الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ضد الفطرة....( قصة)

أحمد جدعان الشايب

2021 / 8 / 4
الادب والفن


ما أصعب أن تختفي الحقيقة في قرار أنتجته العشيرة منذ آلاف السنين . لِيلْتهِمَ حقك , ويقضي على فرحتك , وبريق حياتك.
...................................................................................................................................................

عادت تلوبُ باحثة عن عمل يحمي كرامتها ، ويحفظ لأبنائها قيمة في نفوس أقرانهم ومجتمعهم يوم يكبرون ، لكي لا تكون معيارَ ذلهم ومهانتهم ، إذا اضطرتها الحاجة لمد اليد ، لاستجداء بعض النقود ، أو إذا تصدق عليهم الجيران والأقارب ، لأنها ستكون لطخة سوداء تدمغ جباههم ونفوسهم .
ترجّل فارسها ، ابتلعته الأرض ، بعد أن اختنق واحترق بغاز كثيف ، رُصت أنابيبه في دكان مجاور لمصنع أبيه ، الذي يعمل فيه بأجر مناسب , انهارت أنابيب الغاز فوق بعضها ، مثل بيت قديم ، فانحنت عنق واحدة في الأسفل ، وتشكل شق مثل جرح كبير ، راح ينفث الغاز من داخل الأنبوب بضغط هائل ، يخرج متسللا كالأفاعي من بين الجرار المتراكمة فوقه ، وفي الوقت الذي هرب أكثر الناس خوفا من الاختناق أو الاحتراق , شمّر هو عن زنديه وأخذ شهيقا
عبّأ رئتيه بالأكسجين ، مؤونة تكفيه حتى ينتهي , وزج بجسده بين الأنابيب الثقيلة ,وضاع في قلب كتلة الغاز المتجمعة , كغيمة خريفية تنهض فوق قمم الجبال ، بيضاء تحجب الرؤية , ما جعله يتحسس بكفيه مكان الجرار ، ليزيحها ويبعدها عن الجرة الغاضبة ، ليلتقطها خارجا بها إلى ساحة خالية من الناس والأرزاق .
وما أن وصل إليها حتى عالجها بسرعة ، ليخفف تدفق الغاز قليلا , حملها بعيدا عن الحي ، ليحمي مصنع أبيه ، ومصالح جميع أهل الحي ، استقبلته في الحال ، شرارة صغيرة من فم خرطوم لِحام الحديد ، وراحت تلتهم سحبَ الغاز بشراهة وجنون لكنه ظل يجري ممسكا بها حتى وصل إلى ساحة خالية .
التصقت ثيابه بجسده الذي طوّق الأنبوبة حتى تفحٍّم ولفظ آخر نفس في صدره ، كما لفظت الجرة آخر أنفاسها القاتلة .
زوجته الصابرة , عودٌ نضرٌ ، دائم الحضرة ، يتبرعم كل يوم ويورق ، تمضي ليلتها تنتظر عودته تحتضن أبناءها الأربعة، الولدان والبنتان, تنوح فيبكون، تهدئهم وتطمئنهم فيسكتون ، تحس أن دماغها قد تحلل حتى تحول إلى عجينة متهالكة .
كأن مطرقة تدق المسامير في الجمجمة ، تضغط آلامُ الصداع على روحها ، تغمض عينيها مرغمة ، فقد تعدى الوقت منتصف الليل ، ينام الأولاد كما هم بجوارها ، تحرقها عيناها بلا دموع ، لكنها ترتعش فتستيقظ ويصحون ، تنظر إليهم ، وتنفلت بالنواح فيبكون ،حتى اقترب الفجر ، رقدوا بلا انتظام ، ساعةً أراحت فيها أعصابها وجفنيها .
ارتعشت , كأن طشاشاً يغطي عينيها ، تتوه في المكان ، تتلفت حولها بتأنّ وحذروما تزال مستلقية يخيّل إ ليها أنها ترى هياكل أجساد ، تبدو كشاهدات القبور ، كأنها أغمضت عينيها على كابوس ، وصحت على كابوس ، نهض شعر رأسها وجلدها ، لفّتها قشعريرة باردة ،رغم غليان رأسها , تساءلت : ( أين أنا ؟ . ما هذا المكان ؟ .. كيف جئت إليه ؟ ) .
مضت الأيام عجلى , ولم يخطر في بالها أنها ستقع في ضائقة ماديّة , لتغدو بحاجة لتنشئة أولادها ورعايتهم حتى ينتهوا من دراساتهم , ويتسلّموا أعمالا تفخر بهم فيها . هي تعلم أن مصنع جدهم الذي كان يعمل فيه زوجها , يكفي ما يوفره من أرباح لمصروفاتهم جميعا , وحتى لبناء مصنع آخر فلا خوف على مستقبل أولادها .
تتذكر يوم خطبتها لزوجها , اشترط عليها والده أن تنسى الوظيفة , والشهادة التي تحملها , وتهتم بابنه وأحفاده , فهم لا يحتاجون مرتّب الوظيفة , ولا يليق بزوجة ابنه , أن تكون موظفة , فلديهم ما يزيد عن حاجتهم . توقعت أن يغدق عليهم الحقوق والهبات أكثر من قبل، حين طلبت منه مبلغا في نهاية الشهر، أحست بإهانة، وهو يشكو عدم وجود سيولة بين يديه، أعطاها مبلغا زهيدا لا يسد حاجة أولادها ، صارت تتوقع مصيبة تنتظرهم ، كمن تنبه متأخرا على اجتياح العاصفة .
بعد مدة علمت أنه سجل المصنع باسم ابنه الثاني ، وحرم أولادها ، ولم يبق على قيوده أي شيء ، ويوم سألته عما فعله بهم ، تذرع بأنه كبُر وتعب ، ولم يعد قادرا على متابعة العمل ، وسيلتزم البيت ، وأن ابنه يحل محله ، في كل شؤون المصنع .
بعد أشهر قليلة ، توقف عن إعطائها أي مبلغ ، فهو لم يعد يملك شيئا، لجأت إلى عم الأولاد ، شكت له حالهم، لكنه انتفض غاضبا محتجّا، مدّعيا أنه وحده يتعب، ولا يقدر على توزيع جهده على الآخرين , وأن المصنع ملكه وحده .
حارت في أمرها ، سُدّ في وجهها المخرج ، رغم اتساع الطريق ، أقفلت أيامَها على شجو مقيم ، وفارق عينيها الكحلُ والبريق . انطفأت أقمار لياليها، وتتالت حسراتها في شِباك الذاكرة .
في البداية ، لجأت إلى أصدقاء زوجها ، استدانت منهم ما يسد الحاجة، بعد أن تسممت بذور الفطرة في القلوب، و أنشبت الأيام مخالبها في لحم الحياة البهية أحست أن بقايا هموم الأرض والسماء، تنزلق على كتفيها وتربض, كأن أصحاب العيون عميٌ ، والقلوب غلفٌ ، كأن وقراً في الآذان ، لا تسمع حمحمة ولا أنينا .
تفتش في خلايا الذاكرة , عن سعفة في حقل نخيل يحترق ، بعد أن كانت في محل تقدير واهتمام ، يوم كان زوجها مثل سياج يحميهم ، مثل جبل يرمون بأحمالهم عليه وهو سعيد ، يلبي حاجاتهم ، ويطفئ احتراقها .
كان كل يوم في هذا الوقت ، عند الغروب ، يطل مثل بدر ، تحيط به هالة من ضياء وهو يبتسم ، كأنها اليوم تنتظر حضوره ، هي في شوق إليه ، لقد تأخر كثيرا .
يتلاحق شهيق المساء لحظة تطبق الشمس آخر رموشها، لكنه لم يجئ ، خذلها ، مثلما خذلها القدر أو الزمن . أُوصِدت أبواب الليل الفسيح ، وتعاقدت سلاسل الرؤيا، فما أصعب انحسار الخيال، وما أصعب الانتظار، كأن النهار اعتذر عن موعده .
ما تزال رطبة كحورةٍ على كتف نبع , تتلوى مع نسيمات الصباح ، يدهشها تناسق قوامها , فتجهش بالبكاء , تأكلها حسرات الحرمان , ويطقطق ابتلاع ريقها , ولا يطفئ عطشها سعيرُ السراب , هي تحتاجه لها مثلما يحتاجه أولاده .
وجدتْ عملا بعد لأيٍ ، تشرف على نظافة وترتيب المستشفيات في البلد ، بأجر يسد الرمق ، ويوم سأل بعض الأصحاب معاتبا , ردّ الجد بانفعال : ( لتحمد الله أني لم أسجل البيت الذي تسكنه باسمي .. فهو من حقي .. ألا تعلمون أني أرث ابني المتوفي ؟ .. لا يحق لهم أن يأخذوا شيئا ..وهي ما تزال شابة .. تبحث عن عمل في أي مكان .. وكثيرون الناس الأغنياء الذين يزكّون عن مالهم .. ويتصدقون .. ليس بيدي ما أقدمه ) . غاض نبع الفرح في طيات الفكر الجهول .
أهملت نفسها , وكرّست كل وقتها لتنشئة أولادها وتعليمهم , ليعوضوها ما فقدته , استتب الوقت بها عطشا للروح والجسد ، وما من ريّ تحن به الطبيعة , أو يعوضه المجتمع , رغم أنها رفضت أي شفقة أو عطف , أو عطاء مجاني ، لتحمي كرامتها وأولادها .
كل ما حولها يضيف تعاسة على حالتها الصامتة , وفي النفس تساؤل ذابل لا جواب له . استطال ارتدادها على ذاتها , أهملت أحواض الحبق والنعناع فجف , وذوى الجوري متناثرَ البتلات إثر هبة ريح عابرة , مثل شال حريري تهلهل في سلك شائك .
انكفأت على ذاتها , ملتاعة كقطة فاقدة , متحيّرة خطى السبيل , تحاور دواخلها , تستكشف النقيّ بين ركام الكلام , وتضج الأنوثة في صخب جوّاني , تنخلها الحيرة , تستسلم لصراع الرغبة والضمير , تدغدغ مشاعرها غريزتان , إشباع الحاجة الخاصة اللئيمة , وإرضاء الأمومة, تجهش بالبكاء, منفردة مثل سنونوة , تاهت عن السرب , وفي كل مرة , تبحث عن شتيمة تناسبها , إذا تخيلت نفسها في حضن رجل يحرمها شميمَ رائحة أبنائها , تنتصر لضميرها ، تتلهف لتقبيلهم, لا تقوى على رمي فلذة من كبدها على قارعة الطريق , ولا تجد السعادة إلا بهم ، ومعهم , حين تقرأ السعادة على شفاههم وعيونهم .
حان وقت انصرافهم , تسمع أصوات البراءة , تبتسم الدموع, تقمع أنوثتها وحاجة جسدها, تتهيّأ لاستقبالهم, كل يوم مثل هذا الوقت , هي في شوق لتضمهم , فيتبارون في سرد حكاياتهم مع معلماتهم وزملائهم , مثل زغاليل تهيّأت لاستقبال الأم الغائبة يفتحون دفاترهم ليسعدوها بتفوقهم , ترفرف عيناها بدمعتين نقيتين فرحاً , تأخذهم في حضنها كأنها تملك الدنيا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا