الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فورة دم

صبحي البدوي
كاتب

(Sobhi Albadawi)

2021 / 8 / 11
القضية الفلسطينية


المقدمة

الصراع العائلي او تناحر العلاقات في الشارع الفلسطيني يزداد حدة بشكل مستمر . اجتهادات مختلفة تناولت هذا الموضوع مبرره هذا السلوك لضعف الروابط الاجتماعية وما ينتج عنها من تفكك تدريجي في الفضاء الاجتماعي العام. في المقابل يشهد الشارع اصوات اخرى تناشد بضرورة التماسك الاجتماعي كاستجابة لعواقب التغيرات الهيكلية الناتجة عن تفكك الروابط الاجتماعية. في التقليد الاجتماعي اعتبر دوركهايم التماسك الاجتماعي وبشكل اكثر تحديدا مسألة النظام كحاجة مهمة للتكامل والتماسك الاجتماعي في ظل عمليات التمايز الوظيفي والاجتماعي. بشكل عام يعتبر التماسك الاجتماعي عامل محوري في بناء الدولة حيث يعكس صورة ايجابية على قدرة الدولة في التعامل وضبط المشاكل الاجتماعية دون توسيع دائرة النزاع بين الافراد او الخصوم . يصف البعض هذه الحالة بالتوازن الاجتماعي او عدم التفكك الاجتماعي. هنا يحاول ان يقول لنا علماء الاجتماع بان عجز الدولة في اداء وظائفها قد يعود بالمجتمع الى حالة من التفكك وحالة من التهديد المستمر للسلم الاهلي.

قبل البدء في الحديث عن قدرة او عجز الدولة يجب ربط التماسك الاجتماعي بثقافة القوة والهيمنة اذا امكن لان هذه الثقافة نتيجة مباشرةً لسلوك الدولة او المجتمع اذا جاز التعبير. للمساعدة في فهم التحليل بشكل اوسع ، سألفت بعض الانتباه الى فلسفة غرامشي حول الحفاظ على السلطة من خلال الأيديولوجيا والثقافة. يحلل غرامشي السلطه بطريقة ترتبط بمفهومين: الثقافة والهيمنة. في الواقع يساعدنا غرامشي على فهم ان الثقافة غالبا ما يتم اعادة انتاجها بطريقة تساعد في الحفاظ على القوة. على هذا النحو، يرتبط هذا الشكل من السلطة بالممارسات الفردية اليومية من خلال مؤسسات مختلفة، مثل الاسرة والمدرسة والمؤسسات الدينية والاعلام والدولة وغير ذلك الكثير. بعبارة اخرى يتم انتاج هذه المؤسسات الثقافية بشكل استطرادي من قبل مجموعة مهيمنة في المجتمع . لذلك تصبح ثقافات هذه الجماعات او المؤسسات او الافراد مهيمنه عندما ينتشر قبولها في المجتمع وهنا يصبح التفكك نهج او سمة للمرحلة.

هذا الطرح يعود بنا لفهم صيحات الاستهجان التي تدور حول فورة الدم والقصاص في الشارع الفلسطيني . فلتان الشارع واشهار السلاح وثقافة العين بالعين وقتيل مقابل قتيل تفاقم الأزمة الاجتماعية في الفضاء الاجتماعي العام حيث يتم التناقض مع مفهوم التماسك الاجتماعي وكأن المجتمع يقول لنا بان مفهوم التماسك الاجتماعي يختلف من سياق الى سياق وحسب المشكلة الاجتماعية والتي يتم استخدمها لتأطير مفاهيم القوة والهيمنة ان صح التعبير.

ما هو التماسك الاجتماعي

يعرف لنا علم الاجتماع التماسك الاجتماعي على انه عملية الترابط والتضامن بين مجموعات المجتمع المختلفة ويمتاز بالشعور بالانتماء للمجتمع. بطريقة اخرى يفهم التماسك الاجتماعي كعملية اجتماعيه تهدف الى ترسيخ تعددية المواطنة من خلال الحد من عدم المساواة والتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والانقسامات في المجتمع. انه يعكس احتياجات الناس لكل من التنمية والشخصية والشعور بالانتماء ويرتبط بين الحرية والعدالة في جميع المجالات. في المقابل يظهر التفكك الاجتماعي عندما يميل الناس الى تكوين مجموعات متجانسة يتقاسمون فيها اهداف وثقافات مماثلة لا تتناغم مع النسق الاجتماعي العام. الحالة الفلسطينية لاتختلف كثيرا عن باقي المجتمعات العربية حيث لا يكاد يمر شهر دون جريمة قتل على خلفيات مختلفة ومنها عملية ثأر او كون ابن فلان لا يتناغم مع ابن فلان او العائلة اقل نسبا من تلك العائلة . كل هذه الجرائم او هذا السلوك قد يمنحه مسميات مختلفة كفورة الدم او ثقافة العين بالعين . فاسقاط هذه المفاهيم لتبرير السلوك يساعد على استمرارية السلوك نفسه رغم الاثار السلبية التي قد تعود على البناء الاجتماعي.

هذه المفاهيم المتفق عليها ثقافيا تتنافى مع مفهوم التماسك الاجتماعي ، يشرح لنا (لوكود 1999) تحقيق التماسك الاجتماعي يجب ان يكون متزامنا مع التكامل المدني ، لذلك من الضروري تحديد اليات تعمل ضمن النسق الاجتماعي لانشاء وتطوير اليات اتصال بين المستويات المختلفة والتخلي عن قيم قد تعيق التكامل. وكانه اراد ان يقول بان فورة الدم سلوك غير سوي وان حصل على غطاء شرعي من المجتمع الذي يمارس الهيمنة. هنا لا يصلح الخلط بين مفاهيم التماسك الاجتماعي ومفاهيم القصاص لان الثاني يلغي الاول في حال استبدال القانون بثقافة القتل، اي يجب ان يكون الفضاء الاجتماعي العام في حالة دائمة من التناغم كي يتحقق التماسك الاجتماعي والتكامل المدني.

هذا ما انسحب على الثأر ثقافة ومفهوما، حيث هذا الامتداد الثقافي المفاهيمي منذ العرب الاوائل حتى عصرنا والذي تجلى في الفتره الاخيره في مدينة الخليل . هذا الحدث يوضح لنا ان التاريخ الثقافي للمنطقة يلعب دورًا مباشرا في تعزيز القتل، وفقا لغرامشي( 1971) ان الهيمنه تقيد المجتمع بشكل اكثر احكاما بسبب الطريقة التي تنتقل بها الافكار عن طريق السلوك. على هذا النحو فان السلوك اليومي لتأجيج الصراع والقتل المتعمد على اساس فورة الدم كلها مفاهيم تم بناؤها من خلال التفاعل الاجتماعي عبر التاريخ وشكلتها الثقافة السائدة التى ترفض الثقافة المتسامحة او ثقافة التماسك الاجتماعي. بغض النظر عن رد فعل المجتمع المتبقي او رفض مجموعة واحده ، فان الحقيقة هي الثقافة المهيمنة وهي المحرك النشط وراء هذا السلوك.

ينشر هذا الشكل من اشكال التفكك الاجتماعي اساليب تثقيفية وتطبيعه تضفي الشرعية على مثل هذا السلوك الى الحد الذي يبدو فيه السلوك نفسه طبيعيا " يعني الاخذ بالثأر ولو بعد اربعين عامًا " . بالنسبة لغرامشي يقول لنا ان الجماعات الحاكمة تسعى دائمًا لكسب موافقة المجموعات التابعة للنظام الاجتماعي. يعني القبول بالقصاص وارتباطه بالنظام العشائري في حال الصلح او الحرب يعزز مفهوم الخلل القانوني وعجز الدولة من الردع. لا غرابة في الطرح حين نقول ان العائلية كنت جزء اساسي من ادوات السيطرة على المجتمع ولهذا تم تعزيزها بعد قدوم السلطة وشل المنظومة القضائية.

التماسك الاجتماعي والدولة العاجزة

الدولة العاجزة هي الدولة التي تفتقر للارادة والدفاع عن مواطنيها وهي دولة ذات اجهزة ضعيفة لا سيادة لها ولا تقوى على اتخاذ قرارات دون موافقة القوى المهيمنة سواء كانت داخلية او خارجية. يقول عمران (2016) كلما زاد عجز الدولة في احتواء المشاكل الاجتماعية كلما فقدت اطارها الوطني. بالمقابل تعمل الدولة العاجزة على استمرار الوضع القائم من خلال الحفاظ على علاقات وتحالفات ضمن السلطة وان كانت اثارها الاجتماعية اكثر كارثية من اجتثاثها. عندما يحدث هذا، ينتشر الفساد والاجرام ، وتدخل الجهات الحكومية في الحاله الفلسطينيه تحديدًا بنوع من التخبط ولوم الفاعل بدلا من خلق اليات تحد من تفشي الازمة بشكل عام . اي الحالات المختلفة في الشارع الفلسطيني بشكل عام تلتقي بالمفهوم الثقافي والتقصير المؤسساتي الحكومي وهنا يظهر النزاع الاهلي والتفكك الاجتماعي. يحق لنا ان نعتقد انه كلما ازداد غياب الدولة ازداد العجز في البنى والهياكل الاجتماعية وهذا الغياب يسبب حالة دائمة من التفكك الاجتماعي والفلتان الامني بغطاء شرعي. بالمقابل تحاول الدولة السيطرة او الهيمنة على الموقف عن طريق العشائر او رجال الاصلاح وهنا يقع الاجماع الفعلي على استبدال القانون او العقاب القانوني. ووفقا لغرامشي فالدولة هي مجموع الأنشطة العملية والنظرية التي من خلالها لا تقوم الطبقة الحاكمة بتبرير هيمنتها والحفاظ عليها فقط، ولكنها تنجح في الحصول على الإجماع الفعلي من المحكومين .بالتالي، فإن جوهر مفهوم الهيمنة يستند إلى فكرة القبول هذه، والمشاركة الواعية والطوعية للمحكومين في الهيمنة عليهم. وهنا قد يلتقي بورديو ( 2004) حيث يقول لاتحتاج الدولة بالضرورة إلى إعطاء الأوامر وممارسة الإلزام التأديبي لإنتاج عالم اجتماعي منظم طالما لديها القدرة على بناء معرفة إدماجية تكون متوافقة مع البنى الواقعية لضمان الخضوع الكلي للنظام القائم. ومما لا شك فيه ان هناك علاقة وثيقة بين الهيمنه والاستعمار وتحديدا محاولة الاحتلال الدائمة لمنع التطور الاجتماعي وتازيم المجتمع كجزء من الية السيطرة عليه. بالمقابل يرى الكثير من اصحاب الرأي في الشارع الفلسطيني انه كلما ازداد الاشتباك مع المحتل تتراجع المشاكل الشخصية والعائلية. تناقش الاخصائية الاجتماعية والنفسية عفاف ربيع (2021) ان العنف الداخلي يتصاعد في المجتمع الفلسطيني بعد وجود حالات وطنية نضالية عامة كالانتفاضات . ويرى اخرون ان الاسباب الاساسية للجريمه هو غياب سيادة القانون وسيطرة الثقافة العائلية والعشائرية وحالة الاحباط الدائمة وفوضى السلاح في الشارع الفلسطيني وترهل النظام القضائي.

الخاتمه

حاولت هذه الورقة طرح فهم جديد لحالة التفكك الاجتماعي التي يعيشها المجتمع الفلسطيني المتمثل بالقتل المتعمد وغياب القانون في معظم الحالات.
حاولت هذه الورقة ربط صلة مباشرة بين الوظائف السياسية للمفهوم الثقافي للهيمنة وعلاقته بقوة المجموعة المهيمنة. في الواقع سلوك النخبة في الحفاظ على سلطتها من خلال الثقافة في المجال العام ، يعني حين تشارك الدولة في القصاص الغير قانوني فان الحفاظ على الهيمنه لا يتطلب التزامًا نشطا من المرؤسين بشرعية حكم النخبة ، لذلك ستمارس مجموعات النخبة اجندتها بغض النظر عن الضرر الذي يواجهه المروؤس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صورة مفجعة لفلسطينية في غزة تفوز بجائزة -أفضل صورة صحافية عا


.. وسط تفاؤل مصري.. هل تبصر هدنة غزة النور؟




.. خطوط رفح -الحمراء- تضع بايدن والديمقراطيين على صفيح ساخن


.. تفاؤل في إسرائيل بـ-محادثات الفرصة الأخيرة- للوصول إلى هدنة




.. أكاديمي يمني يتحدث عن وجود السوريين في أوروبا.. إليك ما قاله