الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الرئيس الصح في الزمن الخطأ .. القسم الثالث والأخير

جعفر المظفر

2021 / 8 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


أنا أعرف المرحوم رجب عبدالمجيد إلى الدرجة التي أستطيع أن أؤكد فيها أنه كان يتحلى بالصدق والنزاهة والأمانة والوطنية, ولقد تعرفت به عن طريق إحدى طالباتي المحترمات, فالرجل كان زوج خالتها, وقد جاءت به قبل سنوات إلى عيادتي طلبا لمعالجة أسنانه, وقد ثوثقت علاقتي به إلى الدرجة التي سمحت لي بزيارته عدة مرات في بيته أو اللقاء معه في المسبح المغلق لنادي الصيد, ولذلك كان يتحدث معي بالمرتاح لأنه يعرف إهتماماتي السياسية ويعرف إنني لم أعد في حزب البعث.
ويبدو أن الرجل لم يكن مرتاحا وهو يخفي ذلك السر الكبير فأراد البوح به لرجل يثق به ويقدره, خاصة وقد عُرِف عنه أنه أفضل من أن يتحدث عن تاريخ العراق السياسي في الفترات التي شملت النظام الملكي ثم الثورة ضده ثم الإنقلاب البعثي على حكم عبدالكريم قاسم ثم حكم الأخوين عبدالسلام وعبدالرحمن محمد عارف.
رشفته الأخيرة من الشاي تلاها قوله : زارني النايف في اليوم الثاني بناء على طلبي. كانت الجملة الوحيدة التي أخبرته بها هي عبارة عن وصية وقد قلت له فيها : يا إبن خالتي, أنت تعرف البكر, وأنا أعرفه أفضل منك, هذا رجل ثعلب يأخذك إلى الغابة ليشغل بك الأسد حتى يكون بإمكانه أن يحصل على الأرنب.
أجابني النايف, وهل تظنني لست على علم أو يقين بذلك. لكن في هذه المرة أنا الذي سوف أذهب به إلى أسد الغابة وأنا الذي سوف أعود ومعي الأرنب. أنا مضطر للتعاون مع البعثيين لأسباب متعددة أولها أن لهم أنصارهم المعتبرين داخل الجيش, كما أن المتقاعدين منهم من أمثال البكر وحردان وعماش ما زالوا مؤثرين جدا نظرا لتاريخهم السياسي ولثقلهم الجماهيري.
ولك أن تعلم أنني أنا الذي سوق يقود (الإنقلاب الثاني) ضد فريق البكر, وإنني لن أسمح لهم بالإستمرار ويكفيني أن أرتب الجبهة الداخلية بمساعدتهم حتى أتخلص منهم. كما وأريدك أن تعلم أن طبيعة الرئيس عارف وميله إلى السلم والتعايش والمهادنة سوف تطيح برؤوسنا جميعا.
إن إنقلابي ضد الرئيس عارف, وأنا حارس أمنه, لا يأتي إنسجاما مع ميول غادرة أو طمع في منصب, فالكل يعرف أننا الثلاثة, سعدون غيدان وإبراهيم الداوود وأنا, هم من يصنع الملوك وان الرئيس لا يخالف لنا أمر, غير أن الكل بات يطمع بان يزيح الرئيس عن الحكم ليجلس محله, والحرب الباردة بين السوفيت والأمريكان هي على أشدها, وإن أمريكا لن تسمح أن يقع العراق العظيم الأهمية في أحضان الإتحاد السوفيتي لذلك فهي ستدعم أصحابها وستذهب لتحريكهم وتشجيعهم على الإنقلاب.
وقبل أن أغادر دار (أبو محمد) بعد أن أخذت آخر رشفة شاي قال جملته الأخيرة : أخبرت النايف إنني لم أعد, لا من حيث العمر ولا من حيث الصحة, قادرا على المشاركة في سباق الثعلب والأسد. وقد كان ذلك آخر لقاء بيني وبين إبن خالتي النايف.
أما أنا فأستطيع أن ألخص الأمر كالتالي .. لقد كانت حال العراق أشبه ببركان على وشك الإنفجار وقد أسرع تحاف البكر والنايف للإطاحة بالرئيس الطيب عبدالرحمن عارف قبل أن يطيح به الآخرون. إذ لا يكفي أن يكون القائد طيبا لكي يكون ناجحا بل أن عليه أن يكون قويا عادلا وحاسما.
في فترة الحرب العالمية الباردة غير مسموح لبلد عظيم الأهمية الإستراتيجية أن يكون رئيسه طيبا, الرئيس الطيب في حالة كهذه هو رئيس ضعيف, وهو رئيس ميت لا محالة.
أيقن حراس الرئيس الثلاثة أن رؤوسهم قد يُطاح بها نتيجة لطيبة رئيسهم وإتفقوا على أن إخراجه من الحكم هو الحل لكل الإرباكات التي كان يمر بها العراق يوم كان البلد يفتش عن حل سريع وحازم لأزماته السياسية المتلاحقة.
البعثيون لعبوا نفس اللعبة التي كان يلعبها النايف, أن يأخذوا الثعلب إلى الأسد ويتركوه ليأكله ثم يعودوا بعد أن يحصلوا على الأرنب. قبلها أكدوا للنايف أن لهم اليد الطولى في الشارع العراقي فإستعرضوا قوتهم بداية عام 1968 في مظاهرة إمتدت على أكثر من نصف شارع الرشيد وسار في مقدمتها البكر نفسه, بينما راح التحالف الشيوعي البعثوسوري مع مجموعة الكرستاني يستعرضون قوتهم عن طريق الإضراب الذي دعوا إليه على صعيد جامعة بغداد أولا على أن يمتد بعدها لكل مدارس العراق, وقد نجح الإضراب بالفعل رغم مقاومة بعثي البكر ضده, وصار يبشر بنهاية الحكم على طريقة الأضراب الطلابي الذي مهد للقضاء على نظام عبدالكريم قاسم.
في الحزب الثوري, وفي بلد يعج ويحتدم بالمناورات السياسية مثل العراق, فإن قيادة هذا الحزب لا بد وأن تشتغل بالسياسة. وأجزم أن لا وجود للسياسة هنا خارج مساحة الميكافيلية. الميكافيلية لم يخترعها ميكافيلي بل سبقه إليها أقوام من ضمنها المسلمون حينما كانت بعض فتاويهم تقول (الضرورات تبيح المحضورات) و (الحرب لعبة) و (يكيدون كيدا ونكيد كيدا) وهذا يعني بكل تأكيد أن لا تضاد بين الميكافيلية والأخلاق لأن الميكافيلية في الأصل هي حالة ضرورة تنتهي بإنتهاء الحالة التي أوجبتها.
في الحزب الثوري, القيادة في الغالب هي ميكافيلية بهذا المعنى, أما القواعد, فلبعدها عن ساحة المناورات السياسية, فهي غالبا ما تكون عقائدية صُلْبة, لذلك فهي تفهم الميكافيلية على أنها خروجا منبوذا عن القواعد الأخلاقية للحزب الثوري وعقيدته المثالية.
في السابع عشر من تموز, بعد أن أفاق البعثيون على حقيقة تحالف قيادتهم مع عبدالرزاق النايف فقد حسبوها بالمسطرة العقائدية بينما كانت قيادتهم قد حسمتها بالمسطرة الميكافيلية.
وفي يوم الثلاثين من تموز, وبعد أن تخلصوا من النايف فرحت القاعدة الحزبية لبعثي عفلق وكأنها ضمنت إنتصار العقيدة على الميكافيليا.
غير أن قيادتهم التي أنهت لتوها تسليم الثعلب للأسد والتي صارت في مواجهة بناء الدولة كان لها رأي آخر بالحكاية التي تجمع بين العقيدة والسياسة, وستتكرر معهم ذات الحكاية مع النايف يوم يسلمهم صدام لأسد الغابة لغرض أن يعود وحده بالأرنب.
.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كلما زاد التدين الجماعي كلما زاد المكر
طلال الربيعي ( 2021 / 8 / 9 - 15:47 )
الاستاذ العزيز د. جعفر المظفر المحترم
يقول الله نفسه:
-ويمكرون والله خير الماكرين.-
https://mawdoo3.com/%D9%88%D9%8A%D9%85%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%86_%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87_%D8%AE%D9%8A%D8%B1_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%86
والمكر علم وفقه وفن. ولذا هو في تطور دائم. وأزلام الإسلام السياسي ورفاقهم في العملية السياسية قد تفوقوا الآن لربما حتى على الله في المكر. وقد يعتبر البعض هذا الكلام جدفا بالذات الإلهية ولكنهم قد يقولوا إنه بسبب حبهم وخشوعهم وتقديسهم لله. ولذا شعارهم
-يا ماكري العالم اتحدوا!-
إن المكر والتآمر سمتان بارزتان في السياسة العراقية. ولكن يبدو لي انه كلما زاد التدين الجماعي كلما زاد المكر كنقيض للطيبة.
-وهذا المكر المضاف إلى الله جل وعلا والمسند إليه ليس كمكر المخلوقين؛ لأن مكر المخلوقين مذموم، وأما المكر المضاف إلى الله سبحانه وتعالى فإنه محمود؛ لأن مكر المخلوقين معناه الخداع والتضليل، وإيصال الأذى إلى من لا يستحقه، أما المكر من الله جل وعلا فإنه محمود؛ لأنه إيصال للعقوبة لمن يستحقها فهو عدل ورحمة‏.-

يتبع


2 - كلما زاد التدين الجماعي كلما زاد المكر
طلال الربيعي ( 2021 / 8 / 9 - 15:48 )
اعتذر إن كانت ملاحظتي خارج سياق موضوع المقالة.
مع مودتي وفائق احترامي


3 - استفسار
منير كريم ( 2021 / 8 / 9 - 17:48 )
تحية للاستاذ جعفر
شكرا على مقالك المتسلسل والمفيد جدا
رواية المرحوم رجب عبد المجيد اكثر منطقية من اشاعات صدام
العمالة هذه شتيمة بدون محتوى فكل اطراف الصراع لم يكونوا عملاء بل ميكافيليين كما قلت حظرتك
وهذا مايفسر اقتراب العراق من الاتحاد السوفيتي وكوبا ايام البكر و صدام
على ضوء تجربتك الواسعة هل صحيح ماكان يقال انذاك من ان الانجليز ميالون للبكر والامريكان ميالون لصدام ؟
شكرا


4 - بعث صدام -البكر
وسام عبد الرزاق ( 2021 / 8 / 9 - 19:57 )
تحية لك د.جعفر

بإختصار شديد..ما حدث في 17-30 تموز 1968..تكرار لما حدث لمصدق في إيران....البريطانيون خططوا للإنقلاب...والأمريكان قطفوا ثماره في 30 تموز ..البكر وحردان وعماش من أصدقاء السفارة البريطانية منذ 1963 قبل النايف...وصدام عمل للأمريكان والبريطانين وحتى لرشيد محسن وكما يقول فخري قدوري إن زيارات روكفلر السرية لبغداد ولقائاته مع صدام كانت معروفة لقيادي البعث جاء البعث في مرحلة مهمة أسمها الديكتاتوريات الثورية مثل القذافي والأسد الذين جاؤا بلباس الثورية تماشيه مع المد اليساري العالي ...وفي العراق خوفا من المد اليساري الجبهوي...ومن يتصدى له غير البعث المجرب في 63 المستعد لبيع كل شيء من أجل السلطة وماحدث في 1980 و1990 و2003 كلها حصاد أمريكي حصل عليه من البعث وصدام


5 - تعقيب على تعليق الأستاذ طلال
عبد الفادي ( 2021 / 8 / 9 - 22:49 )
عن اذن الأستاذ جعفر ، يقول الأستاذ طلال في تعليقه رقم 1 (وأزلام الإسلام السياسي ورفاقهم في العملية السياسية قد تفوقوا الآن لربما حتى على الله في المكر) ، وصرّح ايضا (وأما المكر المضاف إلى الله سبحانه وتعالى فإنه محمود) ، إن كان مكر الله محمود فكيف قام ازلام الإسلام السياسي بالتفوق على الله بالمكر المحمود !!! إلا إذا كان مكر الله الذي تعبده مثل مكر البشر عندئذ يمكن للبشر ان يتفوقوا عليه ، تحياتي للجميع

اخر الافلام

.. قطر تلوح بإغلاق مكاتب حماس في الدوحة.. وتراجع دورها في وساطة


.. الاحتجاجات في الجامعات الأميركية على حرب غزة.. التظاهرات تنت




.. مسيرة في تل أبيب تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو وعقد صفقة تبادل


.. السيناتور ساندرز: حان الوقت لإعادة التفكير في قرار دعم أمريك




.. النزوح السوري في لبنان.. تشكيك بهدف المساعدات الأوروبية| #ال