الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زر مفقود

اغصان الصالح

2021 / 8 / 9
الادب والفن


زرّ مفقود

لم يكن أمرًا سهلًا أن تفقد شيئًا عزيزًا عليك، بل إنّ الأمر يترك أثرًا في الروح كلّما تذكّرته، وفيما إذا كان ذا قيمة وأهمية، لكن كيف ممكن لزر ان يكون مؤثرًا إذا فقد من قميصك! في ذلك اليوم لم يكن صباحي مختلفًا، بل على العكس، إنّه يشبه باقي الصباحات، يرنّ المنبّه وأطفئه، يرنّ مرة أخرى وأطفئه، وابقى هكذا حتى آخر لحظة، بعدها أهرع إلى الحمام لأفرغ كلّ القهوة والسوائل التي تناولتها ليلة أمس، فيما كنت أتابع اخبار الفنّانات ولاعبي كرة القدم والأفلام، ومن ثَمَّ أغسل وجهي وأفرّش أسناني التي أعضّ بها أصابعي ندمًا لتأخري كلّ يوم. أمدّ يدي إلى الخزانة، ألتقط أيّ قميص وبنطال، ومن ثَمَّ أهرع إلى الخارج وأنا أحمل بإحدى يدَيَّ حقيبتي وأوراقًا كان عليَّ أن أكملها ليلة أمس، وفي يدي الأخرى قطعة من التوست كنت قد أفردت عليها القليل من الزبدة مع رشة قرفة. أحشر نفسي بسرعة داخل المصعد وأبدأ بوضع المسكارة وقليل من حمرة الخدود، بينما أمسك قطعة التوست بشفتَيَّ، وأضع الحقيبة والأوراق بين ساقيَّ، ثم أكمل تناول قطعة التوست وأنا واقفة داخل الباص. فجأة أرى الرجل الذي أراه كلّ يوم وهو يحدّق فيَّ، ولكن ليس في وجهي هذه المرة، بل أدنى من ذلك، تتبّعت أين تسقط نظراته، إنّه ينظر إلى صدري.
كان القميص الذي ارتديته قد فقد أحد أهمّ أزراره، ممّا جعل طرفَي القميص ينسابان، تاركين لعينَي الرجل حرّيه التجوال في مناطقي المحرم النظر إليها بدون ستار. حشرت قطعة التوست كلّها في فمي، وأمسكت طرفَي القميص بيدي، أمنعه هو وأيّ شخص من أن ينال هذه المتعة؛ وبينما أنا كذلك توقّف الباص فجأة، ما دعاني إلى أن أمسك بيدي العمود الحديدي من أجل أن لا أسقط. شعرت وقتها بحرارة نظرات الرجل مرّة أخرى تسقط على جسمي، لففت ذراعَيَّ حول العمود وأمسكت القميص مرة اخرى، وبعد دقائق وصلت إلى مكان عملي. أن تعمل في مكان نسبة الذكور فيه 90٪ هذا أمر يعني أني لن أسلم من النظرات المحرومة، لذلك لا بدّ من إيجاد حلّ. فكّرت في أن أذهب لشراء قميص في فترة الغداء، لكن علىَّ أن أنهي جميع أعمالي المتأخّرة. كيف يمكن أن أجعل هذا الصباح يمرّ من دون أدني مضايقة؟ وضعت الأوراق على مكتبي، أخذت أبحث عن أيّ شيء لأغلق هذا القميص، أن تمتلك صدرا مكتنزا يعني أن تحصد الكثير من العيون التي تتحسّر وهي تنظر إلى ما هو أسفل المنحر وفوق السرة. خطرت لي فكرة أن أستخدم كابسة الورق، لكن سوف أبدو ساذجة، وهذا لا يتناسب وطبيعتي. مرّت نصف ساعة وأنا أبحث عن حلّ، أخبرتني إحدى الزميلات أنّه قد أجد ما أريد في صندوق المفقودات؛ أسرعت إليه لأجد فيه زرًّا واحدًا من بين الاشياء المفقودة، كان لونه يتنافى مع لون قميصي تمامًا ولا يشبه بقية الأزرار لا شكلًا ولا ملمسًا. الخيط القصير الذي أخذته من الفتاة نفسها لم يكن كافيًا لعقد نهايته وتثبيت الزر بإحكام على القميص. تحسسته طول الوقت، حتى أني شعرت به يتذمّر كلّما مرّرت أصابعي لأتأكد من وجوده. مرّ النهار الذي كان طويلًا جدًّا لدرجة أنّي أنهيت كلّ أعمالي المكتبية المترتبة عليَّ منذ أكثر من أسبوع. في طريق العودة ،جلست وأنا أتحسّس الزرّ بين الحين والآخر لأطمئنّ أنّ الستار مسدول؛ وبينما أنا جالسة على المقعد المواجه للباب الخلفي توقّفت الحافلة بسرعة، فاندفعت بكامل جسدي بحركة إلى الأمام، ثمّ عدت إلى الخلف. كانت هذه الحركة سببًا لأن يقفز الزرّ هاربًا من قميصي فرِحاً. أمسكت قميصي بيدي مرّة أخرى، ولم أكلّف نفسي عناء البحث عن الزرّ، بل إنّه لم تتبقَّ سوى دقائق وأصل إلى سكني. ترجّلت من الحافلة، حملت بيدي حقيبتي وأنزلت يدي من القميص، لم تعد يدي تسعفني، بدت ثقيلة جدًّا، لذلك لم أشعر برغبة لجذب طرفَي القميص هذه المرة. سرت باتّجاه المصعد، وكان هناك زوجان يسكنان في الطابق الرابع بانتظار المصعد معي. وبينما الزوجان ينظران لي مستغربَين من حال القميص، بدأت فكرة غريبة تظهر في رأسي؛ لِمَ أنا أخشى أن يرى الناس ما أخفي تحت القميص؟ توقّف المصعد، ترجّل الزوجان، بدأت أحرّر أزرار القميص واحدًا بعد الآخر؛ ولأني أعلم أنّ من يسكن في الطابق معي هما رجل وامرأة لا يخرجان من غرفهما إلّا عندما يتعرضان لحالات طارئة. في الطابق التاسع، وبعد أن انتهيت من تحرير الأزرار كافة، أخذت شهيقًا عميقًا. وقبل أن أخرج فُتِح باب المصعد لأرى أمامي مجموعة من رجال الشرطة والإسعاف، يضحكون بعد أن تمكّنوا من إنقاذ العجوز الذي سقط وهو يحاول أن يفكّ أزرار بجامته داخل الحمام. خرجت من المصعد من دون أن أدرك أن أزرار قميصي محررة بالكامل، وحتى الرجال لم ينتبهوا لذلك قط.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض


.. تقنيات الرواية- العتبات




.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05


.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي




.. تسجيل سابق للأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن يلقي فيه أبيات من