الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صيف بلا ذنوب

ياسر العدل

2006 / 8 / 15
حقوق الانسان


حين ينتهى أولادنا من امتحاناتهم، وتهاجمنا حرارة الصيف وترهقنا رطوبة البيوت، ويقعدنا فى البيت ضعف مرتباتنا، يصبح من المعتاد أن أجلس مع زوجتى فى صالة شقتنا المتواضعة، نقتل عرقنا تحت هواء ساخن تحركه مروحة كهربائية، ننش ذبابنا الكسول ونطارد زهقنا اللاصق، نتبادل حكايات قوم محظوظين يحبون الحياة، يفكون أنفسهم ويصيفون على شواطئ البحر، يهفهف النسيم على أجسادهم، يأكلون السمك المشوى والبطيخ وفطائر الزبيب ومحشى ورق العنب، ويقزقزون اللب الأبيض وأم الخلول، ويلحسون الجيلاتى ويشربون عصير القصب والخروب، يهربون من الشمس إلى ماء البحر وظلال الشماسى، يشربون الشاى، يثرثرون بالأغانى والنكات ويلعبون الكرة والمساكة، يناكفون الزوجات والأزواج والأولاد، ويداعبون الشباب والأطفال والمسنين، وفى نهاية أيام المصيف يعودون للأصحاب بأحلام الشواطئ وجنيات البحر وأقراص من حلوى المشبك.
منذ أسابيع قليلة، نجح أولادى فى امتحاناتهم وقرروا أن يقضوا صيفهم بطريقتهم، وحين نجحت فى استلام راتبى الجديد غير منقوص وفى تأجيل سداد بعض الديون، نجحت مع زوجتى فى استعاده تفاصيل حلمنا بالتصييف، عندها قررت أن أحب الحياة من جديد واذهب مع زوجتى إلى مصيف بلطيم على شاطئ البحر المتوسط، وحين وصلنا إلى بلطيم أدرت بعض المفاوضات مع سماسرة الشقق ونجحت فى الحصول على شقة صغيرة على سطح عمارة مقابل عشرين جنيها يوميا، وبدأنا أيامنا فى بلطيم نطالع الناس والبحر والتصييف0
غالبية المصطافين مصريون يثير حبهم للحياة كثيرا من الشجن، الأسطى عنتر بعد شهور من العمل المضنى طوال السنة، أغلق ورشته ثلاث أيام وحضر للمصيف، والحاج سيد أصابه الملل من رغى أصدقائه لحكاياتهم القديمة فقرر أن يصنع حكاياته الجديدة بالتصييف مع أولاده، والأستاذ أشرف جمع غلته من ساقية الدروس الخصوصية وراح يفك نفسه بقضاء يومين على شاطئ البحر، والست هدى موظفة بسيطة دخلت أكثر من جمعية مالية ولمت القرشين لزوم التصييف، أمثال هؤلاء وغيرهم أناس بسطاء، يعرفون الحب ويجيدون الابتسام والصخب وصنع النكات ويعيشون عيشه أهلهم0
قليل من المصطافين يمثلون ظاهرة تحتاج الدراسة، يتاجرون بالدين ويروجون لثقافة فاسدة المنطق قليلة الذوق ساذجة التناول، كانوا فى الأصل فقراء علما وثقافة يسألون الناس إحسانهم وعقود العمل فى الخارج، سافر بعضهم إلى بلاد الغربة والحرور يعملون عبيدا، يمسحون عقولهم لتتكاثر نقودهم، وعند أول فرصة مالية أتيحت لهم قرروا أن يصبحوا أحرارا على طريقتهم، رجالهم تطول لحاهم وتقصر جلابيبهم، يتمتمون بأحاديث فرقة واعتزال، يقسمون أطفالهم إلى بنين مدللين وبنات محجبات، تختبئ نساؤهم خلف خيام لا تبين منهن غير العيون، يتمخطرن على الشواطئ تصلصل أياديهن بأكوام من الذهب، يجهدون أنفسهم بضجيج أغانى وأحاديث يرون أنها دينية، ويستحمون فى ماء البحر بكامل ملابسهم، هكذا يشرعون لأنفسهم لباس عزلة واعتزال0
الأصل أن الجماعة من الناس لها حرية الاعتقاد وحرية الفعل، لكن أى جماعة ليست حرة فى أن تشد أنف الآخرين وتصدر لبقية الناس ذلك القدر الهائل من الوصاية على أسباب الحياة، وذلك القدر الشنيع من الجمود والتمسك بالقشور، هكذا بعض أهل التصييف فى بلادنا لا يجيدون غير سلوك أهل بادية متخلفون، يستهلكون عشب الأرض والكلأ ولا ينتجون، يملكون قدرا كبيرا من توقيف العقل على قشور النصوص ولا يجادلون.
أننا قوم نتدرب كل يوم على كراهية الحياة، محاصرين بحملات دعائية يديرها قوم مهووسون يناصرهم إداريون ساذجون، يشوهون الجدران والأعمدة والعقول والقلوب فى مواقع العمل والتصييف والسكن، ينشرون لوحات إعلانية تضم أدعية وشعارات ساذجة، بعضها يرى أن مشاكل السفر لا يرفعها غير دعاء مخصوص، وبعضها يرى أن الصيف ملئ بالذنوب ولا يرفعها غير شعار صيف بلا ذنوب، وبعضها يرى أن عيون الناس مليئة بالانحراف ولا يرفعه غير شعار اغضض بصرك.
فى بلطيم رأيت المصطافين يعانون من مشاكل مياه الشرب، وتلوث الشواطئ، وانتشار القمامة فى الشوارع، وقلة المطاعم وارتفاع ثمن أم الخلول والسمك المشوى واللب الأبيض، فقررت العودة إلى مدينتى بعد ثلاثة أيام دون أن ارتكب ذنب التصييف أو أحمل أية أقراص من حلوى المشبك، مؤمنا بأن تحمل الهواء الساخن للمروحة الكهربائية فى شقتنا المتواضعة، أفضل كثيرا من التعامل مع هذا الجو الخانق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موجز أخبار الرابعة عصرًا - الأونروا: الأوضاع في غزة كارثية ج


.. جهاز الشاباك: حذرنا بن غفير والأمن الوطني من استمرار الاعتقا




.. شهادات أسرى غزة المفرج عنهم حول التعذيب في سجون الاحتلال


.. مواجهة شبح المجاعة شمالي غزة بزراعة البذور بين الركام




.. مدير مستشفى الشفاء: وضع الأسرى في السجون الإسرائيلية صعب ومأ