الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغلس....... قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 8 / 10
الادب والفن


أغلست المرأتان، وما يزال تباح الكلاب يخدش السكينة، وهمس الأم مشبع بالرجاء والأمل، قالت وقد أراحت رأسها على الوسادة، والتحفت بغطاء:
( يا بنتي أنت حلوة صحيح.. لكن أخاف أن تكبري ولا يأتيك عريس يناسبك).
( لا تحملي هما يا أمي .. ما زلت تحت العشرين).
( الله يرزقك بابن الحلال يا عائشة يا بنتي ).
استسلمت للنوم تاركة عائشة تتلذذ بتصوراتها وأحلامها وخيالاتها، وحين أعلن أول ديك نهاية ليلة من لياليها المجهولة، وراح القمر يتبعثر في أرجاء الأمكنة، وذابت أسراب المجرة في السواقي والدروب، وظنت عائشة أنها عرفت ماذا تريد، خيّل إليها أنها حطت حملها على ظهر يحميها.
أحست هذه الليلة بقدوم الربيع، إنه الفصل المفضل عندها،كماهو عند الطيور، وتتمنى أن تكون الأيام كلها ربيعا. كانت حركتها نهار اليوم أكثر رشاقة ومرحا، ولم تفارق البسمة وجهها رغم الضيق الذي شعرت به في المساء هي وأمها، فأخوتها ناموا دون عشاء.
عائشة يحركها قلبها وتسيّرها عواطفها، وما يزال حبها لمصطفى رشاد يعشش في أعماقها، ويمتزج بالدم في عروقها وشرايينها، خفة حركتها لها ما يبررها ، فإشارة من مصطفى كافية لتجعلها تطير إليه بجناح من لهفة، ورغم أنها تفيض رقة وأنوثة، تشعر بفارق كبير بينها وبينه في كل شيء،وكثيرا ما تمنت أن تفهم ما يفهم، وتقول كما يقول، حتى أنها سألته مرة:
( من أين تأتي بكلامك الجميل؟). قال:
( من قلبي الذي يحبك ),
ودائما تغزّي نفسها بأن جمالها يذيب كل الفروق، فيكفي عندها أن تكون فتاة حلوة وجميلة.
أطفأت النور لتهيّئ نفسها لنهار جميل قادم، فهي على موعد مع مصطفى وسيلتقيان في (الخربة) وستطفئ شوقها بلقائه، وتحدثه عن زواجهما، فهي لم تره منذ مدة، بعد أن انتقل إلى المدينة ليدرّس في المعهد الصناعي، وهو يحمل مؤهلات علمية عالية في الدراسات البترو كيميائية من عدة بلدان أجنبية, لذلك هو مضطر أن يعيش أكثر أيامه بعيدا عن القرية، وحين يأتي إليها، لابد أن يلتقي عائشة، التي أقنعت أمها بالذهاب غدا إلى الخربة للبحث عن نبات الخبيزة والدردار لتصنع منها طعاما جميعهم بشوق إليه. اندست في فراشها، ومازالت تعيش لحظات ممتعة مع خيالها، وارتسمت ابتسامة ملأت وجهها.
خيوط الشمس تبعث دفأ وحياة، وظلال الأعمدة العتيقة ماتزال تحتفظ ببرودة الندى على أطراف النباتات الغضة.
انزلت القفة عن رأسها، فتحت سكينها وراحت تبحث عن الخبيزة والدردار حول الأعمدة، وفي أعقاب التيجان المرمرية على الأرض منذ زمن.
وصلت سيارة صغيرة، توقفت في ساحة قريبة من عائشة، نزل منها ثلاثة أجانب، رجل وزوجته وابنتهما، وقد علّق كل واحد آلة تصوير في رقبته، مرّوا من جانب عائشة، وهي تنظر إليهم بإعجاب، ولم تدر لماذا أُعجِبتْ بهم, حيّوها بلغتهم، ودون أن تفهم، أحسّت أنهم يحيونها فردت التحية وهي تضحك.
توزع الثلاثة كل واحد باتجاه، حول الأعمدة والتيجان والقواعد، كانوا يتحادثون بسعادة وفرح.
أسرعت عائشة تقصل النباتات التي اعتاد أهل القرية جمعها وطبخها بالزيت في كل عام مثل هذه الأيام، لكنها لم تنس أنها على موعد مع مصطفى رشاد، فكانت تُكثِرُ من التلفُّت باتجاه القرية، لتريح صدرها برؤيته، وحين أقبل عليها من بعيد، أوقفت عملها وتعلّق نظرُها وقلبُها بقامته وتمتمت بهدوء.
( الله يخليلي هالطلعة.. الله يجعلك من نصيبي.. خروف لوجه الله إن صرت زوجتك يا مصطفى). شاهد السيارة من بعيد، وشاهد الأشخاص المميزين، فأعاد ذكرياتِه التي عاشها في ألمانيا حين كان ينهي دراساته العليا.
حنّت نفسه لصديقته ( أوتا) التي وعدته بزيارته مع أهلها، تذكر أيامه معها، فهمس لنفسه:
( أين تلك الأيام؟.. لم تعد مرة أخرى.. كانت ألذ وأمتع أيام مرت عليّ.. آ ه.. لو كان لقائي اليوم بأوتا بدلا من عائشة.. عندها تتحقق كل أمنياتي.. صحيح أن عائشة حلوة وجذابة.. لكن ما الفائدة؟.. فقيرة وأمية.. وأحس بقلبي يميل إليها أكثر من أية فتاة.. كأنها مخلوقة فقط لتُحِبَّ وتُحَبّْ.. أما أوتا.. غنية ومثقفة,, وأستطيع العيش معها في ألمانيا.. وأحصل على جنسية إن تزوجتها.. هي وعدتني.. ليتها لم تنس.. إذا لم تأت هي فسأذهب إليها.. ألمانيا أجد نفسي فيها.. وأتخلص من كل قهري وعذاباتي مدى الحياة.. وأنت يا قلبي ماذا أفعل بك؟). حياها:
( صباح الخير ياحلو).
أصابتها رعشة وردت بلهفة وحياء:
( صياح الخير).
كانت أوتا في مكان ليس بعيدا عن عائشة ومصطفى، ولا يفصلهما عنها سوى جدار إغريقي، أمسكت بقطعة صغيرة من الحجر، مسحت عنها بقايا تراب، نظفتها بمنديل، واهتمت بها كطوطم، وصاحت بصوت مرتعش بالفرح، اجتمع إليها أبواها سريعا، وتغزلوا بما توحي رسومات القطعة الحجرية الصغيرة.
أصغى مصطفى للصوت واللغة باهتمام، لم يصدق أذنيه، ركّز انتباهه أكثر، تأكد أنه يعرف هذا الصوت بهذه اللغة، تغيرت هيئته فجأة، كـأنه وجد شيئا فقده من سنين، تحرّك باتجاه الصوت ناسيا عائشة، بدا منفعلا، مط رقبته، تطاول أكثر، لكن عائشة الرقيقة كنسمة، الناضجة كثمرة، أحست بوخزة في صدرها، خافت على حبها ومستقبلها,،حاولت ثنيه عن اهتمامه بغيرها,،قالت:
( ناس أجانب.. أغراب عنا.. لا نعرفهم). بسرعة ودون اكتراث يردد:
( اقطفي خبيزة.. اقطفي دردار وخبيزة.. اقطفي.. سأتحدث معهم قليلا.. اقطفي.. اقطفي..). مضى نحوهم قفزاً ليتأكد بعينيه مما أوصلته له أذناه، وغاب عن عائشة.
غدت السعادة سرابا كثيفا، والنفوس عطشى، والقلوب يرويها الهوى، وساعات النّحس تترصد لحظات الفرح والنشوة.
ذهول عائشة جعلها وتدا دُّقَّ بين الأعمدة، ثبتَتْ في مكانها، سقطت من يدها سكينُها، ولو لم تكن تلفُّ جسدها بلباسها الريفي, لخُيِّلَ لمن يشاهدها أنها جزءٌ أساسيٌّ من هذا المكان، وكأنها ملكة المدينة.
بدا المشهد في عين عائشة، من خلال فتحات الجدران مقرفا، يتصافحون ويتعانقون، ويرتفع صوت مصطفى مهللا، كان يبالغ بالترحيب وهم صامتون: ( أوتا.. أوتا..).
لم تصدق ما ترى, اهتمامه بهم جعلها تحسب ألف حساب لمصيرها القادم، وربما فكرت أن تنفض حبه من قلبها.
بقيت عائشة واقفة لمدة تتصارع في داخلها عواطف ومشاعر متنوعة، ثم زمَّتْ شفتيها وقطَّبت حاجبيها وضربت أثرهم بظهر كفها وقالت:
( إلى جهنم كلكم ).
انحنت إلى سكينها, أخذت قفتها وعادت تبحث عن الخبيزة والدردار، ولم يمض وقت طويل حتى امتلأت قفتها، وهيّأت نفسها لترجع إلى القرية.
التفتت فجأة حين سمعت صوت السيارة الصغيرة، وقد دخل الثلاثة في جوفها، بينما كان مصطفى يمشي نحو عائشة بخيبة، ولما وصل قال لها:
( أناس لا يستحقون منا أي اهتمام.. اعذريني.. لم يكن لدي وقت لأقعد معك.. ليتني ما تركتك).
رمقته بنظرة غاضبة متألمة، وضعت قفّتَها على رأسها، ودون اكتراث به، مشت باتجاه القرية، لأن أمَّها وأخوتها مازالوا ينتظرون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا