الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


البهلوان. . . ومنحى الميتا – سردي.

صباح هرمز الشاني

2021 / 8 / 5
الادب والفن


إذا كان أحمد خلف في المقدمة التي دونها في روايته (الأولين والآخرين)، يسعى الى تمويه المتلقي على أساس أنه يكتب رواية وثائقية، مع أنه يكتب نصا لا يخلو من المواصفات والشروط المتوافرة في الرواية الفنية، فإنه في الرواية التي نحن بصددها الموسومة (بهلوان) بعكس مقدمة الرواية السابقة يحاول فيها أن يبلغه بدون تمويه على أنه قد كتب هذه الرواية بمواصفات عالية الجودة، بهدف أن يتم بناء مدينته التي سادها الفساد، ليعيش ما بقي له من العمر في مساكنها وشوارعها وأزقتها وأسواقها وحدائقها على أعلى درجات الكمال والرقي، في إشارة واضحة الى التصدي الى ما عاناه الشعب العراقي من مصائب وويلات بعد الاحتلال، سواء بمضمون الرواية، أو بالتقنية التي عول عليها، أن يفي هذه المأساة حقها، وأن يبلغ السرد الروائي مستواه.
تعد هذه الرواية من الإصدارات الحديثة للمؤلف، إذ صدرت في شهر آذار لهذا العام بالقاهرة. وتقع في (280) صفحة من الحجم المتوسط. وهي كسابقتها الأولين والآخرين، تخلو من توزيعها الى فصول وأقسام، ولكنها تختلف عنها في وجود فواصل بين كل مجموعة من الصفحات، لإتاحة فرصة الاستراحة للمتلقي، إتساقا ربما مع دعوة المؤلف، أن يعيش، كما يشير في السطر الأخير من مقدمة الرواية: (في حياة مرتجاة)، بعكس الرواية السابقة أيضا التي فقدت حياة المرتجاة فيها، تبعا لقراءتها بدون انقطاع النفس، أو كما يقولون بالعربية الدارجة (على جرة واحدة).
واقترانا ربما أيضا بنهايتها التي منحها بصيص أمل لخروج شخصياته من الأزمة الفادحة التي أدخلها فيها، عبر رسومات (أزهار) الفتاة الفقيرة التي تبنتها أم غائب، الرامزة للطبقة المسحوقة للشعب العراقي، في إيماءة لا غبار عليها، الى أن الوطن لا ينشأ بنيانه إلا على أيدي هذه الطبقة وهو يقول: (لا أعرف معانيها، لكنني أرى شجرة كبيرة تتوسط المكان، ورجل يسير الهوينا وبتؤدة ليس ثمة نقطة محددة يقصدها الرجل، هذا طائر غريب يشبه طيور المستنقعات المائية النائية، طير كبير لون أزرق بلون البحر يميل الى العدم أو الصبر الطويل لعله يخط دربا ميسميا بتحليقه نحو الاعلى، ترى هل حركة الطائر هي طريق مفتوح ننتظره جميعا؟. .).
وبقدر سعي المؤلف للتمويه على المتلقي في الأولين والأخيرين، بالقدر ذاته كان صادقا معه في هذه الرواية، ذلك أنه وظف كل ما يملك من تجربة السنوات الطويلة التي يمتلكها في كتابتها، وعلى كلا الصعيدين المضمون والتقنية. الأول في الجرأة التي يتحلى بها في تعرية زيف ودجل رجال الدين الجدد الذين استولوا على عقارات الدولة واستثماراتها، والكشف عن الفساد الإداري المستشري في مفاصل الدولة من جهة. والثاني في استخدامه بحرفة الراوي العليم بكل خفايا وأحاجي التقنيات السائدة في الفن الروائي، إبتداء من السرد الموضوعي والذاتي والمخاطب، مرورا بلغة السرد وتبنيها لمنحى الميتا سردي، وانتهاء بالاعتماد على تقديم وتأخير الأحداث، والمزج بين صوت الشخصية والسارد، والاستعانة بشخصيات أخرى من قبل الشخصيات الرئيسة لسرد الأحداث التي جرت لها، هذه الأحداث المماثلة لأحداث الشخصيات الرئيسة، فضلا عن تقنية تعدد الأصوات ( البوليفونية)، ومشاركة السارد في الأحداث من خلا ل التعليق على ما يجري فيها، وتقنيتي الإيحاء والتناص.
تدور أحداثها حول (طه جواد) المنحدر من قرية قريبة الى بغداد. والأصح أن نقول الهارب منها، تاركا عائلته هناك، ذلك لأنه دخل بيت شيخ العشيرة وكان جائعا ودون وعي منه، هجم على المرأة الخبازة وتمكن من الحصول على أربعة أرغفة، ما دفع بوالده لكي يصفح الشيخ عنه إرغامه على أن يقبل يده، إلآ أنه أبى أن ينحني له، ليطلق العنان لساقيه، متسلقا مؤخرة أول باص كان متوجها الى بغداد. وهناك يلتقي بسالم علوان العامل في إنشاء الدور الذي يصبح صديقا حميما له، ومن خلاله يتعرف الى السيد محمود المقاول الذي يساعده على الدخول معه، ثم على انفراد في مشاريع لمقاولات الطرق والجسور الى أن يكتسب الخبرة الكافية التي تؤهله التعامل مع خصومه في هذه الحرفة التي تعتمد على الفطنة والدهاء والنفاق، حيث ينفرط عقد الصداقة القائمة بينه وبين السيد محمود لاتهام الأخير سالم علوان في سرقة مقابض الأبواب المصنوعة من الذهب من أحد القصور التي يشرف السيد على بنائها، علاوة على المنافسة القائمة بينهما للحصول على أضخم المشاريع.
إن السيد محمود هو الذي يبادر باختيار بنت الحلال (بلقيس) التي ينوي طه الاقتران بها على زوجته الأولى (أم غائب)، لعدم إنجابها، وانتقاما منه تخونه مع سائقه (مراد) ثم مع بائع الخضراوات (خضر)، وتنتهي الرواية بتبنيها للطفلة أزهار، ومصرع (وسام) مرافق السيد طه، على أيدي الجماعة التابعة للسيد (أبو الخير)، وإتهام طه بضلوعه في الجريمة، باتفاق بين الأخير وضابط مركز الشرطة، ليدفع لهما لقاء غلق ملف الجريمة التي لم يرتكبها مبلغا كبيرا من المال.
يبدأ السارد الضمني أول ما يبدأ بسرد الأحداث عن طريق السرد الموضوعي (هو)، بالتعويل على تقنية البناء الذي تتعامل فيه الأحداث دون الاهتمام بتسلسلها الزمني. ومعظم الروايات التي تتخذ من الأسلوب الحداثوي نهجا لها، إن لم يكن كلها، تنحو هذا المنحى. وأحمد خلف في الروايات الثماني التي تعرضت لها بما فيها هذه الرواية، يتبع هذا النهج. أي أنه لا يسرد الأحداث من حيث تبدأ، وإنما من حيث تتداخل وتتقاطع دون ضوابط منطقية.
وللاستدلال على ذلك فإن روايتنا هذه تبدأ وقد تجاوزت أحداثها على النصف تقريبا، ذلك أن (طه جواد) في هذه الأثناء يكون قد أفاق من غفوته في الحانة التي أحتسى فيها المنكر، وليس في القرية، حيث يسرق أرغفة الخبز، أو متسلقا الباص المتوجه الى بغداد، بل في حانة، والقرى تخلو من الحانات التي لا تتواجد إلآ في المدن. وكما يبدو أن وضعه المادي قد تحسن، بدليل أن له سائقه الخاص به لقيادة سيارته. وإذا عرفنا أن كل هذه المكتسبات لا تأتي بين ليلة وضحاها، فهذا يعني أنه قد قطع شوطا طويلا وهو في العاصمة بغداد.
السطور الأولى من الرواية: (أنتفض حالما أيقظه عامل البار من إغفاءة ألمّت به، هز (طه جواد) رأسه لما تبادل النظرات بصمت مع العامل...).
السطور الأخيرة من الصفحة الأولى للرواية: (مع أنه لم يكن ثملا جدا، إنما كانت النشوة تستولي على أعطافه، أراد من سائقه أن يأتي ويساعده على النهوض ومغادرة الحانة معتمدا عليه...).
أستعنت بهاتين الجملتين للتأكيد على أن طه جواد كان أثناء بداية سرد أحداث الرواية في الحانة أولا، أي في العاصمة بغداد، ووضعه المادي في تحسن، إن لم يكن جيدا وممتازا ثانيا.
في الصفحات الأولى من الرواية يطلع المتلقي على شخصية طه جواد بوصفه مقاولا لمشاريع البناء للطرق والجسور، وأنه متزوج من أم غائب التي لا تنجب، ومن ثم نيته بالزواج ثانية، وفي الصفحة الخامسة والخمسين، أي بعد مرور صفحات كثيرة على الرواية، يعود السارد الى بداية أحداثها، تحديدا في هذه الجملة، وإن سبقتها جملتان أخريان في الصفحة الخامسة والأربعين والرابعة والخمسين اللتين توحيان على لسان طه الى مغادرته للقرية قاصدا بغداد، إلا أنهما لا توضحان عن أسباب مغادرته: (رددت طويلا لكي أحسم الأمر، غير أن كلام الشيخ المجنون بقطع يدي التي سرقت الخبز من بيته، ربما يكون قسمه وأنا أعرف كما يعرف غيري من الأولاد في بلدتنا – أن هذا الرجل حين يقسم قسما فإنه ينفذه بلا شك، ربما قراره هو ما دفعني الى أن أتسلق مؤخرة أحد الباصات المارقة والذاهبة صوب العاصمة بغداد.).
ولكنه يعود في الصفحة (171) ناكرا مرة على هزيمته من القرية بسبب رغيف الخبز الذي سرقه، ومؤكدا مرة ثانية، على أنه قد فعلها، وهو يقول: (الحق أن ما هزمني من قريتي ليس رغيف الخبز الذي سرقته من بيت الشيخ. أما كيف فعلتها أنا، ذلك ما كنت مندهشا له. أما الحادث الجلل هو أن أحد أبناء الشيخ كان قد حمل صورة حديثة لأبيه الشيخ وراح يعرضها علي، أمسكت صورة الشيخ ورميتها الى الأرض...).
وبفعل النقيض القائم في السببين اللذين يأتي على ذكرهما لهروبه من القرية ولجوئه الى المدينة، يطرح السارد الضمني على لسان سائل ما هذا السؤال: (أين كنت تخفي هذه الحكاية؟ ولماذا لم تعلن عنها في صفحات سابقة؟ أي أنه يشترك في أحداث الرواية، ويتدخل في الحكايات التي ترويها شخصياته، لئلا تربك المتلقي وتدعه قلقا وغير واثق لما يجري لأحداث الرواية وشخصياتها، ليغدو واحدا من شخصياتها.
إن إجابة السارد على السائل لا شك تحتوي بقدر ما من المصداقية، ذلك أنه في معظم رواياته يلجأ الى مباغتة المتلقي بما لا يدور في خلده ويتوقعه، كما أنه يتبع فيها ولادة حكاية من حكاية أخرى، هذه التقنية التي يستخدمها في هذه الرواية سنفرد لها حقلا خاصا، ونتعرض اليها لاحقا. أقول بقدر ما تحتوي هذه الإجابة من المصداقية، بالقدر ذاته لا تخلو من التمويه، أي أن السارد لا يذهب الى ذكر الحقيقة كلها، وإنما يشير الى جزء منها، ويترك الجزء الآخر، وهذا الجزء هو أن المدينة قد غيرت شخصية طه وسحقتها من شخصية متمردة على شيخ العشيرة الى شخصية ذليلة ، تفرغ هموم جشعها في الحلم التي تتراءى لها بشربها للمنكر في الحانات الرخيصة حد الثمالة بالحصول على المزيد من المال، وهي تخطط المؤامرات على منافسيها الجشعين في الهيمنة على عقود المقاولات وعلى نحو خاص ضد السيد محمود وبكل الطرق الممكنة وغير الممكنة. وإن شئنا التأويل، فإن أفضل طريقة لردع منافسيه للدخول معه في منافسات الهيمنة على العقود مع الشركات هي إبراز نفسه بطلا له تأريخه الطويل في مقارعة أشد الرجال قسوة وصلابة وهو شيخ القرية، بنسج ربما حكايات لا أساس لها، لذا فمن الطبيعي أن تختلف مسألة فراره من القرية بين حكاية وأخرى. ولعل عنوان الرواية الذي هو (بهلوان) الذي يعني البطل المزيف، أثبت دليل على صحة ما نذهب اليه. كما أن تهجم الأسطة محمود على طه والحكومات المتعاقبة ونعتها بالعميلة بصوت مثقل بالحزن والسخرية والتي يطلق عليها أهل الأدب بالواقعية السوداء، هو الآخر يكسب البعد ذاته: (هل يدعي طه جواد بالبطولة؟ إنه بطل مزيف وبهلوان، شأنه شأن الأبطال الآخرين الذين لا فائدة لهم.). وبالمناسبة، فإن عنوان الرواية (البهلوان) جاء بقصد الإشارة الى الميليشيات التي تنضوي تحت أمرة معممي إيران الذين يجدون في اغتيالهم للناشطين الشباب عملا بطوليا.
التقنية الثانية التي أستخدمها الراوي في بداية الرواية هي تقنية الإيحاء، مكرسا إياها لخيانة أم غائب لزوجها طه مع سائقه (مراد).
إن تحذير الأسطة محمود لطه من التهاون في معاملته للعمال، هو استهلال للإيحاءات التي تأتي تباعا، للتعامل بحذر مع مراد، وهو يقول له: (ذنبك على جنبك، اللهم إني أبلغت! وهذه الجملة التي يلفظها الاسطة محمود بوجه طه، لا تخلو من المصداقية فحسب، وإنما أيضا، تنم على ثقة قائلها بنفسه لما يقول، والأصح أن للأسطة معلومات كافية عن سلوك وأخلاق مراد السيئة.
كما أن جملة: (مراد أين كنت مختبأ قبل مغادرتي البار) التي تأتي على لسان طه، تنطوي على ارتيابه باستغلال مراد فترة قضاء وقته في شرب المنكر بالبار في زيارة زوجته أم غائب.
مثلما نظرة السائق الى أم غائب التي لا تخلو من نوايا يصعب معرفتها، توحي الى نوايا مراد الخبيثة الضامرة تجاهها، كذلك بالمقابل فإن طلب أم غائب الدائم من زوجها إرسال السائق ليجلب لها حاجيات وأشياء من الأسواق، توحي هي الأخرى الى النوايا ذاتها الضامرة في دواخل مراد.
يبدو أن لمراد تجربة لا بأس بها في إقامة العلاقات مع الجنس اللطيف، لذا فهو يعرف لكي يصل الى جسد أم غائب، كيف وبأي طريقة يشعل نيران غيرتها باتجاه الانتقام من زوجها. إن جملة: (ذهب للمبيت عندها هذه الليلة) التي يطلقها مراد كانت كافية كلما كررها لأن تحسم قضية خيانة زوجها. بالأحرى أن هذه الجملة توحي على أن أم غائب على وشك الاستسلام لمراد: (كان يعرف كيف يشعل نيران الموقد ليعم دخان الغيرة في كيانها، ولم يعزه أن يعلق ابتسامة صفراء على محياه ونظرة جانبية تحس بها ام غائب أنها هي المقصودة في هذه الحالة غير الطبيعية.). وجملة: (أنا معك دائما عزيزتي أم غائب) هي الأخرى توحي الى المعنى ذاته.
والتقنية الثالثة التي أستخدمها السارد هي تقنية تقديم أربع شخصيات في الرواية، وهي تكاد تشرف على نهايتها، وهي شخصية أم وسام، وأبو علي، والسيد أبو الخير، وأم أزهار. ويقر السارد بأن حكاية أم وسام تكاد أن تكون مستقلة عن الحدث الرئيس للرواية، لاعتقاد الراوي: (أنها حكاية قد تكون ملحقة في روايته.). إلا أن السارد يخالفه الرأي بمسوغ: (أن بعض شخوصها يتناوبون على رواية كل منهم روايته، ذلك من باب تخفيف الضغط على الراوي العليم فقط. .).
هنا السارد أيضا يسعى الى التمويه على المتلقي وإخفاء حقيقة ليس فقط في استحداث شخصية أم وسام، وإنما شخصية السيد أبو الخير وأبو علي وأم أزهار أيضا.
يبدو لي أن السارد لجأ الى استحداث الشخصيات الأربع، والرواية تكاد تشرف على نهايتها، ما عدا شخصية السيد أبو الخير، لخلق نوع من التوازن بين الشخصيات الإيجابية والشخصيات السلبية في الرواية، وعلى كلا الصعيدين الرجالية والنسائية. متمثلة الشخصيات السلبية للنساء في شخصيتي أم غائب وبلقيس، والإيجابية في أم وسام وأم أزهار. والسلبية في الرجال بـ طه جواد، والأسطة محمود، ومراد ووسام، والسيد نور، والإيجابية في أبو علي وسالم علوان. ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين التوازن القائم بين الشخصيات الإيجابية والسلبية للنساء، لوجدنا أن كفتي الميزان متساويتان بينهما، إثنتان باثنتين. بينما هذه الكفة تميل نحو الشخصيات السلبية بالنسبة للرجال. خمس منها سلبية، واثنتان إيجابية.
يعمد السارد الى استحداث هذه الشخصيات ليس لخلق التوازن بين الشخصيات الإيجابية والسلبية فحسب، بل الى انفتاح النص على مختلف التأويلات، وضخه بنفحة من روح الأمل، بالتعويل على الثورة التشرينية للشباب المتمثلة بأزهار.
يقينا أن طه لم يكن منصفا في تعامله مع زوجته الأولى، لا بزواجه عليها، ولا بإهمالها لتكون تحت رهينة مراد. ولكن هذا لا يعني أنها معصومة من الخطأ، أو لم ترتكب جريمة الخيانة الزوجية. وزوجته الثانية بلقيس إذا ما كان قدر لها أن تمر بالظروف التي مرت بها أم غائب، ربما كانت مثلها أو أكثر منها خيانة لزوجها، وهذا ما يتضح في إلحاحها على زوجها في تلبية طلباتها التي لا تنسجم وإمكانياته المادية كشراء أرقى أنواع السيارات، وفرض شرط عدم زيارة السيد محمود لدارهم قبل زواجها من طه، مع أنه هو الذي أختارها له. ويكمن وراء هذا الشرط غير المعلن أسبابه تساؤلات عديدة وأكثر من علامة استفهام، إقترانا بطلباتها الملحة، ليس على بلقيس فقط، وإنما على السيد محمود أيضا.
ولو قارنا بين سلوك أم غائب وبلقيس وبين سلوك أم وسام وأم أزهار، لنجد بالرغم من العيش الرغيد الذي تتمتع به أم غائب وبلقيس، فإنهما غير سعيدتين، وتتصرفان بشكل غير سليم، من خلال زواج الثانية المتعلمة برجل أمي من أجل إشباع نزواتها في شراء الملابس بأثمان غالية وباهضة، واقتناء الاثاث المنزلية الثمينة. والحوار الدائر بينهما حول تبديل السيارة القديمة بسيارة جديدة، أثبت دليل على أن اقترانها به كان بفعل بلوغها الى ما كان يعوزها وتفتقر اليه:
-هل تريدينني أن أسرق؟
حركت كتفيها بتدلل:
-نعم إذا كنت تحب زوجتك حبيبتك، لا ترضيني إلا بصعودك سيارة (جكسارة).
والشيء نفسه عن أم غائب، فبدلا في سعيها أن تخلق نوعا من التوازن في تعامل زوجها بينها وبين زوجته الثانية، تجد البديل في الانتقام منه، عبر خيانتها له. بينما بالرغم من الوضع المادي المتواضع لأم وسام، وكونها أرملة، رفضت أن تتزوج بالرجل الطيب أبو علي، حبا بأبنائها ورعاية لهم: (والغريب أنه تولع بها حد لا يرى فيه أي أمل، بل أحاط اليأس بروحه. ومع هذا كان أبو علي التاجر الصبور لا يستسلم لليأس بسهولة.). في إشارة أخرى الى بصيص من الامل الذي يتركه السارد في نهاية الرواية.
كما أن أم أزهار لم تتوان أن تدع أبنتها في رعاية أم غائب، عندما وصلت الى قناعة بأنها قد تركتها في أيدي أمينة، وأن هذه الأيدي تستطيع أن تقوم بتربيتها ورعايتها على أفضل وجه، أي أنها تصرفت بشكل واقعي وبعيدا عن العاطفة.
أما استحداث شخصية السيد (أبو الخير) فقد جاء لغرض التأكيد على أن رجل الدين المطعم بالسياسة، أقوى من الرجل الثري الذي يملك نفوذا، أي الشخص الذي هو في منأى عن الإسلام السياسي. وهذا ما يتضح في تردد طه بانتقامه من السيد محمود، واستغلال السيد أبو الخير هذه الفرصة لصالحه من خلال الإجهاز على وسام ساعد الأسطة محمود الأيمن، وإتهام طه بارتكاب الجريمة.
تكاد تقنية تعدد الأصوات أن تكون حاضرة في معظم روايات أحمد خلف، ولكن حضورها في هذه الرواية يختلف عن كل الروايات التي أستخدم فيها هذه التقنية، وذلك من حيث إعطائه الفرصة للشخصيات السلبية لأن تعبر عن وجهات نظرها للأسباب التي دفعتها لأن تنحدر الى المنزلق الذي تورطت فيه، والأصح أن تجد لنفسها المسوغات التي ساقتها الى ما لا يحمد عقباه. وهو بهذا المنحى علاوة على أنه يلغي البطولة الفردية في روايته، شأن روايته (الأولين والآخرين) مشيعا البطولة الجماعية، فإنه يتخذ موقفا حياديا باتجاه عدم انحيازه الى أي من شخصيات الرواية بما فيها الإيجابية.
إن توظيف تعدد الأصوات باتجاه تعبير الشخصيات السلبية للدفاع عن نفسها، وإبراز محاسنها، وبالمقابل التهجم على الشخصيات التي دفعتها لأن تنزلق الى هذا المنحدر، يزيح قسطا لا بأس به من سلبياتها باتجاه تعاطف المتلقي معها الى حد ما، أو على أقل تقدير تجعله أن يفكر بالأسباب التي دفعت بهذه الشخصيات لأن تكون كذلك.
صوت أم غائب: (كيف جاءته فكرة الزواج من امرأة أخرى؟ ألا يكفي ما أعانيه من خيبة وذل، هل يصح أن يذهب الحب ذاك أدراج الرياح كما يقال؟ ألم أضحي أيام كان منزويا في غرفة منعزلة تأكلها الرطوبة لا يسأل عنه أحد من أهله ومعارفه إلا أنا فقط. .).
إن دل هذا المونولوج (الحوار الداخلي) لأم غائب على شيء فإنما يدل على أن زوجها هو الذي دفعها الى الوقوع في أحضان الرذيلة، ذلك بالرغم من أنها كانت تحبه وتضحي من أجله، إلا أنه أنكر كل هذا الحب التي كانت تكنه له وتضحياتها من أجله، ذلك لإهماله لها بعد زواجه من بلقيس، والاعتماد على مراد لتلبية حاجياتها. كما أن تبنيها لأزهار الطفلة ورعايتها كما لو كانت أبنتها الحقيقية، يدل على أن بذرة الخير متجذرة في دواخلها، إلا أن طه أنتزعها بدم بارد من أجل إشباع نزواته الجنسية والمادية على حد سواء التي أكتسبها من الأشخاص الذين أحتك بهم بعد نزوحه من القرية متمردا، وبالعكس في العاصمة بغداد محطما.
صوت الأسطة محمود: (كيف عملا معا هو وطه لم يحنث أو يخدع أحدهما الآخر. . يا للمسخرة، كم غبية هذه الحياة وقاسية أيضا! كل شيء يلتم في لحظة، والغريب ينفرط بلحظة مماثلة، لتلك العثرة القاتلة التي أطاحت بصداقتهما معا، وفي زمن خاطف لم يأخذ أي منهما عبرة، كل شيء تداعى كالبرق.).
إذا كان الحوار الداخلي لأم غائب يسعى الى التأكيد على أن طه هو الذي دفعها الى السقوط، مع أنها كانت وفية له قبل إقدامه عل الزواج عليها، فإن الأسطة محمود كما يقول السارد: (كان يعاني الفقدان المؤلم لصديق عاش معه فترة ليست بالقصيرة! كيف الحل؟ كيف التخلص من هذا الورم المباغت لصداقة امتدت بينهما كالحلم. . نعم لدي الاستعداد لإعادة المياه الى مجاريها. .).
صوت مراد: (حيتان لا يشبعون أولاد الشيطان! ترى متى يكفون عن السرقة والفساد؟).
جاءت عبارته هذه أثر انتهائه من ممارسة الجنس مع أم غائب، وهو يفكر بفعله معها مرة أخرى، وانتقاما كما يقول السارد: (من زوجها ومنها أيضا، ومن الناس الذين يملكون كل شيء ولا يعطون أي شيء، هؤلاء لا يعرف لماذا يكرههم، ولا يفكر في الرضا عنهم.).
إن الشخصيات السلبية في هذه الرواية قابلة لقراءتها من منظورين أثنين، منظور إيجابي ومنظور سلبي، وذلك من خلال تجسيد المنظور الثاني وقلبه الى المنظور الأول. وبالعكس من المنظور الأول الى الثاني، متمثلا من السلبي الى الإيجابي بمراد وأم غائب، ومن الإيجابي الى السلبي بطه. فمراد مثله مثل أم غائب بفعل معاناته من الفاسدين وسراق ثروات البلد، أو كما يسميهم السارد (الحيتان) وشعوره بالظلم والإجحاف بحقه، ما دفعه الى فعل الرذيلة، ذلك أن الحيتان هم الذين دفعوه اليها، كما دفعوا أم غائب. هذا إذا ما نظرنا الى شخصية مراد من هذه الزاوية. أما إذا نظرنا اليها من الزاوية الأخرى أي من المنظور الإيجابي، فهي ما دامت تشعر بالتفاوت الاجتماعي بينها وبين المهيمنين على مشاريع الدولة واستثماراتها أمثال السيد محمود وطه جواد، فهي طبقيا تنتمي الى العامة من الجماهير المسحوقة التي تدرك بأن حقوقها مهضومة ولا تتقاضى أتعابها بإنصاف وعدل، حيال الجهود التي تبذلها في عملها.
ومثل هذه الشخصية من الممكن أن تلعب دورا مؤثرا وفعالا في المجتمع. بالتأويل الى الفساد المستشري فيه، واتساقا مع ثورة الشباب التشرينية. أو كما يقول السارد: (والحق لم يكن مراد شخصا وسخا كما تناديه ام غائب، وهي الوحيدة التي ألصقت به تهمة الوساخة دون وجه حق، فقد كان الرجل نظيف الثياب حسن الهندام. .). وبهذا لأن كلا الشخصيتين، ليس لهما حل آخر لمعاناتهما، يلجآن الى الانتقام من الذين دفعهما الى هذا الدرب عن طريق ممارسة الجنس.
ترى. . . هل يود المؤلف هنا أن يعري الطبقة الجديدة المتمثلة بأصحاب رؤوس الأموال الضخمة والاستثمارات الخرافية التي ظهرت بعد الاحتلال أن يكشف عن تدمير هذه الشرذمة للبنى التحتية للعراق عن طريق إدانتها من خلال الجنس، كما أدان البيرتو مافيا النظام الرأسمالي العالمي عن طريق الجنس؟!
إن للسارد قابلية مدهشة في الانتقال بين لغات السرد المختلفة، كما على سبيل المثال الانتقال من السرد الموضوعي الى السرد الذاتي، ثم الى السرد الذي يمزج بين صوت السارد وصوت الشخصية، القريب الى الصوت الداخلي (المونولوج)، ثم الى الحوار الداخلي مرة مع نفسه ومرة أخرى مع الشخصية التي يتحاور معها بالتعويل على ضمير الغائب، أي بغياب الشخصية المتحاورة معها، وعلى النحو التالي،
- كيف دخل البيت (مراد) ما لم تسمحين له بالدخول؟
- نعم أنا أدخلته في كل مرة ترسله لي.
- (سالم علوان) يعتبر السماح للسائق دخول البيت خطأ صريحا.
- ما دخلي بسالم علوان؟ من يقوم بالتبضع عني؟

أما الانتقال من السرد الموضوعي الى السرد الذي تتداخل فيه صوت السارد مع صوت الشخصية، ثم الانتقال الى السرد الذاتي، فقد أستطاع من خلال صياغة أربع جمل الانتقال من سرد الى آخر وعلى هذا النحو:
- السرد الموضوعي:
(هذه هي المرة الأولى التي ندم فيها للإذعان لخطط (أبي الخير)، كل شيء ممكن إلا القتل وتصفية الناس، حتى لو كانوا خصوما).
- السرد الذي تتداخل فيه الأصوات:
(ماذا سيخبئ لك القدر غدا؟ ولماذا كل هذه اللعبة السمجة التي بلا معنى؟ ولكن من قال أن أبا الخير هو من أختطف الاسطة وصاحبه ؟ أليس هذا تسرع في الرأي. .).
السرد الذاتي:
(هل أخطأت بشكواي من الأسطة لشخص لا أعرفه معرفة أكيدة كالسيد أبي الخير؟).
كما أستخدم السارد تقنية مشاركة الراوي في أحداث الرواية من خلال التعليق عليها، موظفا إياها أربع مرات. في المرة الأولى في الصفحة (47) بمسوغ أنه يروي ما شاهده، عبر إتباع خطة في رواية ما يجده مقنعا لقارئ قصة الحب التي جمعت بين طه وزوجته الأولى أم غائب، أثناء زيارتها لع في غرفته قبل منتصف الليل.
وفي المرة الثانية في الصفحة (116) ليوضح أن بطل الرواية ليس سالما، بسبب وجهه الغاضب والرافض لكل ما يجري له ومن حوله، وإنما طه هو بطل الرواية الذي أطلق عليه أسطة محمود بطل مزيف.
وفي الثالثة في الصفحة (161) يتحول الراوي الى السارد لسيرة بطل الرواية طه، وتبعا لذلك ليس بوسعه أن يصدر أحكاما على هذه الشخصية لأنه قد يعلن تمرده عليه، ذلك أن الحياد أفضل وسيلة للوصول الى الصواب في سد الأحداث. وفي الرابعة في الصفحة (171)، سبق وأن أشرنا اليها.
يكشف مشهد طرد أم غائب لمراد أثر ممارسة الجنس معها، وهي تنتبه الى أنها تشعر بالوساخة تسري بين فخذيها عن تناصه مع مشهد اغتيال ماكبث في مسرحية (ماكبث) لشكسبير.
في هذه الرواية: (شعرت بالوساخة تعلق بها حتى بعد أن دخلت الحمام ونظفت الجزء الأسفل من جسدها، لكنها لم تتخلص من القذارة، ظلت عالقة ببشارتها. . . لست وحدي، أنفاس الزوج تتردد هنا في الغرفة والممر. يا إلهي ما أبشع الخيانة! إنها تقتل الروح وتذريها في الهواء؟).
في مسرحية ماكبث:
ماكبث: أين ذاك القرع على الباب؟
ماذا دهاني حتى صار كل صوت يرعبني؟
أي يدين هنا؟ هه! إنهما تقلعان عيني
أو هل تغسل بحار نبتون العظيمة كلها هذا الدم
عن يدي فتنظف؟ لا بل إن يدي هذه
لسوف تضرج البحار العارمة
وتجعل الأخضر أحمر قانيا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لأي عملاق يحلم عبدالله رويشد بالغناء ؟


.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د




.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل


.. جوائز -المصري اليوم- في دورتها الأولى.. جائزة أكمل قرطام لأف




.. بايدن طلب الغناء.. قادة مجموعة السبع يحتفلون بعيد ميلاد المس