الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اطعام فقراء مصر من فضلات القمامة

محمد فُتوح

2021 / 8 / 10
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان



منذ القدم ومشكلتا الفقر ، وغياب العدالة ، هما الصفتان السائدتان والمتلازمان فى تاريخ البشر. والفقر مشكلة عالمية ، فهناك حسب آخر تعداد بدايات الألفية الثالثة ، أكثر من 2 مليار إنسان يعيشون تحت خط الفقر ، لا يجدون الفتات ، وينامون جوعى بلا عشاء. وتزداد شراسة الفقر فى الدول المتخلفة ، التى نصفها تأدباً بأنها نامية.
وبرغم ما يقدمه الساسة والاقتصاديون ، من أسباب ومبررات لتفسير ظاهرة الفقر ، كالحروب والأزمات الاقتصادية ومشكلة الانفجار السكانى ، فإننى لست مقتنعا بالكثير من هذه المبررات.
يعود السبب من وجهة نظرى ، إلى أن هناك قلة من الناس ، يسيطرون على مقدرات الأغلبية من البشر ، يمتلكون السلطة والمال ، وفى المقابل ، هناك الفقراء الذين لا يملكون شيئاً.
المشكلة أن هناك أُناسا يزدادون تخمة ، وأُناس لا يجدون قوت يومهم.
وتقدر أعداد منْ يعيشون تحت خط الفقر ، فى مصر بـ 50% من السكان من محدودى الدخل ، وسكان العشوائيات ، وسكان المقابر ، ومدن الصفيح. هؤلاء جميعاً يعانون الأمرين ليحصلوا على طعامهم.
ولأننا لا نعدم من بين رجال الأعمال ، فى مصر المحروسة ، مَنْ هم مؤرقون ،ومنشغلون ، ومعذبون ، وتتقطع أكبادهم حسرة وكمداً على أحوال الفقراء ، وخاصة طعامهم ولقمة عيشهم ، طلع علينا أحدهم ، الذى انتفض أخيراً بعد رقاد طويل ، وبدأ يشعر فجأة ، بمعاناة الفقراء وعذاباتهم وشقائهم بسبب لقمة العيش.
أنشأ هذا الرجل ما أطلق عليه " بنك الطعام " ، الغرض منه إطعام كل مصرى فقير ، عن طريق جمع فائض الطعام من الفنادق ، والمطاعم ، وولائم الأثرياء ، والسوبر ماركت ، والبيوت ، وتوزيعها على الأسر الفقيرة فى مصر.
وقد ناشد رجال الأعمال من ذوى الشفقة ، و القلوب الرحيمة ، والمؤسسات الخيرية المختلفة ، بالتبرع بجزء من المال ، أو بقطعة أرض ، أو بغير ذلك مما تجود به أنفسهم . وخصص لبنك الطعام هذا ، ثلاثة حسابات داخل ثلاثة بنوك رئيسية فى مصر ، وأنشأ خطًا ساخناً على مدى الأربع والعشرين ساعة ، للرد على استفسارات المتبرعين وأسئلتهم الخاصة ببنك الطعام.
ولكى يضمن رجل الأعمال رقيق القلب مرهف المشاعر، أن يصل الطعام إلى مستحقيه ، سوف يقوم برسم خريطة للأماكن التى يتجمع فيها الفقراء فى مصر ، والذين يحتاجون إلى الطعام.
ولا ينتهى الأمر عند هذا الحد ، فرغبة رجل الأعمال هذا ، فى إنقاذ فقراء مصر بإعالتهم وإطعامهم ، دفعته لتمويل فيلم تسجيلى قصيرا، لكى يعرض على القنوات الفضائية المختلفة . وذلك بأمل أن تلقى الفكرة قبولاً وتأثيراً ، لدى الأثرياء العرب ، فترق قلوبهم ، ويساهمون فى إطعام فقراء مصر.
وموضوع الفيلم يدور حول امرأة مصرية فقيرة تصطحب طفلها معها ، وهما يبحثان فى أكوام القمامة عن فضلات الطعام المتناثرة.
إنها فضيحة مهينة بكل المعايير ، أن يُصور فيلم عن هذا الموضوع ، وبهذا الشكل ، ويُعرض على القنوات الفضائية ، ليدر عطف وشفقة الأثرياء العرب ، وغير العرب ، على فقراء مصر فيدفعوا ثمن عشائهم.
إننى لست من أنصار إخفاء العيوب ، أو سترها بأى شكل من الأشكال . ولكننى أستهجن هذا الأسلوب فى عرض العيوب ، أسلوب التسول والشحاذة.
منْ يشاهد هذا الفيلم ، " خاصة من أثرياء العرب " ، سيشعر بالاحتقار والاشمئزاز ، من مصر كلها ، ومن فقرائها بشكل خاص.
إن دوافع رجل الأعمال هذا ، وإن كانت فى ظاهرها خَيٌرة ، إلا إنها فى الحقيقة ليست إلا إهانة لفقراء مصر ، ونيلاً من إنسانيتهم وكرامتهم . فقد تعامل معهم على أنهم شحاذون يتسولون الطعام من فضلات الفنادق والمطاعم ، لا فرق بينهم وبين حيوانات كالقطط والكلاب ، يلقى إليهم بالفضلات ، فيهرولون لاختطافها لإطفاء جوعهم.
هناك فى مصر ، أسراً توفر للقطط والكلاب طعاماً خاصاً ، مستوردا من الخارج ، لا يستطيع أُناس كثيرون ، توفيره لأبناءهم.
لقد تصورت أن رجل الأعمال هذا ، سوف يوفر لفقراء مصر ، وجبات جاهزة نظيفة وصحية . ولكن للأسف سوف يطعمهم ، من فضلات المطاعم ، والفنادق ، والبيوت ، التى تلقى فى القمامة .
أريد أن أهمس فى أذن هذا الرجل الثرى رقيق القلب والمشاعر ، هل تقبل أو ترضى ، أن يأكل ابنك أو ابنتك ، من فضلات المطاعم والفنادق ؟!
إنها طريقة التفكير التى لا نستطيع الفكاك منها ، كلما واجهتنا مشكلة من المشكلات ، طريقة تفكير يقع فى حبائلها كثير من الساسة والمنظرون فى مصر والعالم العربى والإسلامى .
طريقة تفكير لا ترى إلا الأشياء القريبة ، وتجعل الإنسان لا يدرك أو يبصر، أبعد من قدميه. فما جدوى الحل الذى سيقدمه رجل الأعمال هذا ؟ . هل سيستمر فى تقديم الطعام للفقراء ، لمدة سنة أو سنتين أو ثلاثة ، أو على مدى أعمارهم ، طالما أنهم أحياء ؟!.
إن هذه الفكرة بالرغم من عدم جدواها ، لا تصلح إلا لفترة زمنية صغيرة ، كموائد الرحمن التى تُقام فى شهر رمضان وحسب. أما على المستوى البعيد ، فهى فكرة فاشلة ، مهينة للفقراء . إن رجل الأعمال هذا إن كان مؤرقاً حقاً بمعاناة فقراء مصر ، فكان من الأولى أن يتعاون ويتضامن مع غيره من رجال الأعمال ، من أجل توفير عدد من فرص العمل سنوياً ، لأكثر الفقراء حاجة ، فيتكسبون قوتهم وطعامهم بجهدهم وعرقهم ، بدلاً من أن يتسولواالطعام فى خزى وخجل. وهنا أتذكر المثل الصينى الشهير " بدلاً من أن تمنحنى سمكة اعطنى سنارة لأصطاد بها الأسماك ".
إن هذا الرجل يفكر بطريقة منْ يقيمون " موائد الرحمن " والتى تُقام فى شهر رمضان ، لإطعام المسافر أو الفقير ، فبعد انتهاء الشهر ، لا يسأل منْ أقاموا هذه الموائد ، أين وكيف يأكل هؤلاء الفقراء طوال العام ؟.
إن رمضان هو مناسبة لتقديم الخير ، الذى يتمثل فى وجبة إفطار تُقدم للفقير والمحتاج. الخير بالنسبة إليهم ، " موسمى " يظهر فى أوقات ، ويختفى طوال العام .
وتختلف دوافع وأغراض ، مَن يقيمون هذه الموائد . فمنهم منْ يقيمها بدافع الصدقة ، وبعضهم بدافع من حب المظهرية ، والبعض الآخر ، يقيمها درءا للحسد ، وفقا للمثل : " اطعم الفم تستحى العين ".
ورجل الأعمال هذا ، هو على ما أعتقد ، ينتمى إلى النوع الذى يتفاخر باطعام الفقراء ، من أجل لفت الأنظار ، والاستعراض الشكلى .
إن تجربتى فى الحياة والتحليل الفلسفى والنفسى للبشر ، تؤكد أن لا أحد يقدم شيئاً لوجه الله . فهناك دائماً دوافع خفية ، غير الدوافع المعلنة ، وراء كل فكرة أو مشروع ما. وفى أغلب الأحوال ، تكون الدوافع الخفية ، عكس الدوافع المعلنة تماما .
هذا بالإضافة إلى أن هناك أموراً عدة ، تثير عندى الشكوك . فهذا المشروع ، له خط ساخن ، وتبرعات ، وحسابات فى البنوك ، وليس هناك من رقيب على ذلك ، والتلاعب فى هذه الحسابات ، ساحة مفتوحة ، تستخدم اسم الفقراء ، وعوزهم ، وقلة حيلتهم .
إنى أتساءل لمَاذا كل هذا فجأة ، وبدون مقدمات ؟!.
هل كان هذا الرجل يعيش فى بلد آخر ، ليس فيه فقر ، وفجأة جاء إلى مصر ، ليرى تعاسة وبؤس الفقراء ، فى البحث عن مسكن أو عمل ، أو طعام يطفئون به صراخ معدتهم ؟! . هل كان هذا الرجل يعيش فى غفوة دامت معه طويلاً ، ثم استفاق على صحوة أيقظت إنسانيته ، وجعلته يصدم حينما رأى امرأة تبحث فى أكوام القمامة على فتات الطعام ؟!.
إن نبرة الكذب والزيف ، زاعقة ، واضحة ، فى هذا المشروع ، وغرضها هو الحصول على المال بطريقة سهلة ، حتى ولو كان الضحية الفقراء فى مصر.
أقول لمثل هذا الرجل وأمثاله ، ألا تكفيكم ثرواتكم التى تزيدكم تخمة على تخمة ، كفاكم مزايدة بالفضيلة ، وفعل الخير .
ولكن حماقة الإنسان تدفعه إلى الجشع والطمع ، حتى ولو على حساب الفقراء.
من كتاب " الشيوخ المودرن وصناعة التطرف الدينى " 2002








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيديو: هل تستطيع أوروبا تجهيز نفسها بدرع مضاد للصواريخ؟ • فر


.. قتيلان برصاص الجيش الإسرائيلي قرب جنين في الضفة الغربية




.. روسيا.. السلطات تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة| #ا


.. محمد هلسة: نتنياهو يطيل الحرب لمحاولة التملص من الأطواق التي




.. وصول 3 مصابين لمستشفى غزة الأوروبي إثر انفجار ذخائر من مخلفا