الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عاشوراء وميلان كونديرا والبصل

اسماعيل شاكر الرفاعي

2021 / 8 / 15
مواضيع وابحاث سياسية


في واحدة من قصص الروائي العظيم : ميلان كونديرا ، تلجأ مجموعة من النساء الى حيلة تقشير البصل لاستدرار دموعهن ، والانغماس في البكاء الذي هن بأمس الحاجة اليه : لينفسن من خلاله عن كبتهن ، ويطردن ريبة السلطة الحاكمة التي ستنظر الى بكائهن ؛ لو مارسنه بشكل جماعي في حديقة او ساحة عامة : على انه نوع من الاحتجاج السياسي . في مثل هذه الممارسات الجماعية ، تتنفس النساء الصعداء وهن يتبادلن الحديث ، اثناء تقشير البصل ، عن اوضاعهن الكارثية ، والمأساة التي يعيشها رجالهن في معسكرات الاعتقال ، وخلف القضبان ، وفي ساحات الإعدام ، وقد يتحدثن عن أمور خصوصية ، وعن غلاء الأسعار واختفاءالمواد الاساسية ، والاتجار بها من قبل العصابات في السوق السوداء . انه مكان اجتماع مفتوح على الإتيان بجميع الاخبار المحضورة . تذكرت قصة كونديرا هذه التي قرأتها في ثمانينيات القرن المنصرم ، وانا اشاهد حرية المرأة العراقية في البكاء بلا حدود ، وحريتها في لبس السواد وفي رفع الاعلام السود على سطوح منازل المدينة ، بحيث يصبح اللون الأسود الممزوج بالبكاء : هو ايقاع الحياة اليومية للعراقيين في شهر عاشوراء ...

اذا كانت النساء التشيكوسلوفاكيات يخفين رغبتهن بالبكاء على بؤس شروط حياتهن ، في تشيكوسلوفاكيا السابقة : خلف قناع تقشير البصل ، فأن النساء العراقيات لا يخفين الدافع وراء بكاءهن خلف اي قناع ، فمناسبة قتل الحسين اشهر من ان يتم تغطيتها بأي قناع . والعراقيات في عاشوراء يرددن بصوت جهوري : أشعاراً مكتوبة للمناسبة الكبيرة : مناسبة ذبح الإعراب لابن بنت نبيهم الذي أعاد خلقهم اجتماعياً وثقافياً وعسكرياً ، ومنحهم ما لم يمنحه أي قائد في التاريخ لقومه : منحهم الاعتزاز بذاتهم ، وغرز في أعماقهم الشعور بأنهم اصحاب مسؤولية في هداية الشعوب الاخرى ، لكي يهيئهم لمباشرة حروب " فتوح البلدان " التي ستجعل منهم اصحاب اعطيات ( رواتب) ثابتة ...

يزداد عدد العراقيات اللواتي يجتمعن للبكاء في عاشوراء سنوياً . لم يعد البكاء ولبس السواد مقتصراً على نساء الطائفة الشيعية ، لقد تخطى البكاء في عاشوراء دائرة طائفة الشيعة ، واصبح مع الاحتلال والحرب الأهلية والفساد والفقر والبطالة وغياب الكهرباء في عز الصيف ، وانهيار الخدمات العامة خاصة التعليم والكهرباء : عاماً وشاملاً ، وصار عاشوراء مناسبة لا تخص الشيعيات وحدهن ، بل مناسبة لكل المظلومات على اختلاف دياناتهن وقومياتهن : ينتظرن حلوله بلهفة ليرسلن برسائلهن وبادعيتهن الى كربلاء من خلف معسكرات اللجوء خارج وداخل العراق ، او من خلف بيوتهن التي تفتقد لابسط مقومات الحياة ، اذ تتكوم جدرانها على بعضها نتيجة قنابل الحرب الأهلية قبل داعش وأثناء داعش وبعدها ...

كلما طال امد حكم الاحزاب الاسلامية : السنية والشيعية ، وكلما تكاثر عدد الميليشيات ، وكلما تراجعت سيطرة الحكومة على المحافظات ، وانحسرت الى مجرد وجود رمزي : لا يتجاوز الخضراء ، وكلما تبدل شكل الحرب الأهلية من الأقتصار على استخدام الأسلحة النارية الى حرب على شاكلة ، حرب الأعمدة الكهربائية : كلما تزايد البكاء في العراق ، واصبح عابراً للقوميات والمذاهب والأديان ، ولم يعد مقتصراً على الشيعيات بل تخطاهن الى بكاء الايزديات على مأساتهن ، والى بكاء نساء الشبك على ما حل بهن ، وبكاء المسيحيات على سرقة دورهن والاستيلاء عليها من قبل زعامات دينية سياسية وميليشيات معروفة . وقد سبقتهن زمنياً الى البكاء : كرديات ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين ، بما تعرضن له من هجوم بالكيمياوي وهروب جماعي الى خارج العراق ...

هذا البكاء الجماعي للعراقيات اليوم يتواصل مع نحيب العراقيين الجماعي - قبل آلاف السنين - على موت الاله تموزي ومحاولة أنانا في أسطورة " هبوط أنانا الى العالم السفلي " بعثه مجدداً الى الحياة . قديماً كان سببه الطبيعة وتقلب الفصول ، وحديثاً سببه امريكا وايران والمحاصصة ، والاحزاب والميليشيات الدينية ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو