الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(12 رجل غاضباً) ورشة متقدمة في فن القيادة وتغيير القناعات!!

ميرغنى ابشر

2021 / 8 / 13
الادب والفن


أمسية أول أمس ومع حبسة المطر الذي استمر هطوله حتى ساعات متأخرة من صبيحة اليوم التالي،أقترح علينا "إياد" إبني البكر،مشاهدة فيلم حتى نخرج من مملل الإنتظار. وافَقنا بإجماع مبتهج على مقترحه في بادئ الأمر الاّ أن "زينب" أخته المقبلة على الحياة ، فضلت القيام بعمل حلوى شعبية في المطبخ ،بعد أن علمت أن خيارنا أنتهى لفيلم بالأسود والأبيض من إنتاج العام 1956م، ومضت فرحة بخيارها بظن أننا لن نشاهد غير مادة من البدايات القديمة تخلو من الإحترافية. ولكن بالتحديد هذه الإحترافية لم أجدها قط في تاريخ الدراما - على حد مشاهداتي - كما وجدتها في خيارنا بالأبيض والأسود (12 Angry Men) وترجمته العربية" 12 رجل غاضباً" تصوروا معي دراما 95 دقيقة بدون أي حوامل شوف مشوّقه لا نساء فاتنات لا إثارة بصرية توقعية أو مباغتة، ولا أسماء ولا تصوير خارجي حتى باستثناء افتتاحية الفيلم وبعض المشاهد القصيرة. الفيلم من إخراج "سيدني لوميت" ، مستوحى من مسرحية تلفزيونية كتبها " ريجنالد روز" وهو أيضاً كاتب سيناريو الفيلم. يروي الفيلم قصة هيئة محلفين مكونة من 12 رجل يتشاورون لتحديد براءة أو ذنب متهم شاب في جريمة قتل من الدرجة الأولى. تدور أحداث القصة في غرفة محلفين شديدة الحرارة بها مروحة يجهل المحلفين طريقة فتحها الاّ بمصدافة غير مضحكة يجتمعون في قاعة ملحقة بالمحكمة في مدينة أمريكية كبيرة. مع بدء القصة ، يسارع جميع أعضاء هيئة المحلفين باستثناء واحد منهم لإدانة المتهم ، الشاب البورتوريكي ، بتهمة قتل والده. المحلف رقم 8 ، الذي يلعبه دوره نجم الخمسينيات "هنري فوندا" ، هو هذا الإستثناء الذي يرى أن هنالك إحتمال معقول في أن يكون الشاب غير مذنب مع توفر كل الادلة والشهود التي تؤكد على إغترافه الجرم. كل دراما الفيلم وتشويقاته تأتينا من خلال مداولات هيئة المحلفين والتي تأخذ رويداً رويداً منحى عجائبي عبر تحول موضوعي. يشعر المحلفون الأحد عشر الذين يوقنون في البدء بجرم الشاب ، بأنهم لا مفر لهم وأحد تلو الأخر غير إعادة النظر في قناعتهم الأولية وإعادة التفكير فيها مع طرح كل سؤال جديد ينطوي على إمكانية براءة الشاب، وفي الوقت ذاته تهابش هذه الاسئلة جوانية القناعات المسبقة الزائفة لكل واحد من الأحد عشر، مما يحدث شيئاً فشيئا إنقلاباً تدريجياً في هذا القناعات المصطنعة غير القيمية لينتهي المحلفون الاثنى عشر وبالإجماع الى براءة الشاب. "12 رجل غاضباً " اختير في العام 2007م للحفظ ضمن الأرشيف الوطني السينمائي من قبل مكتبة الكونغرس، لكونه أثر "حضاري وتاريخي و جمالي".

ينهض الفيلم على فلسفة الشك المعقول "REASONABLE DOUBT" التي أنتهى اليها الفيلسوف الأسكتلندي جهير السيرة "ديفيد هيوم" ،وعرفت في الترجمات العربية بالشكوكية (المخففة)، والتي إفترعها على تأسيسات الفرنسي رنيه ديكارات الذي أتخذ من الشكوكية(scepticism) طريقاً عجبا في رفضه للشكوكية (الشديدة) عبر نهج الشك ذاته (أنا أفكر اذن أنا موجود)، والتي إبتدعتها الاكاديمية اليونانية منذ القرن 300 ق.م على وجه التقريب.
يقدم الفيلم إسلوبية مبتكرة في كيفية إقناع الناس المتحدرين من ثقافات وبيئات إجتماعية مختلفة ،والمشتركين في قناعة واحدة ترسخت عبر تعرضهم لصورة ذهنية واحدة تواطأ المجتمع على مسلمات أسس تكوينها النمطية ،عن كيفية إقناع هذا (القطيع) بصورة ذهنية أخرى قد تصل حد مقلوب الصورة النمطية الأولية الراسخة عندهم، وذلك عبر سلسلة من الاسئلة الشكوكية المعقولة، والخبرة التجريبة المشاهدة وفقاً لمجموعة من القواعد الذهنية والنفسية والعملية والتي يمكن طرح بعضها على هذا النحو:
• القيادة ذات المسمى الوظيفي ليس هي بالضرورة التي تقود عمليات التغيير والبناء، ولكنها يمكن أن تلعب دور تنظيمي وإداري. وقد يكون القائد الفعلي للتغيير شخص لا يتمتع باي سلطة أو نفوذ إداري تميزه عن العامة (محل الموضوع).
• الإنطلاق من نقطة يشترك فيها الجميع مع أستخدم لغة واضحة وتواضع فكري.
• عدم تقديم وجهة نظرك(الغريبة) الجديدة بوصفها هي الحقيقة المطلقة ،بل هي إحتمال قابل للضحد 50% كما أنه قابل للصواب أيضاً بنسبة 50%.
• تقديم تحفظات موضوعية على الأطروحة الجمعية السائدة عند الأخرين، بدل تقديم رفض قاطع لها هذا المنحى يدعم تحفظاتك ويقوي من منطق إطروحتك الجديدة.
• إستخدم نهج الاسئلة التي تجعل الأخرين يفكرون بطريقة تقود لفصل الموضوعي عن الذاتي، بدلاً عن تقديم قناعات مباشرة.
• يجب ان يتقدم خطاب (التوازن العاطفي) في أي مسألة ذات طبيعية قضائية على خطاب الإنحياز، وهي نقطة جوهرية في نقل الاخر من الإنحياز المسبق للحياد الموضوعي.
• التركيز أثناء الحوار في تخمين إكتشاف نقاط الممانعة الغير معلنة ،أو جر الطرف الأخر في الإفصاح عنها لاشعورياً بالصبر العقلي وتحمل الإستفزازات بتهذيب يعرف غرضه جيداً ،ومن ثم مخاطبة جذور هذه الممانعة الغير موضوعية .من أجل الوصول للحقائق المشتركة وإنتقال الطرف الأخر من نقطة التحيز والتفضيل والمنافسة الى نقطة الحياد الإيجابي. إذ تلعب العوامل النفسية(الراسبة) والخبرة الذاتية الناتجة عن ظروف حياتية خاصة دور غير معلن في ذائقة وخيارات الافراد.
• تشجيع ظهور وجهات نظر جديدة - حتى لو بعيدة بعض الشيء عن غرض حججك - كفيلة بهز القناعة الواحدة المشتركة (للقطيع). عليك إذن أن تثير الأسئلة بإستمرار حتى تشجع على ظهور هكذا إتجاهات .
الدور الميّز الذي يمكن أن يلعبه الفيلم في تطوير مهارات القيادة وإدارة الأزمات، أشار اليه قبل مقالنا هذا بعض النقاد ، ولكن ليس بهكذا تفصيل ووضوح - على حد مطالعاتي المجتهدة - لهكذا كتابات غبّ تدوني لملاحظاتي بعد مشاهدتي للفيلم ، وهنا أتحدث عن أصالتي فيما ذهبت اليه بلا تواضع.

فيلم" 12 رجل غاضباً" ليس دراما سينمائية فحسب ،إنما ورشة لتطوير المهارات القيادية ونهج في التحرر من الراسب غير العقلي وغير الموضوعي في اقيستنا لموقف الأخر ووضعيته ، أنه يجدد التذكار بأن لا حقائق مطلقة ولا باطل محض. أنه دعوة بحامل درامي للتوازن العاطفي في إطلاق الأحكام على الاخرين. إذ يجسد الفيلم المضمون الفكري لإطروحة "شيلر" بصرياً، حين أكد في كتابه المعنون "رسائل في التربية الجمالية للإنسان" (على ضرورة تأسيس الحضارة بالإستناد على القوة التحررية للوظيفة الجمالية) ، ولكن بعد التقدم الصناعي والتقني المذهل الذي حدث مؤخراً في المجتمعات الغربية فقد الفن وظيفته التحررية التي أسهم فيلم" 12 رجل غاضباً" وقتها في النهوض بها . يقول الفيلسوف الالماني "هربرت ماركوز":( إحدى الآليات السياسية السائدة في المجتمعات المتقدمة صناعياً هي نشر الفن والأدب والموسيقي على أوسع نطاق ، فتحولت الى مجرد عناصر من العتاد التقني لحياتنا اليومية، في المنزل والعمل ،وهذا ما يجعلها مندمجة في النظام القائم فتفقد وظيفتها التحررية).
وأخيراً أجد ان "12 عشر رجل غاضباً " حجة على الدراما السودانية التى تشكو دوماً من محدودية الإمكانيات ، وشح موارد الإنتاج ،إذ يمكن لغرفة وتربيزة وشخوص وكاميرا واحدة أن تصنع خلوداً فلسفياً وجمالياً غير مسبوق عبر التاريخ . فلنا في ذلك حيلة ينهض بها كاتب نص يقترب من مخيلة "ريجنالد روز".
إنني أنصح الجميع بمشاهدته ،فغبّ أن إصتنطت "زينب" لحديثنا على جلسة تحليتها الشعبية حول رسائل الفيلم التحررية والفلسفية ، نهضت من فورها لتشبع فضولها الذي إيقظناه عمداً لتشويقها . وستشكرني كثيراً صديقي القارئ على هذه النصيحة، لذا لم أحكي لك تفاصيل القصة حتى لا أفسد عليك متعة المشاهدة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حفل تا?بين ا?شرف عبد الغفور في المركز القومي بالمسرح


.. في ذكرى رحيله الـ 20 ..الفنان محمود مرسي أحد العلامات البار




.. اعرف وصايا الفنانة بدرية طلبة لابنتها في ليلة زفافها


.. اجتماع «الصحافيين والتمثيليين» يوضح ضوابط تصوير الجنازات الع




.. الفيلم الوثائقي -طابا- - رحلة مصر لاستعادة الأرض