الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المواطن التونسي بين -كَلسونية- لطفي العبدلي وجمهورية قَيس سعَيِّد

محمد الحمّار

2021 / 8 / 13
مواضيع وابحاث سياسية


أشتركُ مع الكثيرين ممن يعتبرون أنّ الدولة في بلدٍ ما هي انعكاس لشخصية الفرد ومن أهمّهم الرسول الأعظم محمد ("مثلما تكونوا يًوَلَّى عليكم") والفيلسوف الديني الطّهوري رالف وَالدُو أمرسن.
لكن طبعا ليس الفرد الذي أقصده ذاك الشخص الفرداني الأناني المنعزل أو المهمّش وإنما الفرد بصفته مُكونا للمجتمع الذي يعيش فيه، آخذا من مواصفات هذا الأخير ومُزودا إياه بخصوصياته الذاتية القابلة للتحوّل إلى خصوصيات الجماعة. إنّ الدولة ومكوناتها، حسب هذا التوجه، انعكاس للفرد الاجتماعي، ألا وهو المواطن في كل أبعاده المعاصرة. لمّا كان الأمر كذلك، ما من شك في أنّ الحاكم ونظام الحُكم، بناء على أنهما معا يمثلان الراعي الأعلى للدولة هما أيضا بالضرورة صورة من شخصية المواطن.

في ضوء هذا، وعلى خلفية عملية 25 جويلية (يوليو) التي اعتبرَها نفرً قليل انقلابا وقبِلتها الجماهير العريضة بمثابة تصحيح للمسار، يتوجب معرفة هل أنّ الشخصية التونسية الآن في وضعِ انعكاس مُوَلدٍ لشكل الدولة الملائمة ولهيأة الحاكم المناسب ولمثال نظامِ الحكم الناجع أم أنها تسبح في واد والمتغيرات الناجمة عن 25 جويلية ستسبح في وادِ ثانٍ.

لكي نعرف هذا سوف نتناول بالمقارنة حدَثين اثنين، يبدُوَان غير ذي علاقة ببعضهما ولكننا سنُبيّن وجود العلاقة بينهما. الحدثان إحداهما مسرحي والآخر سياسي. الأول بطلُه الممثل لطفي العبدلي والثاني بطلُه رئيس الدولة وهو المتمثل في العملية التي أقدَمَ عليها في يوم ذكرى عيد الجمهورية في 25 جويلية.

بخصوص الحدث الأول، يَعرف الجمهور التونسي العريض مليّا ذاك المشهد اللفظي الإباحي من مسرحية "وان مان شو" للممثل لطفي العبدلي والذي "تحدّث" فيه صاحب العرض عن قطعة اللباس الداخلي الحميمي جدا لشخصية سياسية نسائية شهيرة. وقد سبق لي أن أطلقتُ على تلك الواقعة المسرحية إسم "الكلسونية"، نسبة للباس الكلسون.

كل التونسيين يتذكرون "الكلسونية" وما أثارتهُ مِن ضحكٍ وقهقهةٍ وتلذذٍ وصرفٍ للطاقة وتأييدٍ مطلقٍ وعلى أوسع نطاق من جهة، واشمئزازٍ وتنديدٍ حادين من جهة أخرى. لكن قد نلاحظ كلنا اليوم أنّ ذلك الغياب للإجماع الشعبي حول نمط العبدلي في التسلية والفذلكة يقابله ما يُشبه الإجماع حول عملية تصحيح المسار التي شاهدَته الساحة السياسية العمومية في 25 جويلية. فمن المفترض أن يبرز التوافق الاجتماعي بنسبة عالية وقارة إزاء كل الظواهر الكبرى في المجتمع. ولكنّ هذا لم يحصل بالنظر إلى الحدثين المذكورين. وبالتالي فسؤال اللحظة التاريخية الحالية هو: هل بإمكان إجماع 25 جويلية أن يدوم فيصبح علامة مميزة لمجتمع تونسي (نتاج الأفراد الاجتماعيين، المواطنين!) سيَلقى طريق النجاة ويسعى نحو النجاح والارتقاء أم أنّ متلازمة (syndrome) "الكلسونيت" قد طالت أيضا مجال السياسة وفعلَت فِعلَتَها فيه وسيكون مآل ما بعد 25 جويلية مجرّد إعادة إنتاجٍ للتفرقة بمختلف معانيها، الذوقية والفنية منها وأيضا الفكرية والسياسية، الأمر الذي لن يسمح بتصحيح المسار؟

ما من شك في أنّ السؤال يُحلينا على أكثر من متلازمة واحدة، تلك التي تقع تارة تحت طائلة علم النفس السريري لمجتمعٍ عربي مكبوت وطَورا تحت طائلة المدوّنة الأخلاقوية والطهورية إزاء عمل فني لا غير. يُحيلنا السؤال على ما هو أعمق من المتلازمة عموما وما هو أشدّ حتى من المرض أو الجائحة. عَدا عدم التوازن بخصوص نسبة التوافق بين حدثٍ مسرحي وحدثٍ سياسي (كما رأينا)، يُحيلنا السؤال على مسلسل التخبط الثقافي المتمثل في غياب التوافق بعينه، التوافق بين الثقافي والسياسي. وهذه متلازمة حضارية مستعصية، لا تشهدها تونس فحسب وإنما كل المجتمعات في الوطن العربي.

قد تُعزى اللخبطة الثقافية، حسب المسَلمات التي قدمتُها أعلاه، إلى تذبذبٍ في الشخصية الفردية وعدم تعديلها كما ينبغي على عقارب الفن وعقارب الأدب وعقارب الأخبار وعقارب التاريخ وعقارب الدين وعقارب السياسة بشكل متساوٍ ومتوازنٍ بين كافة أفراد المجتمع حتى تكون ردة فعل الجمهور الواسع، جمهور المواطنين، مُتوفرةً على نسبة عالية من الإجماع، الإجماع الذي يضمنه ما يسمى "نقطة الصفر".

الآن ما هي نقطة الصفر وماذا تعني في سياق موضوعنا؟ إنّ "كلسونية" العبدلي، لِجِهة أنها متلازمة سيكولوجية أخلاقوية عاكسة لِمتلازمة ثقافية عميقة، تطرح لُبّ مشكلة أزلية مستعصية: إنّ المجتمعات العربية بما فيها تونس فاقدة لشيءٍ ضروري ضاع عنها بسبب التخلف وهجمة الحداثة، فاقدة لنقطةِ توازنٍ (أصلية) للشخصية الجماعية أو ما يسمى بـ"نقطة الصفر" (Point Zero )، و ما سماه خبراء أمريكان عندما وصفوا القاسم المشترك بين أفراد المجتمع الأمريكي " طبقة العجين في البيتزا" وهي استعارة لتصوير الطبقة الأساسية في البناء الثقافي للمجتمع، طبقة تجمعُ (الأفراد) ولا تُفرّق، تحمي ولا تُهمِل، طبقة لها من الصلابة ما يجعل الشيء المضحك مضحكا للجميع و الشيء المُبكي مُبكيا للجميع، بينما تبقى الفروقات والاختلافات (الفردية الذاتية) في بوتقة أخرى، ليست هي نقطة الصفر وإنما نقطة سطحية مَثلها مَثل الطبقة الفوقية للبيتزا والتي تشتمل على مكونات مختلفة من زيتون وتنّ وصلصة وغيرها من المكونات غير الأساسية.

بكلام آخر، أخشى أن تكون عدوى "كلسونية" العبدلي، التي عادت على فئة واسعة من المجتمع بمتلازمة "الكلسونيت"، أن تكون قد تسربت دون وقاية ودون علاج إلى بوتقة الفكر والسياسة بما فيها ضلع الدولة والحُكم والحَوكمة. وبالتالي أخشى أن يكون تمشي المجتمع التونسي في قادم الأسابيع والأشهر دون مستوى تطلعاته التي عزَمَت عملية 25 جويلية على تحقيقها.

من هذا المنظور أعتقد أنّ الوقت قد حان للمتنفذين في مجالات التربية والثقافة والفكر والاجتماع أن يقوموا بالدراسات اللازمة ويتخذوا الإجراءات العملية المناسبة لتزويد العقل السياسي بمستلزمات الإصلاح العام والشامل، بدءً بالأسرة والمدرسة ومرورا بالآداب والفنون ومختلف أشكال التعبير الرمزي وانتهاءً إلى الحُكم و الحَوكمة حتى تكون عملية 25 جويلية إشارة الانطلاق لتشكيل " نقطة الصفر" ومن ثمة تكون هذه الأخيرة حجرَ الزاوية التي يرتكز عليها البناء المجتمعي الجديد، بدءً بإعادة بناء الدولة ومرورا بتصحيح نظام الحكم وانتهاءً إلى انطلاق العمل العمومي على أسُس صلبة تكون بِطانتُها المعرفةُ الجديدة وتكون مَواردها العقول الرشيدة وتكون أدواتُها السواعد العتيدة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز