسنت اليه وعلّمته. وأحزنه قول الناس فيه ذلك. وما سمع منهم جميعا قولا الا إبتسم تلك الابتسامة المبهمة، وما سمع قط أذيّةً الا طأطأ لها رأسه حتى تمرّ وذلك ما زاد الناس فيه حيرة.
كان بيت أهله الى جوار حديقة تحكي أشجارها قدمها .بها برك ماء ونافورة ومقاه ومساحات ترفيه وألعاب حديقة يهرع الناس اليها هربا من ضيق السكن وزحمة الشوارع، ويحبها الأطفال للّعب ويدمنها الباحثون عن العيون التي في طرفها حور وحول وتقصدها اللاواتي يبتن في غير سريرهنّ حديقة هرّأت الأقدام أرضها وحفّر العابثون جذوع أشجارها ولم يبق فيها سوى قرد عجوز وفيل تكسّر نابه كسولِ وأسد استأنس فعاد كأنه سليل كلاب الديار، وفيها طير الأسطح وحمام يلتقط ما يلقي الصّغار.
كان جالسا الى صديق في مقهى الحديقة. نساء و رجال وخلق مختلفٌ كثير. جارِ وماش وقاعد وساكن رصين وصائحٌ متهافت وجميل ومتجمّل وعيون هادئة وأخرى مغازلة. وبلحن مطرب هزج "بات يغني عميد القلب سكرانا" صدح العندليب بصوت مؤنق: "جلست والخوف بعينيها ….. قالت يا ولدي لا تحزن…"
"يا ولدي لا تحزن غرّنا ظاهرها وأعمانا جوارها وقربها. ولعمري إنّ العيون لتخطئ واليقين لا يدركُ إلاّ بالعراء والتعرية، وأما الجوار فالمعروف مُبْعِدٌ كل ظنّ وشكّ وريبةٍ لقد كانت أجمل بنات الحيّ. ثوب نقي يكسو لحما طريًّا يكاد يكشف عن عظم صحيح قوي وجهٌ زهر يسقيه طلّ الرياحين عبقا وعطرًا عينان غابة تخيل ساعة السحر وخدان منهما الاقحوان وثغر يفرّج عن لؤلؤ مكنون و سحر الناافثتين في العقد شعر لو تعرّى سبائك من ذهب يزيّن قدّا مقدودا وظلا ممدودا أردتها زوجة لك تنعم بها والى جوارها لذّه للعين وللشار بين مزاجها كافور وزنجبيلا. هيفاء وهي بكر."
و بصوت كاد يسمعه رفيقه همس"أصبحت أطوع خلق الله كلهم"
فتلقّفها منه صديقه و قد كاد يألف منه ما ينفلت من شفتيه فقال له: "إنّما الطّاعة من الإستطاعة و مصاحبة النفس للراحة و الأمن" فالتفت إليه راضيا عنه. و شغلته كلمة "مصاحبة" و مسح بيده وجهه فانغمضت عيناه و كاد يرى من ربّته واقفة أمامه ترتّب هندامه و تبعد شعرا عن عينيه فرحة به تقول: " ستصبح بها يا ولدي أسعد الناس و ستصبح الخير و المتعة و الرّفاه و النعيم، تشرب من تسنيم و تجني فاكهة و تخلد في السرّاء فأنت سامرّاء، ستصبح أبا يداعب أولادا من فتاة عشقها من رآها و من سمع بها، فما حال من سيزيل إذن قشرتها عن حلاوة و طراوة حبّتها .
و فتح عينيه فرأى الساحة عامرة باللهو و اللعب و بدأت شمس الأصيل تنذر باحتضار نورها. وهفت الكبار و سرح الشباب بين فرح برفقة لليلة و بين من تثاقلت خطاه خيبة. و تهافت الصّغار يتسابقون و يتراشقون بالورق يكوّرونه أو بقشور بعض الفواكه و الغلال. و يسمع بعض العمّال يقول: " تعب كلها الحياة… حظّنا أن نجمع القشور" فطأطأ له رأسه و عاد يذكر تلك الليلة. ليلة غلّقت عليه و على زوجته الأبواب. وأبدت هيفاء حشمة و حدّثت عيناها:بِ "هيت لك" ثوبٌ فضفاضٌ زينةٌ و وجهٌ تأخذ منه الزينة بعض حظّها و تحضُّ. و امتدّت يدي تقبّل يدها فارتدّت خاسئةً و ارتدّت شفتاي من غبرة علقت بهما أنكرها لساني كالملح. و مددتُ يدي أنزع عن رأسها تاجا فانسحب معه شعر قد تدلّى مذهّب مستعار و كشف عن آخر أسود مجعّد لا يطال أذنيها. و قلت في نفسي لعلّ فستانها الفضفاض الجميل يخفي أرضا عذراء خصبة نديّة و طريّة سهلة الحرث تمنّي بزرع يهيج أغيظ به الحاسدين. و لمّا أسدلت الضياء عن الظلام ظهرت ركيزتان ضعيفتان مستقيمتان فوقهما قفص يكاد يكشف عن عضلة تضخُّ ضخَّ المتعب و لا وسط بينهما و للقفص مجدافان طويل و قصير فمسست الطويل فوخزني القصير فأصاب وجهي و أدمى عيني، فانسحبت خائفا مذعورا أقول في نفسي: " لعلّها ليست ممّن خلق في أحسن تقويم".
و بعد صمت طويل سمعه رفيقه يقول" كانت تبدو مسرة للناظرين… فأمسيت بعد ذلك…"
فقال له صديقه بصوت مرتفع: نعم لقد ذهب المساء و غادر الحديقة كلّ من كان يسرّ الناظرين و لم يبق فيها غير أشباه القبح. فهلّا عدنا. فتركا المكان على صوت العندليب: ( قد تغدو امراة يا ولدي يهواها القلب هي الدنيا… و طريقك مسدود يا ولدي…)
أحمد أبو قراعة/ تونس








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟