الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نحو نظام صحة عامة للجميع.. يجب ان يكون النظام الصحي نموذجأ لادارة المجتمع باكمله!

شيرين عبدالله
(Shirin Abdulla)

2021 / 8 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


هناك موجة عارمة من خصخصة الخدمات العامة من حولنا، ولعل من اخطرها هي خصخصة القطاع الصحي العام. في كوردستان العراق، تتركز أخر هذه الحملات ضد مستشفى هيوا لعلاج السرطان في السليمانية، والتي هي المستشفى الوحيدة في العراق لمعالجة هذا المرض، وبالرغم من كونها مستشفى خيرية (وليست حكومية)، فهناك خطط للتقليص من خدمات هذه المستشفى وتحويل قسم منها الى القطاع الخاص.
ان حملات الخصخصة هذه ليست خاصة بالعراق وكوردستان، بل تشمل كل بلدان العالم. سبب ذلك هو نظام الراسمالية النيوليبرالية التي تسعى الى نقل خدامت القطاع العام الى القطاع الخاص، وذلك من خلال تشجيع راسمال السوق الحر والتحديد من الانفاق العام للحكومة والملكية العامة.
هناك نظم صحية مختلفة في العالم وفي معظم البلدان يدار النظام الصحي من خلال مزيج من ميزانية الدولة مع القطاع الخاص و يتم دعمها بدرجة اكثر او اقل من قبل الحكومة بحسب النظام المتبع في تلك الدولة.
الراسماليين والشركات العالمية الكبرى لطالما نصبت اعينها على تسليع وخصخصة الاجزاء المختلفة من القطاع الصحي العام، حيث انهم يرون في الصحة "بضاعة" عليها "الطلب في السوق" في اي زمان ومكان، سواء في مجال الوقاية والتوعية الصحية والاختبارات والادوية والعمليات الجراحية، ام في مجال البحث العلمي والاكاديميا والتقنية الطبية. ولكن لايمكنهم القيام بذلك بسهولة، بسبب كون موضوع الصحة امرأ ذو مساس مباشر بحياة الناس، فكلما حاولت الحكومات المس بالقطاع الصحي العام فهي تواجه بالاعتراضات الجماهيرية.
ولهذ السبب فانهم غالبا ما يقدمون على ذلك تحت ذرائع وتبريرات مختلفة، مثل: التنمية الاقتصادية للبلد، ايجاد فرص العمل، الاصلاحات، وتحسين مستوى الخدمات اوالتقشف وتقليل نفقات الخدمات العامة وما الى ذلك.. ولكن في الحقيقة ان الخصخصة هي ليست سوى تخلي الحكومة عن مسؤلياتها تجاه الاهتمام بصحة الناس، واخضاع صحة وسلامة الجماهير لقوانين السوق الحر والتجارة والتي تعمل لغرض واحد فقط الا وهو الربح.
ان القطاع الخاص لايابه بوجود الفقراء ولا بعدم قدرة الفقراء على اقتناء الادوية والمعدات الطبية وزيارة المستشفيات، او ان النساء تضطهد وتعنف وتقتل ويصعب عليهن الحصول على خدمات النجدة والحماية، او كون اللاجئين بلا مكان أمن واطفالهم لاتلقح ضد امراض الطفولة او لاتذهب للمدارس. يقاس قيمة كل شيء بمقدار الربح الذي يدره.

عانى القطاع الصحي العام خلال العقود الاربعة الماضية في العراق وكوردستان، من تراجع ملحوظ بعشرات ومئات المرات، بالرغم من كونه مهملا ومتهرءأ بالاساس. فما تبقى منه ليس سوى هيكل متهالك، رواتب العاملين فيها تتاخر عدة اشهر، الادوية والمستلزمات الطبية في المستشفيات والعيادات العامة غالبأ معدومة، ومايتسنى الحصول عليه غير موثوق به من قبل الناس. وذلك بسبب ملئ السوق بادوية مزيفة ونافذة المفعول وذات جودة متدنية وبسبب الفساد المستشري في كل ارجاء البلاد، وبصورة عامة بسبب تلاشي ثقة الجماهير بنظام الدولة ومؤسساتها. ان الاحتياجات الصحية للجماهير ليست مهملة فقط، بل يتم يوميا وبصورة منظمة استرجاع الخدمات العامة من الجماهير واخلاء الحكومة لنفسها من المسؤلية تجاهها. ولكن في نفس الوقت ينعم القطاع الخاص بتمهيد الطريق له كي ينتعش ويزدهر في كافة المجالات.

نظرة الى البيانات الصحية تبين لنا ان مايحصل في العراق وكوردستان لاينفصل عن ذلك النمط العالمي الجاري. اعلنت منظمة الصحة العالمية في مؤتمر استانا في 2018 بان ما لايقل عن نصف سكان العالم (7.3 مليار) تفتقر الى ابسط خدمات الرعاية الصحية الاساسية – من ذلك العناية بالامراض السارية وغير السارية وصحة الامومة والطفولة والصحة الجنسية والنفسية..الخ. هذا يعني ان على الاقل 3.65 مليار من البشر محرومة من ابسط الخدمات الصحية.
وحسب نفس المنظمة فانه من مجموع 30 دولة تتوفر لدينا التقارير عنها، هناك فقط ثمانية دول تصرف، كحد ادنى، 40 دولارأ امريكيأ، على الرعاية الصحية لسكانها سنويأ!.
وبهذا، وبالرغم من كل التطورات التقنية والعلمية التي انجزتها البشرية في عصرنا، فمازالت فئة ضئيلة جدا من سكان الكرة الارضية باستطاعتها الاستفادة من الخدمات الصحية.

كانت في ضل هذه الدرجة الرهيبة من اللامساواة حين اجتاح العالم وباء كورونا، وراينا كيف ان اللامساواة تضاعفت عدة مرات في ضل الجائحة خلال الاشهر ال 18 الماضية. نرى يوميا اعدادا كبيرة من الناس حول العالم تموت وتختنق بسبب شحة ابسط المستلزمات مثل الاوكسجين والماء النقي والبيئة المناسبة.. الخ.

تم، وبفضل التطور العلمي، ايجاد لقاح مضاد للفايروس وبسرعة لم يسبق لها مثيل، وكان ذلك من الانجازات الكبرى للبشرية في هذا العصر، ولكن عملية بيع وشراء اللقاحات وتوزيعها وامكانية الحصول عليها وقعت بنفس الطريقة تحت رحمة السوق والتجارة وقوانينها واحتكار شركات الادوية العالمية للدول الكبرى.
ان هذا ما عمل على ان يبقى فايروس كوفيد- 19 كمرض عضال ووباء مستديم في الدول الفقيرة الى مستقبل غير معلوم، في حين، تمكنت الدول الكبرى من السيطرة عليها، الى حد ما.

ان تزايد التهديدات المناخية والتلوث البيئي واللامبالاة تجاه صحة الكوكب ككل، تحتاج الى سياسة للرعاية الصحية تضمن حمايتها من الصدمات المستقبلية، ويفترض ان يكون النظام الصحي بصورة تقلل من اللامساواة الموجودة وتنهي بها، لا ان تستمر بها وتزيد من شدتها.

قانون الرعاية العكسية (The Inverse Care Law)*

هذه الدراسة الشهيرة ل (د. جوليان تودور هارت)، الذي كان يعمل كطبيب عائلة في قرية صغيرة فقيرة في ويلز، تعرف ب "قانون الرعاية العكسية". نشرت الدراسة في مجلة اللانسيت الطبية البريطانية في 1971، ومازال القانون لحد اليوم، وبعد 50 سنة، فاعلا تمامأ.
حسب هذا القانون: "ان توفر الرعاية الصحية الجيدة تتناسب عكسيا مع درجة الحاجة اليها في اي مجتمع". اي انه كلما كانت الحاجة للرعاية الصحية اكثر، كلما قل توفرها وامكانية الحصول عليها، والعكس صحيح.

الشطر الثاني للقانون يشير الى: "ان قانون الرعاية العكسية تعمل باكثر فاعلية في الاماكن التي تخضع فيها الرعاية الصحية لسيطرة قوى السوق، واقل فاعلية اينما كانت هذه الرعاية بعيدة عن السوق".

كان الدكتور تودور هارت يقوم بمعاجة مرضى القرية جميعهم على حد سواء بدون اي تفرقة. كان يقيس ضغط الدم لكل مريض ويقدم الارشادات الصحية حول نوع الغذاء وتجنب التدخين والكحول والسمنة للجميع، فتبين بعد 25 سنة بان معدلات الوفاة المبكرة لسكان هذه القرية قد انخفضت بنسبة 30% مقارنة بالقرى المجاورة.

عندما تنتقل الخدمات الصحية الى القطاع الخاص، تصبح كل الفحوصات والارشادات الوقائية من الامراض والعلاجات والعمليات بضاعة لكل منها سعرها في السوق. فان المحرومون والمعدمون في المجتمع، والذين لهم احتياجات صحية اكثر، سوف يحرمون منها اكثر. وبالعكس، فان الاثرياء والذين هم ذو صحة احسن، يزداد امكانية حصولهم على تلك الخدمات.

من الجدير الاشارة الى احدى النماذج للتحول السريع والجماعي للقطاعات العامة الى الخاصة، في تاريخنا المعاصر. وهو انهيار الكتلة الشرقية وسقوط جدار برلين في 1989. في السنوات التي تلت هذه الاحداث، تمت العديد من الدراسات والابحاث حول تاثير هذه التحولات، ومايلفت النظر هو انه اضهرت بعضها خلال الاكثر من 30 عاما على هذه التغييرات، بان معدل طول الاوروبيون الشرقيون الذين ولدوا بعد الحدث اقل ب 1 سم ممن ولدوا قبله. وكذلك لوحظ ازدياد نسبة الموت المبكر للرجال. بالطبع هذا لايعني بان النظام الاوروبي الشرقي انذاك كان نموذجيأ وخاليا من النواقص.

حتى الدول التي فيها نظام الصحة العامة رصينة، لايزال هناك تفاوت كبير في نسبة حصول الطبقات المحرومة على هذه الخدمات. واسباب ذلك متعددة ولكن المهم هو انه لم تتمكن اية دولة لحد الأن من القضاء على هذه الفروقات.

لماذا يجب على النساء الوقوف ضد الخصخصة في القطاع الصحي:

صحيح ان خصخصة الخدمات بصورة عامة والقطاع الصحي بصورة خاصة، تحدث ارتباكأ في حياة ورفاهية الجميع نساءأ ورجالأ، اطفالأ وشيوخ، وتجعل من المجتمع ككل عبدأ للسوق والربح، ولكن المراة بوصفها تشكل نصف المجتمع وشريحة مستغلة كبيرة في المجتمع، يزاد من شدة استغلالها وتتفاقم مشقات الحياة على كاهلها في ضل الخصخصة.

في مقال سابق لي تحت عنوان (حول اختيار جنس الجنين واجهاض الاناث -نشر في جريدة الغد الاشتراكي العدد 18 أيار 2021) شرحت كيف ان المجتمع الذكوري يعير اهتمامأ اقل بالاطفال الاناث مقارنة بالذكور، ويتم اهمال احتاجاتهن مثل التعليم والتغذية والملبس والاحتياجات الصحية سواء البدنية او النفسية منها..الخ
مع تصاعد الخصخصة، وفي خضم تنافس السوق، يصعب على النساء اكثر فاكثر الحصول على فرص العمل. ولكنهن وبسبب ضروريات الحياة يجبرن على القبول بالاعمال المنهكة والموقتة. ومع كل ازمة اقتصادية تعاني النساء اكثر من التسريح عن العمل ويزج بهن نحو المنزل ويبعدن عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. هذه هي قسم من العوامل التي تؤدي الى ازدياد تعرضهن للاصابة بالامراض النفسية وحالات الانتحار. ان ثقل العمل المنزلي ورعاية الاطفال والعناية بالعاجزين وذوي الاحتياجات الخاصة في العائلة، وكل تلك الفراغات الناجمة عن استقطاع الخدمات العامة، يتم تغطيتها بالنساء وبدون اجر.
ان لم يكن لها استقلالها المادي، سوف تتردد المراة من زيارة الطبيب والمستشفى، وتكون اكثر عرضة لاهمال مشاكلها الصحية الجسدية او النفسية، وبالنظر لدورها في رعاية العائلة، فهي تعطي الاولوية للاستجابة لمتطلبات العائلة وافرادها على حساب متطلباتها هي.
ان الامراض النسائية، وحتى في البلدان المتقدمة، لازالت لاتحظى باهتمام كافي، وان مشاكل البلوغ والعادة الشهرية والحمل وسن انقطاع العادة الشهرية وتبعاتها الصحية ما زالت في العديد من بقاع العالم تعتبر محرمات و تابوهات ولايمكن الكلام حولها علنا. من الواضح ان هناك العديد من الادوية والمنتجات التي يمكن للمراة الاستفادة منها لتخفيف أثار هذه المشاكل، ولكن التكلفة المادية لهذه المنتجات تصبح عائقا امام استخدامها.
هناك في الاساس شحة في خدمات النجدة لمساعدة النساء المعرضات للعنف والتطاول والقتل والحرق وغيرها وهذه الخدمات صعبة المنال بالاساس فهي لا تشكل اولوية بالنسبة للمجتمع الذكوري وللراسماليين، وان القطاع الخاص سوف لن يقوم باحياء هذه الخدمات حيث انها لاتدر لهم ربحأ.

ان توفير الخدمات الصحية من خلال السوق هو نمط اجتماعي رجعي وعتيق. كل خطوة نحو تعميم هذه الخدمات هي خطوة تقربنا من تحقيق المساواة، واي تراجع يزيد من حدة اللامساواة.
يجب ان لاتكون الصحة بضاعة لانتاج المال والربح، بل يجب ان يكون النظام الصحي مؤسسة اجتماعية، تعالج، وبحسب الحاجة، المشاكل الصحية للمواطنين من دون ادخال الربح في العملية.
هذا النظام الصحي العام يجب ان يكون نموذجأ لادارة المجتمع باكمله.

26.6.2021

https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(19)30167-9/fulltext*








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ريبورتاج: تحت دوي الاشتباكات...تلاميذ فلسطينيون يستعيدون متع


.. 70 زوبعة قوية تضرب وسط الولايات المتحدة #سوشال_سكاي




.. تضرر ناقلة نفط إثر تعرضها لهجوم صاروخي بالبحر الأحمر| #الظهي


.. مفاوضات القاهرة تنشُد «صيغة نهائية» للتهدئة رغم المصاعب| #ال




.. حزب الله يعلن مقتل اثنين من عناصره في غارة إسرائيلية بجنوب ل