الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهج الشعر

هادي الحسيني
(Hadi - Alhussaini)

2006 / 8 / 15
الادب والفن



قراءة في مجموعة ارخبيل الحدائق

للشاعر العراقي ( كريم ناصر )

اتابع منذ سنوات المنفى التي تجاوزت العقد من الزمان بحرص شديد ما ينشره الشاعر العراقي كريم ناصر من قصائد ونصوص في بعض المواقع الثقافية ، وكلما قرأت له قصيدة بين فترة واخرى ، اجده قد قدم نصاً جديداً لا يشبه سابقه . وتمتاز لغة كريم ناصر داخل القصيدة بعذوبة خاصة وخلوها من الشوائب والجمل المتعددة التي تجمد النص بطريقة او باخرى ، كما نجد في نصوص كثيرة انجماد القصيدة واسترسالها البارد الذي يجعل من القاريء ان يدخل في دوامة الغثيان اذا جاز التعبير ، فقصيدة كريم تحيلني في احايين كثيرة الى انتقاء الجمل ذات الطابع المنشط لذهن الانسان حين يقرأ مثل هكذا نصوص ، لغة متزنة ، جملة مكثفة ، استرسال خالي من المطبات والوقفات التي ما برحت لتقسم القصيدة الى شطرين وتشتت المتتبع ..

ما اشاهده في قصيدة كريم ناصر ، هو صفاء في الشعر ، وهذا الصفاء نابع من احساس الشاعر واخلاصه الغير متناهي للشعر اولا ، انه فحوى الاشياء واندماج بعضها البعض في مخاض القصيدة التي يكتبها الشاعر بصدق مع روحه ، الامر الذي ينتج عنه هذا الجمال الشعري ..

وكريم ناصر المولود في مدينة الكوت العراقية ، عاش المنفى ويعيشه منذ ربع قرن من الزمان ، رسم مساره الشعري بهدوء تام وبعيدأ عن الاضواء وبعيداً عن التسابق في اولويات الشعر واكتشافاته ، كما يتصارع فيها بعض الشعراء وكأنهم في حلبة صراع الثيران الاسبانية !، وهو شاعر لا يتحدث عن بطولاته هنا وهناك كما يفعل البعض ، يكتب القصيدة ويمضي الى عوالمه التي يتمعن بها ليؤسس لقصدية جديدة ، ..

نحن ازاء شاعر من طراز خاص في سلوكه الشعري النادر في زحمة عدد الشعراء الذين يكثرون هذه الايام بنشر نتاجاتهم وطبعها بطريقة فريدة وغير مسبوقة ..

لقد نشر الشاعر كريم ناصر في دمشق عام 1988 مجموعة شعرية بعنوان ( بين حدود النفي ) . ثم انتظر سنوات طويلة لينشر مجموعته الشعرية الثانية ( برادة الحديد ) في العاصمة عمّان ، وقد حققت برادة الحديد حضوراً شعرياً ملفت للنظر وبخاصة ما تناوله النقد العربي لهذه المجموعة التي صدرت في العام 2000 ..

وها هو كريم ناصر ينتظر ستة اعوام ليصدر مجموعته الشعرية الثالثة والتي هي بعنوان ( أرخبيل الحدائق ) . عن دار ازمنة 2006 ، ليؤرخ لمرحلة شعرية جديدة ، وان كان الشاعر مقلا في نشره لمجاميعه الا انه يتعمد ذلك ، لحكمة الشاعر في تناوله للاشياء وطرحها في المواعيد التي يحددها هو ، و لديه العديد من المخطوطات الجاهزة تماماً للنشر لكنها مشاريع مؤجلة سيأتي يوم نشرها حين يقرر الشاعر ذلك ، فثمة العديد من الشعراء نشروا العشرات من المجاميع الشعرية وفي دور نشر راقية الا انهم لم يحققوا ما حققه الشاعر كريم ناصر في مجموعته ( برادة الحديد ) . او ما حققه الشاعر السبعيني سلام كاظم في مجموعته اليتيمة ( دخان المنزل ) والتي صدرت عام 1980 في بغداد وتوارى عن النشر لاسباب خاصة ، وامثلة كثيرة في هذا الصدد ..

مجموعة ارخبيل الحدائق تحتوي على اربعة ابواب ، وفي كل باب من هذه الابواب نجد مجموعة من القصائد . فالباب الاول المعنون :( فكما تعرف أنك صرت مطالباً مراراً ) يحتوي على اربعة قصائد متداخلة في بناءها الشعري الرامز للعنوان الذي ما بين القوسين والقصائد هي ، شمس الشموس ، ومحنة الحمام ، والقمر البري ، والستائر الزهرية ..

ففي قصيدة شمس الشموس ص 11 يقول كريم ناصر :

تعال انظر
كلما زاد صراخ الاطفال ، انكسر زجاج نوافذنا
وغرزت الصواعق صنانيرها في ظهر الشجرة.
يا شمس الشموس
متى نلحق بالفرسان؟
اللعنة ان الفردوس ليس لنا .

وفي قصيدة محنة الحمام ص 13 يقول ناصر :

لهذا
سأعبر الطريق المعقود بالحجارة ، لاعد محاسنك
كيف لا تعرف ذلك ؟
تعال معي انظر
كلما بصقت العواصف على المدينة فجراً،
هجع الوشق على سجادة أنيقة .

نرى هنا من خلال مقاطع القصيدتين ان الشاعر منكسراً لمّا تعانيه البلاد من دمار وحروب وويلات ، ومدن البلاد التي بدأت تتناثر وتبتعد الواحدة عن الاخرى جراء الطائفية وعنفها الذي يزداد يوماً بعد اخر ، المدينة التي كان يراها الشاعر في طفولته وصباه والتي عاد اليها بعد سقوط النظام عام 2003 ليجتمع باهله واحبته بعد غياب طويل لم تعد تلك المدينة التي كانت في ذاكرته ، فقد وجدها خالية تماماً من ابسط مستلزمات الحياة وخدماتها التي تلاشت واضمحلت ، لذلك لم ير حياتاً او عيشاَ هنياً لكل انسان يسكن هذه المدينة او تلك ،
الامر الذي انعكس على الشاعر وجعل ترميزه العالي داخل النصوص يتضح في احايين ، فمن جملة او كلمة يستطيع القارىء ان يعرف ما قصده الشاعر كريم ناصر ، ولكن في جمل اخرى والتي تتعالى فيها الرمزية يصعب التكهن ببعض الاشياء ، الا اذا اعطينا بعض الافتراضات التي قد يكون الشاعر يقصدها ..
وتصاحب كل قصيدة من مجموعة ارخبيل الحدائق غزارة في الالم واللوعة واليأس من الحياة بسبب معاناة الانسان العراقي الذي كان يرزح وظل وما زال تحت صوط الجلاد وحقارات الحروب والدمار وصولا الى المآسي الكبرى التي عصفت بالعراق بعد سقوط النظام العراقي ، وما نشاهده بالمشهد اليومي للوطن من قتل وخراب قد لخصه الشاعر بطريقة فنية عالية داخل كل نص من النصوص التي احتوت فيه ارخبيل الحدائق ، وينطبق هذا على قصائد القمر البري ، والستائر الزهرية ..

اما الباب الثاني والذي جاء عنوانه ( أرأيت ؟ بهذه البلطة ذبحت الوردة ) . وهذا الباب احتوى ايضاً على اربعة قصائد جاءت على التوالي ، الحدأة تقطع أصابع الضيف ، وما بقي من الابريز ، والعنقاء لا ترى سوى بصيص ، ووردة المنفى ..

وفي قصيدة الحدأة تقطع أصابع الضيف الشاعر يقول :

قل : يا نخل ألم يجرفك دم القتلى ؟
في كل حرب ترثي تلال فجرك ، مسافراً في ثمالة الجثث
تباً لك
هذه الطفلة تتلوى مصفرة كليمونة ،
مجرد ان تخر الدماء .
لماذا جردوك من المناهضة ،
واستعصى عليك ان تقشر جلد التمساح ؟


وفي مقطع من قصيدة ما بقي من الابريز ص 30 يقول ناصر :

كلما تهدم الجسر في الحرب
ابتسم من شدة الالم
رأساً على عقب انفلقت الطائرات
كرتل حلت عليه اللعنة .

يؤسس الشاعر كريم ناصر في هذه القصائد ويؤرخ لتارخ الالم العراقي ، ألم الانسان وألم النخلة ، وألم الجسر ، وألم الانهار والاشجار وحتى ألم السماء التي هي بالتالي ايضاً تعاني من دخان الحروب المستمر والذي لم يتوقف يوماً من الايام في بلاد الرافدين .
الشاعر مفجوع بما يحصل من دمار وخراب في وطنه ، ولهذا نجد آثار الدهشة في جملته الشعرية التي اخذت تبلور المأساة بطريقة اقرب ما تكون لتراجيديا الحزن المعشعش داخل كل النفوس لِمّا اصابها من ويلات ودمار ..

ونطالع في الباب الثالث لمجموعة ارخبيل الحدائق والذي عنوانه هو ( الجذاذات تتناثر في طريقنا ) . واحتوى هذا الباب على ثلاثة عشر قصيدة ، هي : الصواعق تحرق قلوب الفتيان ، وحدائق الكرم ، وضيف المرآة ، وورد البنفسج ، وإليك أصغي ، والحدأة ، ويد الاميرة ، ومغزى ،وثعابين الماء ، والافتراس ، والفتن النارية ، والقناديل ، وليس الوهاد ما نخشى ، .

وفي تلك القصائد التي يحتوي عليها الباب الثالث يحاول الشاعر استخدام الرمزية العالية بوصف الاشياء والمسميات وباختلاف واضح عن القصائد التي احتوى عليها الباب الاول والثاني ،..

فرمزية الاشياء باتت تأخذ طابعا مختلفاً عما جاء في قصائد الابواب التي سبقت ، لكن المقصود والمضمون واحدا تماماً ، وهنا تتضح المهارة لدى الشاعر في اللعب على اللغة ، حيث ان الشاعر هنا هو الذي يتحكم باللغة كيفما شاء ، ليتخذ من قصيدته بوابة تطل على مساحات واسعة ، ومتناولا الفجيعة والالم بطريقة تختلف الواحدة عن الاخرى ، كما وان حَبكْ الجملة الشعرية وترابطها القوي اصبح يسّير قصائد المجموعة في تدفقها الشعري الوهاج ، فما ان يصطدم القارىء بجملة تتطاير منها رائحة الشعر وشذراته اللاهبة ، حتى ينتقل الى جملة اخرى هي اشد تماسكاً ومعنى من التي سبقتها ، وبهذا يكون على القارىء لزاماً اكمال النص المشتعل بالشعر ..

ونرى ما ورد اعلاه واضحا في قصيدة ضيف المرآة ص48

حينما يقطع النسر العجوز غصن الملوكية
وتنشق الكوات في الداخل ( بمنتهى اليسر )
يهبط الظلام قاطعاً الطريق على الشمس
لم يكن امام الحمائم الخيار سوى ان تمضي
تمضي في قنوات مهجورة
لكنها ستقرع البيبان بجلالة ضوئها المنير .


وكما في قصيدة ( ورد البنفسج ) ص52 يقول الشاعر :

على ارخبيل الحدائق ، امام مرعى البقر
فقدَ الطالب رزمة الكتب
حيث هرع غاضبا الى الافق الشاسع
قلقاً كعصفور هلعاً كأيّل ..

وفي الباب الاخير للمجموعة الذي حمل عنواناً ( نخاريب النحل ) . فقد احتوى على ثمانية قصائد هي : زهرة العمر ، تعال لنغرس شجرة ، ساغسل وجه البلبل بالزيت والعسل ، قمر الفرسان ، كتاب الشمس ، المحنة الاخيرة ، عنادل الضوء ، وكم الخبرية وهي اخر قصائد المجموعة والتي يقول الشاعر في احدى مقاطعها في ص 101 :

كم أغارت الطائرات الحربية
على القرية التي لا تحتاج الى الموتى
كلما هربت الطفلة الى الفلوات
مخبأة كراتها الاخيرة
انسكبت في البئر قطرات وردية ..

لقد جاءت قصائد مجموعة ارخبيل الحدائق محتفية بشكل واضح بالموت والخراب والحروب في وقت يعاني وطن الشاعر من أزمات كبيرة على كافة الاصعدة ، وهذه المجموعة اذ تؤرخ لتلك المرحلة التي هي من اصعب واشد المراحل على وطن الشاعر الذي يعيش المنفى منذ سنوات طويلة ، فهو يحمل وطنه بين قصائده ونصوصه المكتظة بالالم واللوعة والحسرة على كل شيء جميل قد دمر في تلك البلاد التي ترزح تحت الخراب منذ سنوات طويلة ، وقد كان الشاعر كريم ناصر موفقاً بارخبيل الحدائق التي اثبتت حضورها الابداعي في الساحة الشعرية العربية لِما فيها من ابداع شعري و إضاءات قلّ ما نجدها في اصدارات الشعراء الكثيرة ، ارخبيل الحدائق يمكن القول عنها انها توهجات الشعر ..

وهكذا يكون الحضور الابداعي للشاعر في الساحة الشعرية المكتظة بالشعراء والمتلاطمة في كثرة نصوصها التي تنشر في دور النشر ومواقع الانترنيت وفي الصحافة المطبوعة والمجلات وغيرها ،..

ان تكتب نصاً تتلاْلىء فيه الجمل الشعرية داخل القصيدة لتحيله الى نصٍ مكتمل بادواته اللغوية وحرفته التي يبدو فيها الشاعر حين كتابة نصه مثل النحات الذي ينحت في الحجر حتى يخرج منه شكلا فنياً ..

ارخبيل الحدائق صدرت عن دار ازمنة بعمّان ب 105 صفحة ، وبغلاف انيق جدا وهو من القطع المتوسط ، وصمم لوحة غلاف المجموعة الفنان الايطالي :
Giuseppe Zigaina

شاعر عراقي يقيم في النرويج








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ذكرى وفاة الشيخ علي الطنطاوي أحد أعلام الدعوة والأدب في القر


.. كازينو لبنان يفتتح موسم الحفلات الصيفية مع السوبر ستار راغب




.. «بوحه الصباح» رجع تاني.. «إبراهيم» جزار يبهر الزبائن والمارة


.. مختار نوح يرجح وضع سيد قطب في خانة الأدباء بعيدا عن مساحات ا




.. -فيلم يحاكي الأفلام الأجنبية-.. ناقد فني يتحدث عن أهم ما يمي