الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


«القصابي» بحوض ملوية، المغرب ـ فصول من الذاكرة الجماعية ـ

لحسن ايت الفقيه
(Ait -elfakih Lahcen)

2021 / 8 / 3
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


«دأب الكتاب والفنانون ومشاهير السياسة والفكر والعلوم وغيرهم على تدوين تجاربهم وما راكموه من الأحداث والتحولات العامة والخاصة ضمن كراسات يصدرونها في أواخر حياتهم»، الصفحة 8 من كتاب «مطرز الكلام في الحكي والأنغام»، لصاحبه الأستاذ محمد افضيلي. والمناسبة ليست نهاية حياة شخص، لأن لا أحد يحس بدنو أجل هلاكه، بل المناسبة بسط تجربة لذاكرة شخص الأستاذ محمد افضيلي مضمنة في كتاب صدرت الطبعة الثانية منه عن مطبعة أصكوم، القنيطرة المغرب، قبل أشهر. والذي جعل الكتاب ذا أهمية أنه ««القصابي» تلك القرية الوديعة عند منحنى ملوية أو «أم الأولياء»»، يقول الدكتور عبد الكريم الرحيوي، وهو يقدم الكتاب (الصفحة 10) ليلائم اسم ملوية والتصوف الطرقي التي تحتضنها. وتنبغي الإشارة إلى أن ملوية هي مالوشا في العصر التاريخي القديم، كما وردت عند الكتاب الكلاسيكيين أمثال بلين وسالوست، وأريد لها، في القرن الثاني قبل الميلاد أن تكون حدا فاصلا بين مملكة بوكوس ومملكة يوغرطة، بين موريطانيا ونوميديا. وأما ««القصابي» فهي مجموعة من القصور القديمة الواقعة على ضفتي نهر ملوية في نقطة المنتصف بين ميدلت وميسور على السفح الشمالي الشرقي للأطلس الكبير»، (الصفحة 144). أو ليست مجموعة من القصبات التي تتصدرها قصبة السلطان المغربي المولى إسماعيل المشيدة سنة 1685 لتطويق سكان الجبال؟ ماذا بقي من تلك القصبات؟
تعد «القصابي» «القصابي» عنوانا للتعدد الثقافي كالقرى التي تعبرها الطريق التجارية سجلماسة فاس، النزالة، وكرس لوين، وأشبارو، وسيدي بوعبد الله، لذلك عرفت «القصابي» «أوج ازدهارها مع ركاب القوافل التجارية»، ثم «السكة الحديدية سنوات الاستعمار»، وأريد لها أن تتسم بالتعايش الديني، إذ أحس اليهود أنها ملاذ آمن فاستقروا «فيها جنبا إلى جنب مع الفرنسيس المستعمر»، (الصفحة 10).
والكتاب، بما هو ذاكرة شخص عاش في مجموعة قروية متجانسة عرفت التعدد الإثني ومختلف المؤثرات الحضارية التي تحملها الطريق الرابطة بين فاس وأفريقيا جنوب الصحراء. إن قراءة «مطرز الكلام في الحكي والأنغام»، معناها العروج إلى الحدث في وجهه التراكمي التصاعدي دون نفي الثابت من القيم الإنسانية في وسط يأبى أن يتخلى عن ثقافة تافيلالت.
والكتاب حفريات «في أبرز البنيات الطبيعية والبشرية و[في] المحطات الأساسية والمظاهر الاجتماعية والأنثروبولوجية التي ميزت حياة الأسرة والعشيرة والبلدة»، (الصفحة13). وللكتاب غايتان زمانيتان «من سنة 1948 إلى سنة 2014»، فترة «تبلور من خلالها وعي الذات بالذات وبالآخر» ليدرك الكاتب ما تجب كتابته، و«ما لا ينبغي الالتفات إليه، أو بالأحرى السكوت عنه أو الإيحاء إليه»، (الصفحة 14).
لن تجري القراءة التفصيلية لكتاب متوسط الحجم يداني 272 صفحة، ولكن لا بد من ملامسة الكتاب من حيث أربعة أبعاد على الأقل: البعد التاريخي، والبعد الحضاري، وبعد الذاكرة الجماعية، وبعد التعدد الثقافي، وبعد التحولات القروية. وتظل هذه الأبعاد امتدادا لمادة الكتاب التي وصفها الكاتب أنها «خواطر تزاحمت في الذات حتى الطفح»، أي: إن المادة فصول من الذاكرة الفردية، وجبت ملاءمتها لتغشى الذاكرة الجماعية، وتكييفها لتدق أبواب التاريخ بمسار التاريخ، الطريق التجارية سجلماسة فاس، الطريق الحديدية التي أهلتها فرنسا لاستنزاف خيرا الأطلس الكبير الشرقي والأطلس المتوسط الهضبي. ليدق الكتاب أبواب التاريخ لأن «القصابي» نواة حضرية بحوض ملوية فكرت فرنسا في إحداثها قبل أن يستقر رأيها على اختيار ميدلت. ويقتصر البعد الحضاري على التراث المادي الذي بات يذكرنا بعالم من التعود والتقاليد الشفاهية ذات الصلة بتافيلالت. ولبعد التعدد الثقافي دلالة في مجموعة «القصابي» لأن العنصر اليهودي ساهم في تنمية المهارات، وضمان مقومات الدفاع الذاتي بتوفير السلاح لسكان المجموعة العمرانية، وبالتشبع بثقافة الخوف التي تتراءى في المعمار خاصة في القرى التي تمكننا من زيارتها مع ثلة من الباحثين يوم الأحد 11 من شهر يوليوز من العام 2021.
يبقى سؤال واحد عالقا: هل حافظت «القصابي» على ما يجب الحفاظ عليه أمام التحولات القروية التي شهدها الريف المغربي ابتداء من السبعينيات من القرن الماضي؟ وبعبارة أخرى هل تمكننا مادة الكتاب من إعادة تشكيل صورة «القصابي» لتحاكي الوجه الذي تزامن وبداية استقلال المغرب؟
يبدو الكتاب في حاجة إلى مجهود مضاعف لتضمنه مادة ثمينة.
1- البعد التاريخي
وردت بعض الإشارات التاريخية في «مطرز الكلام في الحكي والأنغام» نحو استقلال المغرب. وحسنا أنه لما «بدأت الشمس تقترب من المغيب، وهي تجنح للأفول، تناهى إلى أسماعنا... صيحات وهتافات الوطنيين الذين قدموا لإشاعة الخبر السعيد... خبر قرب عودة ملك المغرب محمد بن يوسف من المنفى واستقلال المغرب»، (الصفحة 44). ماذا سيحمل استقلال المغرب لمجموعة «القصابي» القروية؟ ربما سيحمل أمل نهاية «قواد الاستعمار الذين ابتلعوا ألسنتهم وانتهت سطوتهم وتحطمت صولتهم وانكسرت شوكتهم»، (الصفحة 44). لماذا مالت ذاكرة الكاتب إلى القواد؟ وما علاقة مجموعة «القصابي» ببطش القواد؟
وجد «الخليفة ذريعة للتسلط على الوالد وتحقيره»، (الصفحة 39). وقد سيق «إلى السجن بالقصبة، يسلم إلى المخزني المكلف بالحراسة الذي كان أرحم من السجان»، (الصفحة 40). ورغم أن مجموعة «القصابي» القروية حظيت بتقدير سلاطين المغرب في عهد الدولة العلوية، فإنها لم تنج المنطقة من بطش القواد لأنها «إحدى المحطات الأساسية التي كانت تعبرها القوافل التجارية الرابطة بين سجلماسة وفاس عبر طريق السلطان...بنى بها السلطان مولاي الحسن الأول قصبة كبيرة كانت تؤمن حركاته نحو تافيلالت عبر فج تيزي انتلغمت، استقر بها أهل المخزن وحفظة الأمن»، (الصفحة 146 وما بعدها). وفي عهد الحماية الفرنسية أصبحت مركزا عسكريا للفيلق الأجنبي الفرنسي لغاية «استتباب الأمن وتطويع القبائل الجبلية الثائرة»، (الصفحة 147). ولايزال أثار بناية التحكم، دار المخزن، قائما محففا بشجيرات مجلوبة «Ailante glanduleux»، أورد الكاتب صورتها في الصفحة 147.
2- البعد الحضاري
يتجلى البعد الحضاري كما سلفت إليه الإشارة في التراث المادي الذي لا يزال يقاوم الدهر. فلا يمكن الحديث عن «القصابي» دون تذكر القطار الذي كان «يربط مدينة كرسيف بميدلت عبر ميسور انطلاقا من الجزائر»، ودون تذكر «لاكار»، (الصفحة 153). وتعد محطة القطار وجها من أوجه التراث المادي في عهد الحماية الفرنسية إلى جانب القاعدة العسكرية الأمامية. وهناك دار المخزن المشار إليها والأبواب والأبراج «أبواب قديمة (أبواب القصور) خضعت لنظام مضبوط ومحكم من حيث تنظيم الدخول والخروج على غرار ما هو معروف في القصور الفيلالية»، (الصفحة 154)، نسبة إلى سهل تافيلالت بجنوب شرق المغرب.
وتوجد بالقصابي بصمات العمارة التركية. فبعد اتخاذ قرار ترميم المسجد القديم جرى إسناد مهمة الإشراف على البناء إلى مهندس تركي سجن لدى فرنسا سنة 1942 ونقل إلى مركز ميسور بالمغرب. أبدع السجين وشيد منارة ثمانية الأضلاع.
وكما سلفت إليه الإشارة «حظيت القصابي باهتمام فائق من طرف ملوك الدولة العلوية»، (الصفحة 159)، لذلك منح لأهلها حق استغلال موارد الغاسول وهي «مادة طينية تستعمل في تليين الشعر والبشرة وصناعة مواد التجميل والصيدلة»، (هامش 112، صفحة 159)، لكن وضع المقلع تغير منذ عهد الحماية الفرنسية ولم يعد أهل «القصابي» يستفيدون شيئا منه، إذ سلم لإحدى العائلات خارج المنطقة. ويظل المقلع وجها حضاريا يؤرخ لاستغلال خيرات الأرض بحوض ملوية.
وفصل الكاتب الكلام في الأعراس في الصفحة 197 وما بعدها.
3- بعد الذاكرة الجماعية
«مطرز الكلام في الحكي والأنغام»، وإن ابتغى الأستاذ محمد افضيلي أن يكون سيرة ذاتية فهو مسجور بفصول من الذاكرة الجماعية إلى جانب الذاكرة الفردية. فمن جوانب الذاكرة ذاكرة الطقوس والتعود، والدخول المدرسي، وحرب الرمال، وذاكرة المكان.
- ذاكرة الطقوس والتعود. «في جناح النساء، لا أحد من الرجال يجرؤ على دخول هذا الفضاء الأطفال والصبية فقط، ولهذا حق لي أن أتحدث عن طقوس النساء»، (الصفحة 27).
- «يأتي شهر أكتوبر من السنة نفسها، يساق الأتراب إلى ما يسمى «ليكول» (بالقشلة) على الضفة الأخرى من النهر تحت تهديدات السيد الخليفة للآباء بالسجن في حالة عدم الامتثال، وهم الذين يعتبرون أن مدارس النصارى هذه سوف تكون وبالا على الأبناء...»، (الصفحة 35). إنه شهر أكتوبر من سنة 1953 حيث يصادف الدخول المدرسي الفاتح منه، وظل الدخول المدرسي في موعده إلى حدود سنة 1974. وبقي شهر أكتوبر يذكر الأجيال السابقة بموعد الذهاب إلى المدرسة التي كان يطلق عليها اسم (ليكول)، «école» بالفرنسية. وغالبا ما بنيت المدارس الأولى بالوسط القروي قرب المعسكرات الفرنسية، قرب (القشلة).
- وترك الحرب وقعا في الذاكرة. «ثم رأيتهم مرة أخرى يتحدثون عن حرب ادزاير (الجزائر، وعن حرب الفيتنام (الأندوشين) وكأنها على بعد مسيرة يوم أو بضعة أيام فقط»، (الصفحة 73).
- ولم يخل الكتاب من ذاكرة المكان في مواضع متعددة. ويعنينا أن «القصابي» «مجموعة من القصور القديمة الواقعة على ضفتي نهر ملوية في نقطة المنتصف بين ميدلت وميسور على السفح الشمالي الشرقي للأطلس الكبير»، (الصفحة 144).
- 4 بعد التعدد الثقافي
- «كل ما تختزنه الرواية الشفوية والذاكرة الشعبية» أن أقدم سكان سكان مجموعة «القصابي» «هم بنو احسن الذين رحل السواد الأعظم منهم عنها بفعل نوبات الجفاف التي ضربت ملوية قديما، لتخلفهم بعد ذلك عناصر إثنية مختلفة»، (الصفحة 144). ما هي هذه العناصر؟
- هم العلويون وقبائل عربية أخرى وعناصر أفريقية «وقد كان لليهود حضور قوي على المستوى التجاري والحرفي. فمعظم العائلات اليهودية ... كانت تمتهن تجارة المواد الغذائية والأثواب والفخار وغيرها والمجلوبة من فاس»، (الصفحة 119). ورغم كون التهود عنصرا أساسيا في التعدد الثقافي فلم يخل وجودهم من الممارسات الشاذة. وقد سلف للقائد اليوسي أن انتقى من نسائهم مجموعة يستغلها في الدعارة. ويورد مؤلف الكتاب قصة شيخ «دخل منزلا لامرأة تدعى «عيشة» ووجد عندها يهوديين يحترفان التجارة المتنقلة وهما يتحرشان بها. فقال الشيخ :
لقيت جوج يهود
أتاي والشمع موجود
وحاقي كيشد نهود
عيشة، شوف عينيا»، (الصفحة 150).
4- بعد التحولات
ولأن الكتاب مسار عبر الذاكرة من الخمسينيات من القرن الماضي إلى سنة 2014 فهو مسجور بالتحولات الثاوية بين أسطره. فهناك تحولات بدت تراجعا عن المكتسبات مساكن إسمنتية تلتهم المساكن الطينية وتثير «خوفا حديد وإسمنت وزليج»، (الصفحة 267). ولان هذه التحولات وردت قليلة بين ثنايا الكتاب فإن الكاتب لم يغفل إدراج بعض الصور كصورة محطة القطار الذي يربط ميدلت بالجزائر، وصورة قنطرة أمرصيد التي يمر فوقها القطار. «غير أنه سيكون من الإجحاف ألا نسجل المنجزات ... فعلى المستوى الفلاحي تم بناء السدود التحويلية على واد ملوية ومد قنوات الري على مسافات لا بأس بها»، و«إحداث مؤسستين للتعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي خففتا من معضلة الهدر المدرسي»، (الصفحة 253).
تلك هي بعض الأبعاد التي طرز فيها الكلام ودعمت بالحكي والأنغام وتداخل فيها الذاتي والموضوعي لتشكل أوجها للذاكرة الجماعية بأجمل قرى حوض ملوية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماذا تعنى تقنية الاستمطار؟ وما علاقتها بالأمطار التي أغرقت ا


.. استمرار الاحتجاجات الطلابية الأميركية المؤيدة لفلسطين




.. حديث السوشال | مطالب بإلغاء عيد الأضحى بالمغرب يثير جدلا


.. نشرة الرابعة | أمطار متفاوتة على عمان.. ووصول أول رحلة مباشر




.. نشرة الخامسة | قطر تراجع موقفها من الوساطة.. وقانون رواندا ي