الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في امتداح القراءة

رشيد بوصاد
كاتب وشاعر

(Rachid Boussad)

2021 / 8 / 8
الادب والفن


في غرفة تقطنها الروايات، والقصص، والمعاجم، وهي معها تأنس وتتحاور، انزويتُ في أحد الأركان ونسيتُ العالم الذي يحيط بي. لا حِس ولا حسيس، باستثناء شفتي اللتين كانتا تفضان بين الفينة والأخرى بَكَرة الصمت المطبق الذي يتفرد به الليل وعواصفه. لم أشعر بوحدة لا مملة ولا رتيبة في لحظة من اللحظات، لأنني كنت أقرأ في عزلة واعية ومقصودة كتاب "تاريخ القراءة" للكاتب الأرجنتيني-الكندي ألبيرتو مانغيل .(Alberto Manguel)
في الصفحة الأخيرة وليست في الحقيقة بالأخيرة، (بل هي عنوان الفصل الأول من الكتاب)، كان قد استرعى انتباهي الدور الأساس والفعال الذي تلعبه القراءة باعتبارها ضرورة وجودية، وحاجة ملحة يصعب، ويستعصي، بل ويستحيل الاستغناء عنها.
إننا، كما جاء على لسان ألبيرتو مانغيل، " نقرأ كي نفهم، أومن أجل التوصل إلى الفهم. إننا لا نستطيع فعل آي أمر مغاير: القراءة مثل التنفس، إنها وظيفة حياتية أساسية ".
وها نحن في الصفحة الأولى من الصفحة الأخيرة مع مانغيل وهو يُعلق على صور مجموعة عالمية من أصدقاء القراءة كأرسطو الفتى لتشارلس دجورج، فرجيل للوجر توم رينغ الأكبر، القديس دومينيك لفرا أنجيليكو، باولو وفرانجيسكا لانزيلم، تلميذان مسلمان (رسام مجهول) وغيرهم من أصدقاء القراءة، فتذكرت الجاحظ باعتزاز وافتخار شديدين، ذلك العاشق للقراءة، وذلك الأديب الذي قتله علمه. (أو بالأحرى، جاهد في سبيل العلم).
حدث ذلك عندما ولت رحلتي بوجهها اتجاه بغداد فتراقص المشهد أمامي: الجاحظ في دكان من دكاكين الوراقين يفترس الكتب، يلتهم الصفحات في صمت الليل، وأذني على صوت جُدجُد لعين... ومهما كان الأمر، فصاحبنا لا يعبأ به. بل لا يعترف له بالوجود في وجوده.
لقد عُرف عن الجاحظ حبه وعشقه للقراءة، وملازمة الكتب، وكان إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى أخره، ولا تأخذه رأفة، ولا رحمة، ولا تعاطف. تساءلت في نفسي: أليس القارئ شبيها بأكلة اللحوم ومصاصي الدماء؟
ولقد كان علمه (أي الجاحظ) هو السبب الرئيس في وفاته، حيث يقال إنه توفى من جراء سقوط قسم من مكتبته فوق رأسه، ففارق الحياة عام 868 م، وقد تجاوز التسعين سنة.
إن موت الجاحظ بسبب علمه، ذكرني أيضا بالإمام ثعلب أحد أئمة النحو والأدب الذي كان إذا دعاه رجل إلى وليمة يشترط على صاحب الوليمة أن يجعل له فراغا لوضع كتاب بين يديه ليقرأ فيه: "أنا سأحضر لكن أعطيني مجالا"، ولقد كان سبب موته أنه لما خرج ذات يوم جمعة بعد العصر من المسجد وكان بيده كتاب يقرأه فجاءت فرس فصدمته فسقط في هوة وفارق الحياة في اليوم الموالي. وهذا إن دل على شيئا فإنما يدل، بصورة جلية وواضحة، على أن القراءة كانت يومئذ حاضرة صباح مساء في حياة الناس، وكانت جزءا لا يتجزأ من كيانهم وكينونتهم.. أي بتعبير مانغيل، كما قلنا سابقا، كانت القراءة مثلها مثل التنفس... ولا يمنع عنه إلا المقهور.
فإذا كانت القراءة نشاط ضروري كضرورة التنفس، فإنها تعد أيضا مفتاح الحرية والتحرر. فهناك علاقة اطّرادية بين الحرية والقراءة، فكلما زاد حجم الكتب المقروءة عند المرء، زاد تحرره من كثير من المفاهيم الخاطئة، والأغلاط المميتة، وتفادى السقوط في الدوامة اليومية للجهل، وفي متاهة التخلف، وتجاوز بوعيها "الوجودية" الحيوانية المطبوعة مطلقا بالتكرار.
إن القراءة هي نتاج جميع الأفعال تقريبا التي نقوم بها، فهي، في كيانها الأعمق الشفيف، ضرورة أنطولوجية، وحاجة يومية ملحة، ومتعة فائقة يعرفها حق المعرفة ذلك الإنسان الذي لا يعيش فقط على اليومي المتداول، ولا يقتات فقط بالمعتاد المعاد، أي ذلك الإنسان الذي يحقق قفزة نوعية فوق نمطية الحياة، ويترفع عما يسميه الكاتب البيروبي ماريو بارغاس يوسا (Mario vargas LLosa) بحضارة الفرجة"
(La civilización del espectáculo).
ففي هذه الحضارة، يؤكد الروائي بارغاس يوسا أن الثقافة أصبحت آلية من آليات الإلهاء والاستعراض، والتسلية، واللهو...ويشد د أيضا على أنه في مما مضى كانت الثقافة شكل من أشكال التوعية التي تعيق إدارة الظهر للواقع. ولكن في يومنا هذا، أضحت الثقافة آلية فاعلة وناجعة لإلهاء، والترفيه، والتسلية. ويبرز أن الرغبة في هذه الأخيرة، أي التسلية “أمر مشروع", ولكن أن تتحول هذه الرغبة إلى قيمة عُليا، وسامية، فهذا يترتب عليه تداعيات وخيمة: الاستهانة بالفنون، والأدب، وانتصار الصحافة الصفراء، واستهتار السياسة من بين الأعراض التي تصيب وتعتري المجتمع المعاصر.
ففي كنف حضارة الفرجة والبهرجة أو حضارة الاستعراض، انتحر فعل القراءة عند الأغلبية التي تنصاع للفرجة وتلهث وراء التسلية، وأضحى فعل القراءة عند القلة القليلة جهادا، ونضالا، وتضحية جسيمة.. فيالها من حقيقة موجعة في أحضان حضارة تؤرق وتقض المضاجع... أين هي مكامن المشكلة؟ ألا يجب استخلاص العبرة؟ أين الخطأ في إحجام وعزوف الأطفال، والشباب، والكبار عن مصاحبة وملازمة الكتاب؟ أين هذا الجيل من قول أحمد شوقي (أمير الشعراء):
أنا من بدل الكتاب بالصحابا لم أجد لي وفيا إلا الكتابا
وقال القدماء في فضل الكتاب:
جل قدر الكتاب يا صاح عندي فهو أغلى من الجواهر قدرا
وفي وصفه للكتاب قال الكاتب الأرجنتيني المرموق خورخي لويس بورخيس: "من بين مختلف الأدوات التي يتوفر عليها الإنسان، يبقى الكتاب من دون شك الأداة الأكثر إثارة للدهشة. فالمجهر، والتلسكوب هما امتداد لبصره، والهاتف امتداد لصوته، والمحراث والسيف هما امتداد لذراعه. بيد أن الكتاب شيء اخر تماما: إنه امتداد لذاكرته، وخياله ".
وفي امتداح القراءة قال الكاتب والشاعر الإسباني فرانسيسكو دي كيبيدو:
هأنذا مع صلب عزلتي في عمق هذه الصحاري،
تصاحبني بعض من كتبي، وما ادراك من كتب
بها أحيا وحياتي في دائرة مع الذين رحلوا،
وعيناي تسترقان السمع و الإنصات إلى تلك الرفات.
أين هذا الجيل من أمثال الجاحظ، والإمام ثعلب، والخطيب البغدادي، والنووي، والمتنبي وغيرهم الحمد لله...؟ أين نحن من أمة اقرأ التي تغيب فيها عادة القراءة؟
ألا يجب استخلاص العبرة؟ فيكفي الأمة الإسلامية شرفا، وفخرا، واعتزازا لا نظير لهم أن أول ما ابتدأ به نزول القرآن الكريم قوله عز وجل في سورة العلق:
" اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ... ".
فمن خلال هذه السورة يتضح جليا أن هناك أمر إلهي عظيم موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الأمي الذي لا يعرف القراءة والكتابة. إنه أمر وجودي يحث على القراءة، والتفكير، والتأمل، والتدبر..
وتساءلت في قرارة نفسي: أمة اقرأ...متى تقرأ؟ ومتى تكون خير أمة أخرجت للناس؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تأملات - كيف نشأت اللغة؟ وما الفرق بين السب والشتم؟


.. انطلاق مهرجان -سماع- الدولي للإنشاد والموسيقي الروحية




.. الفنانة أنغام تشعل مسرح مركز البحرين العالمي بأمسية غنائية ا


.. أون سيت - ‏احنا عايزين نتكلم عن شيريهان ..الملحن إيهاب عبد ا




.. سرقة على طريقة أفلام الآكشن.. شرطة أتلانتا تبحث عن لصين سرقا