الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية: هدى والتينة (2)

حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)

2021 / 8 / 11
الادب والفن


رحل صوت "الحبيبة" في غياب امتد سنتين، كأنهما الدهور فوقها الدهور. الهاتف يشق موتي. قفزت من مقعدي في غرفة العلاج إلى غرفة المكتب ...
- "هل تعرفني؟"
فاجأني السؤال . ألجمني الصمت برهة: "امنحيني قليلا من الوقت لأتذكر؟"
- "أنا شوق"
- "أنت...!!!!!!"..
"هل سبق أن استعاد ميت حياته؟! هل سبق.." رددت في نفسي وأنا لا أزال مخمورا بالمفاجأة
- "التقطتُ رقم هاتفك من فوق اللوحة المعلقة على شرفتك.. هل أنت هنا منذ وقت طويل...؟!"
"أجل... منذ وقت طويل و أنا أنتظر هذه اللحظة... لا هدف وراء تعليقي للوحة التي تحمل اسمي ورقم هاتفي سوى الوصول إلى هذه اللحظة"؛ قلت في نفسي ...
تابعَتْ: "ماذا جاء بك إلى هنا؟!"
- "ألا تعرفين؟!"
صمتَتْ، ثم قالت: "لا أستطيع التحدث معك طويلا الآن، سأعود إلى ذلك قريبا، أو قد أقوم بزيارتك".
- "أنا في انتظارك، أنا مشتاق لك شوقاً عميقاً... أرجوك ، افعلي ذلك قبل أن أرحل من هنا؛ صحيح أن المنطقة الغربية من جنوب غزة مثيرة لي ومحببة، لكن خروجك منها إلى أقصى شمال غزة، نقل قلبي إلى هناك".
- "سترحل؟!"
- "قد يحدث!"
- "لماذا انتقلت إلى هنا إذن!"
- "لأحيا في ذكرياتي معك"
- "حدسي يشي لي أنك لن ترحل من هنا؛ أرجوك.. لا تطلبني الآن على الرقم الذي أتحدث إليك منه"
- "طمئنيني.. هل أنت سعيدة في حياتك الزوجية، هذا ما يهمني معرفته؟!"
- "الحمد لله أنا سعيدة جداً.. ومعي "بيبي"..."
- "اسمه شهاب"
- "كيف عرفت؟! جميل أنك تتابع أخباري.. هل تعرف زوجي؟"
- "اسمه ديب، وهو تاجر عقارات ثري ومشهور"
- "هل قابلته؟"
- "كلا"
- "حسنا!!".
وبعد أيام قليلة، جلست لوحة عيادتي فوق باب شقة، أجلس الآن في غرفة منها، تحت غرفتها التي كانت تقيم فيها قبل زواجها.. والتي يحتلها ألآن، أحد أفراد أسرتها القاطنة فوق رأسي.. أما هي، فلا تزال تقطن قلبي...
- "إنعام، هل أُخبرك بشيء يُدخل السرور عليك؟!"
ردت إنعام: "قل بسرعة يا أبَ الروح... البطة على النار، أعِدُّ له الغداء".. إنعام تزوجت قبل أيام قليلة، من رجل غير ذلك الذي كانت تنتظر الزواج منه، الذي كان يحتل قلبها ونجود أحلامها ووديانها..
- "تلقيتُ مكالمة منها هذا الصباح ...أنا سعيد جداً"
- "أنا سعيدة لذلك أيضا، جميل أنها لا تزال تتذكرك!! واعتقد أنها سعيدة أيضاً بأنك اخترت الإقامة في البلد الذي كانت تقيم فيه مع أهلها قبل الزواج"..
تُرى؛ هل تود إنعام أن يترك خطيبها السابق، بيته في مدينته الخليل في الضفة الفلسطينية من نهر الأردن، حيث كانا ينتظران إقامتهما فيه معا، حالمين كما يفعل كل خطيبين بهناء مستديم، بعد أن تزول العوائق التي يفرضها الاحتلال؟! ..تُرى؛ هل تحلم الآن بأن يفاجئها بالانتقال إلى بيت يجاور بيت زوجها في قلب مدينة غزة، الذي رحلت إليه، بعدما غادرت منزل عائلتها، فوق تلة عالية إلى الشرق من غزة. من فوق سقف بيت أهلها، وفي الليالي العميقة، مع القمر ومع النجوم، كانت المكلومة بفقد الحبيب، تسبح في الأفق، فتحط بخياليها العاشق المتيم في أحضان زوج ترملت منه وهو على قيد الحياة.
من مكان عالٍ في غزة، ترى الخليل. أدمنت إنعام الصعود إلى سطح منزل عائلتها العالي، لتحلق طائرة نحو بلد الحبيب الخطيب!
- "هل بدأتِ التكيف في حياتك الجديدة مع زوجك؟"
- "أحاول، ولكني لا أملك أن أمنحه قلبي... أترك له جسدي يفعل به ما يشاء، وألبِّي طلباته كلما أمرني بتلبيتها، يستسلم له جسدي إذا رغب فيه؛ لكني لا أهبه الروح، تغادرني الروح كلما دنا مني".
بدأت مكالمتي مع إنعام، وهي تلهث...
- "كنت في المطبخ، وجئت أجري للرد على الهاتف"
- "هل تجيدين إعداد الطعام الآن؟"
- "تعلمت، وهو يمتدح طعامي، إنه يحبني، هو طيب القلب، لكن رجلا يسكن قريبا من بيتنا يحمل اسم خطيبي حبيبي، وكلما سمعت اسمه يتمزق قلبي...نصيبي يا أبَ الروح، يجب أن أعيش الواقع!!"
منذ عرفت إنعام، وهي تدعوني: أبَ الروح، وكثيرا ما رددت وهي بصحبتي: يا ليتك أبي البيولوجي أيضا!
استعدْت خلال محادثتي مع ابنة الروح، بعض ذكريتنا، في المكان الذي جمعنا معا، خلال عملها معي... كنت طلبت منها أن تطهو لي "طبيخ عدس"، تحركت نحو مطبخي البائس في الشقة التي كنت أتخذ منها مكانا لنومي أيضا.. والتي بدأت فيها معرفتي بالحبيبة.. أعود إلى قصة العدس: ظننت أن مساعِدتي لبت طلبي، لكن، وبعد وقت، دق جرس الباب.. أسرعت لفتحه، فوجئت بجاري الطيب يحمل طنجرة (= وعاء للطبخ) ويدفعها نحوي. قلت له: "شكراً لك، لقد أعددنا طعاما، أشكرك".. رد الجار الذي تعودت منه أن يحمل لي شيئا من طبيخ زوجته :"هذا طبيخكم".
انتبهت إلى أن الطنجرة هي طنجرتي. فهمت. تناولتها منه. وبعد أن أغلقت الباب، صحت على إنعام:" هل طلبتِ من الجيران أن يقوموا بإعداد طبيخ العدس؟".. ردت بشيء من الوجل: "آسفة يا أبَ الروح، فإني لا أجيد الطهي، أمي لم تعلمني"!
أطلقتُ يومها ضحكة مجلجلة... وعندما انتهيت من رواية القصة القديمة، انطلقت من عند طرفي الخط الهوائي الواصل بين هاتفينا، قهقهة مجلجلة، من قلبها الدامي، ومن قلبي المنتشي بمحادثة الحبيبة القصيرة...
- "ها قد أضحكتك، عودي الآن لإكمال طهي طعام زوجك!".
كانت إنعام مخطوبة لرجل خطوبة موثقة بكتاب قران الرسمي.. لكن عدوان وجور وظلامة الاحتلال الإسرائيلي تفصل بين بلدتيّ إقامتهما. كانا قد تقابلا ذات مرة فيما كانت تزور بلدته، في وقت سبق المنع الإسرائيلي لمواطني بلدتيهما من انتقال أي من أهالي البلدتين إلى الأخرى.. بعد اندلاع انتفاضة الفلسطينيين الثانية، المعروفة باسم "انتفاضة الأقصى، عام 2000م، طبقت السلطات الإسرائيلية إجراءات عزلت مناطق السلطة الفلسطينية التي قامت في الضفة الغربية وقطاع غزة، عن بعضها البعض.. تبادلت الفتاة الغزية والشاب الضفيّ إعجابا مشتركا منذ اللحظة الأولى لاشتباك بالعيون بينهما، سرعان ما تحول إلى مصاهرة (وُئِدت قبل تمامها) بين أسرتيهما. إنعام وخطيبها عاشا تجربة حب عميقة على هواء ربط هاتفيهما المنقولين معا. تقاليد الأسرة الغزية التي تنتمي إنعام إليها، لا تمنحها حق التواصل الشعوري بينها وبين خطيبها.. كانت اتصالاتهما تجري من وراء ظهر أهل الفتاة.. "عندما ينام الجميع من أهلي، أغلق باب حجرتي ونوافذها وأندس تحت لحافي، وأفتح هاتفي المنقول لاستقبال المكالمة المنتظرة، فنهزم عادات بالية قاسية ظالمة ونهزم المسافات الفاصلة ونهزم تعسف الاحتلال معا، يصلنا الهواء وصلا أين منه الوصل بين الأبدان!!" ذات مرة، قالت ابنة الروح، تخاطبني: "أصابني مرض شديد، وأغميَ عليّ، فنقلني أهلي على عجل إلى المستشفى، وحين أفقت من إغمائي، جالت عيناي في المكان: أبي وأمي وشقيقاتي وأشقائي وجمع كبير من أقاربي يحيطون بي من كل صوب، والقلق المعجون بحبهم لي، يرتسم في وجوههم.. لكني لحظتها تمنيت لو أنك كنت معهم، وتمنيت لو أني القيت برأسي فوق صدرك وأنت تحضنني بين ذراعيك يا أبَ الروح!!"..
طالت فترة الخطوبة بين إنعام وسيد أحلامها.. وبدا لأهلها أن خطوبتها طالت عما تسمح به تقاليد الزواج عندهم؛ إتمام الزواج، وانتقال المحبة إلى عش الزوجية حلم يمنع الاحتلال الغاصب تحقيقه.. لم يطق الأهل صبرا، فقرروا فض الخطوبة.. تقدم رجل من أهل غزة لطلب يدها، وافق الأهل، لم يُقم الأهل ولا الرجل وزنا لواقع الفتاة المرتبطة بعقد زواج شرعي، يمنع أي أحد من خطبتها بالنية أو القول أو الفعل.. طلب ذكور أهلها منها أن تطلب الطلاق من خطيبها.. فجعها الأمر، وقلبها هوى وانسحق: "كلا، لن أفعل"؛ ردت على أبيها والذُكران الذين معه.. انهال الرجل الهرم، معه أبناؤه الذكور إلا أوسطهم، بالضرب العنيف المبرح على جسدها الرقيق.. بكت بكاء أليما لا تساويه آلام بكاء الناس منذ كان بين الناس قهر وظلم وحرمان. احترقت قلوب إناث الأسرة بنار كتمن سعارها وأجيجها ودخانها ورائحتها وكل انعكاساتها.. "اتصلي الآن به، واطلبي منه أن يطلقك".. "كلا، لن افعل".. عاد الذكور لضربها، قطعوا منها أوردة القلب المفتوحة بالحب على الحب، واصلت عيناها ذرف الدموع بصمت، وهَن جسمها عن تحمل المزيد من الضرب: "أنا لن أتصل به ولن أطلب منه أن يطلقني، إذا أصررتم على ذلك، فاتصلوا أنتم به، واطلبوا منه أن يطلقني"؛ قالت بانكسار لوحوش أهلها الكاسرة، الذين عرفت رقتهم وحنانهم معها في سابق عهدها.. اتصلوا بالسيد الساكن في قلب إنعام، وشرحوا له ما جرى.. كان الوقت ظلاما دامسا.. وفي صباح اليوم التالي، وقف الخطيب الحبيب أمام القاضي في بلدته، يلقي يمين الطلاق من الفتاة التي ملأت حياته بالورد الجوري الأحمر والأبيض.. وبعد سويعات، كانت إنعام تقف أمام قاض آخر، لتبدأ ارتباطها برجل لم تكن قد عرفته، ولم ينتظر حتى تجف دموعها!!
****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1


.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا




.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية


.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال




.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي