الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية: هدى والتينة (10)

حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)

2021 / 8 / 17
الادب والفن


يظنّ، وبعض الظن إثم، وبعضه وهُم، أن زواجه من امرأة واقعية مثل رجاء، سيكون ناجحا، فهذا الزواج، لو وقع، فسيكون، كما يظن، مبنيا على أسس واقعية متينة.. لكن، ومن جديد، لم يكن الحظ حليفا له؛ فلاذ بالروح: "هدى.. أينك يا نور القلب!! يا حلمي!!؟"..
يشغله القلق على مستقبل رجاء وأبنائها: "هل سيمنح الزوج القادم، الحب والحنان لها ولهم؟!"؛ سألها في المكالمة الأخيرة: "أليس هناك من سبيل لإصلاح ما فسد، بينك وبين والد أبنائك؟!".
- "مستحيل؛ إجراءات الاحتلال تجعل من حصوله على تصريح دخول إلى قطاع غزة، أمرا مستحيلا.. أضاع فرصة ثمينة من قبل؛ كنت قد استخرجت له موافقة على لمّ شمله معي ومع أبنائنا، لكنه رفض المجيء إلى غزة، الأمور الآن صارت معقدة، إسرائيل تخشى على مستقبلها، من عودة الفلسطينيين إلى وطنهم؛ أنت تعلم جيدا، أن زيادة الفلسطينيين في أراضي وطنهم، هو الخطر الأكبر الذي يهدد وجودها الزائف.. قرأت لك أنك تتبنى هذا الرأي، وتقترحه حلّا، أعجبني ذلك، وزاد إعجابي بك، إذ قلت: دعونا نهزم العدوان في معارك نخوضها في الفراش، فنساءُنا ولّادات بعنفوان وزخم.. أنت مدهش ومثير !".
راق له إطراءُها له، وانتعش قلبه بما ألمحت إليه، دون تصريح واضح، بأنها أحبته: "أنا إذن، أُدْهِشها وأُثِيرها وأعجِبها! هل للحب معنى غير ذلك؟!".. استرخى قليلا، ثم قال في سريرته: "ربما رفض أن يعود، لكي لا يدخل قفصا تقبض أنثى على مفتاحه! الوطن حرية لا ترابا! كل النساء سجّانات؛ فلماذا أبحث أنا، عن مرأة تحبسني في قفصها، وتغلق الأبواب والنوافذ بمداميك طوب ثقيل، فتختنق تحتها أنفاسي؟!"
واصلت رجاء الحديث: "اضطررت إلى طلب الطلاق منه، لقد أمتّه في نفسي.. أتمنى لو يعود، من أجل أبنائنا، إنهم شديدو التعلق به، ولا أدري كيف سيكون الزوج القادم معهم؟! أرجو أن يكون عطوفا حنونا!!".
- "هل يعرف صغارك أنك ستتزوجين؟ ما رأيهم؟".
- "يعرفون، ويتمنون أن يكون الرجل الذي سأتزوج منه، أبا بديلا عطوفا حنونا!!".
ثم سألَته عن ظروفه المعيشية وعن دخله المالي؟
- "معتكف في وحدتي.. والدخل منخفض جدا، والحمد لله على كل حال".
- "لماذا لا تشتغل في إحدى الجامعات هنا؟!".
- "لا مكان لي في هذا البلد المنغلق على ذاته، الغارق في تاريخنا الذي ولّى!!".
تذكّر قصته مع جامعة عمل فيها بعد عودته، بعد غربة طويله، إلى غزة.. أردف: "عقلي وقلبي المنفتحان بالحرية والحب، يا رجاء، منفتحان أيضا، على هلاكي في بلد يقتل الحرية والحب!!".
****
نهض من فراشه الأرضي، فتح نافذة غرفة نومه، وقعت عيناه على لباسين صغيرين داخليين، واحد أنثوي، يجاوره آخر ذكري، ومعهما منشفة حمّام، مشدودة جميعها، على حبل غسيل الجيران؛ قال بصوت خافت: "نمارس العلاقة الحميمة في الخفاء، وننشر الدليل عليها، في عين الشمس؛ لماذا نخجل من فعل المضاجعة؟ صديق قديم قال له:
- "لأننا نخجل من أنفسنا!!"..
- "نحن أبناء جماع بين ذكر وأنثى.. يخلقنا الله بعدما نصلي، عرايا، بين الزوايا"..
تنهّد ثم حدّث نفسه: "أنا بحاجة ماسة لمرأة؛ هل كانت "الحبيبة" أو "رجاء" ستمنحانني ما أشتاقه؟! هل كانت أيّة منهما، ستكون المرفأ الآمن الدافئ، الذي كان سيستقر عنده مركبي، المجدّف التائه في بطن الموج وفوقه؟!".. كانت صديقة قديمة نشأت بينهما علاقة حب، وهما يدرسان العلوم الإسلامية في معهد بالقاهرة، قد قالت له، بعد وقت قصير من تعارفهما:
- "الارتباط بك غير مُطَمئن!!".
- "لا شيء في العالم يَثْبت على حال، غير قانون التغير.. تعلمتُ هذا من هيراقليطس، فيلسوف اليونان القديم، ومنه تعلمت أيضا: يتجدد النهر كل لحظة، ولا ينزله أحد مرتين!".
التغير هاجس يعصف بفؤاده، ويحمله على أجنحة قلق أزلي: "قضيت حياتي أحلم بتغيير العالم، ولكن رجاء امرأة واقعية!".
جلس على مقربة من جذع التينة.. شرفة الحبيبة صامتة من فوقه.. وأمام عينيه، نخلتان طويلتان ترقصان معا، على موسيقى يعزفها الريح الصاخب المتدافع في أفق سماء ملبّدة بغيوم قاتمة، تُدوّي تحتها أصوات الرعد وتنشق في ظلمتها، عن انفجارات البرق.. تنبعث من المذياع موسيقى ناعمة من خلف زجاج يغلق نافذة الغرفة التي تقع تحت غرفة "الحبيبة" وشرفتها، التي تحاذي أواسط غصون التينة.. قطرات ماء تتساقط، فيقف في عراء الفناء، فيسقط المطر غزيرا، فيفرد ذراعيه، ويقفز في الهواء، كما الطفل المبتهج، ثم يرقص ويغني ويضحك .. وهدى ترمقه بعينين لوزيتين قلقتين لكنهما شغوفتان به، ثم تشبك راحتيها براحتيه ويرقصان ويضحكان...
يحلم بامرأة تؤمن به؛ قال لرجاء: "ما آمن بي أيّ من النساء، لا مثقفة ولا أُميّة، ولا كبيرة ولا صغيرة؛ إلا امرأة جمعتني بها ليلة أسطورية، وبعدها امتنعتُ أنا عنها، فاختفت عني إلى الأبد؛ وامرأة أخرى، استهواها ما أكتبه على الشبكة العنكبوتية، فأطرتني مرة، كررتها بعدها، وقالت كلاما عذبا، كتبته لي، ظننت منه، أنها اتخذت مني ربا فوقها، ثم صمتت ومضت!".
- "الحرية تستهوي النساء أيضا، لكن حكمتنا الأنثوية، تضبط أهواءنا، وتُخفي شهواتنا!".
- "بدأنا عرايا؛ حواء أمنا وآدم أبونا بدءا عرايا؛ الخطيئة ألبستهما أثوابا.. أنتنّ تُردْن حرية تغتصبن بها حريتي؛ مماتي في حريتكن، وحياتي، في امرأة تشحذ روحي بالحرية، فأُطلِق أجنحتي في الآفاق، عاليها، ودانيها؟!".
- "أنا متدينة؛ فماذا عنك أيها الخيل الجامح؟".
- "من حقك أن تؤمني بما تشائي، أحترم حريتك؛ فاحترمي حريتي.. أنا متدين على طريقتي؛ أؤمن بالقيم الأخلاقية العليا؛ الحب وبهجته والحرية الجميلة، أسمى القيم الأخلاقية!".
- "الإسلام دين الأخلاق!".
- "الأخلاق إنسانية، وبهجة الحب حكمتي وربّتي!!".
- "والإسلام إنساني أيضا!!".
- "أنا من طائفة المتفلسفين، والإسلام الإنساني ديني أيضا!!".
- "لستَ متدينا كما عامة الناس إذن؟!".
- "الحق معك، الفلسفة ودين عامة الناس لا يجتمعان!! ربّاه؛ هل لهذا فصلتني الجامعة التي عملت فيها في غزة، بعد فترة قصيرة؟!".
- "لماذا فصلتك؟!".
- "لأني أُؤمن بجوهر الدين، وأعمل به؛ الأخلاق الكريمة هي الدين؛ أليس الدين المعاملة؛ أما قال النبي محمد: إنما بُعِثْت لأتمم مكارم الأخلاق؛ وقالت عائشة زوجته، تصفه: كانت أخلاقه القرآن؛ وقال القرآن عنه: وإنك لعلى خلق عظيم؛ وحين شكّ، في مستهل دعوته، فيما إذا كان الذي جاءه ملك أم شيطان، فذكّرته خديجة زوجته، أنه على خلق عظيم كريم، وأن مثله، يأتيه ملك الله، لا يأتيه شيطان رجيم، فثبّتته ، على أنه نبي بعثه الله؛ فهيهات هيهات.. هل أحظى بخديجة أخرى؟!.".. صاح ينادي هدى.. استنشق الهواء بعمق، وزفره بعمق، كرر الاستنشاق والزفير عدة مرات، أطلق عينيه في الأفق المترامي الشاسع واستطرد: "أنا مدان بجريمة، صنفتها الجامعة، تحت مسمى: "انفتاح مخيف يحمل التهديد ولا يُسكت عنه ولا يُحتمل"؟! فهل يُجرّم من يؤمن بالحب وحرية التفكير والتعبير والتغيير، ويدعو للانفتاح والتجديد، ويقول إن الوجود واحد وكُثْر معا؛ الناس لا ينبغي أن يكونوا نسخا مكررة من صورة واحدة.. لا أستطيع التنفس تحت سقف قديم، وخلف أبواب مؤصدة، الحياة تفتُّح وتجدد لا يتوقف. السقوف القديمة تنهار فوق الغارقين في النوم تحتها، والأبواب المؤصدة قبور فاغرة أفواهها، تنتظر المتيبسين، والقطار ينطلق بالحاضرين في الموعد المضروب لانطلاقه، لا ينتظر المتخلفين، والحياة تُقبِل على من يُقبِل عليها، وتستدبر من يُعرض عنها؛ أنا أحب الحياة؛ الحياة حب وبهجة وحرية.. وإرادة واعية قوية أيضا!!".
- "أنت رعد هادر وفيلسوف صدّاح وخيل لا تهاب النزال، وأنا واقعية، أرضى بالمقسوم وأحمد الله عليه، وأنام خالية البال مستسلمة!"..
- "هنيئا لك؛ أغْبطك، كما أغبط الخليفة عمر، عجوزا سألها: أين الله؛ فأشارت إلى السماء بإصبع منحن واهن، وقالت: هناك! فقال عمر: اللهم إيمانا كإيمان العجائز!"..
- "تعال واخطبني كما تقتضي التقاليد!!".
- "الزواج التقليدي صورة مهذبة من سلوك قديم، شقّ الهمجيون السابقون طريقه، عندما كانت القبيلة القوية، تهزم القبيلة الضعيفة وتُذلّها، فتقتل ذكورها وتغنم مالها وصغارها وتسترقّ نساءها، تستعبدهن وتغتصبهن عنوة!! لا يزال الزواج لدينا، يعكس في طقوسه وممارساته علاقة تجدد الاستعباد القديم من القوي المتجبِّر، للضعيف المُذلّ؛ يدفع الرجل المال، وترتدي العروس ثوبا أبيض؟! المال قوة همجية ملساء صارمة، وبديل عن قوة السيف الصارم القديم ، والثوب الأبيض راية استسلام ترفعها امرأة قبيلة مهزومة، بشعور دفين، قديم، لم يبرح نفوس ذكورها، وإناثها بعد، يرتدَ إلى جاهلية سابقة باقية، كانت تئد البنات، لكي لا يجلبن العار، ولكي لا يأكلن طعاما، ليأكله ذكور، يُعدّون لأيام النزال! أنا أحلم بزواج، يُثمره الحب ويسقي الحب شجرته أبدا، فلا تجفّ أوراقها الطرية ولا غصونها الغضّة، ولا ينضب لها عطاء الزهر العَطِر الفوّاح، والثمر الشهيّ الطيب، أبدا، ويظل فيه الطرفان كريمين، تجمعهما صداقة حميمة مجدولة من بهجة الحب والحرية!!".
"لا تصلح رجاء ولا شوق لي، لا هذه ولا تلك هي من أبحث عنها"؛ قال لنفسه؛ أضاف، يخاطب نفسه: "لن تجد المرأة التي تحلم بها، ولو بحثت عنها بين نساء الأرض كلهن!!". تذكّر في سره ما قاله فيلسوف ألماني: "هناك امرأتان مثاليتان: الأولى ماتت. والأخرى، لم تلد بعد!!"؛ قال: "أما أنا، فسأنتظر من لم تلد بعد!!".
هتف من قلب يشتبك فيه الضياع مع الأمل: "أينك يا هدى.. يا حلمي.. أينك؟!!"...
اتفق مع رجاء في نهاية المحادثة، التي أبلغته فيها، أنها قررت الارتباط برجل آخر، على أن يظلا صديقين. وأعربت عن رغبتها في نيل درجة علمية عليا بعد درجة البكالوريوس التي تحملها؛ شجّعها..
- "من يساعدني؟".
- "أنا!".
انتهت المحادثة. طلب مندوبا لجامعة أجنبية، وبحث معه إمكانية حصول رجاء على درجة علمية عليا. عاد لمهاتفتها. ردت بعجلة وإيجاز واضطراب، وأغلقت الهاتف ؛ اعتذرت بأن لديها ضيوفا.. "ضيوف؟!"؛ تساءل في صمت؛ وقال يُحدّث نفسه: "نبرات صوتها تعكس أنها تستقبل العريس؛ تُرى، هل جاء ومعه أهله للمعاينة، كما عادة الناس هنا؟!
ستحظى بالقبول!
رجاء امرأة محافظة، وموظفة ذات راتب كبير، وصاحبة عقارات! مثلها، بضاعة مطلوبة في سوق نخاسة، تتجمّل بأصباغ كاذبة ثقيلة، تُخفي المعالم الحقيقية البائسة القابعة خلفها: في المجتمع الذكوري: الزوج سيد يشتري بماله امرأة عبدة، تحت مسمى زوجة. ستحظى رجاء بقبول العريس؛ آسف، إنها حظيت بقبوله، قبل أن يطرق باب بيتها؛ فقد جاء بعد أن استقصى أحوالها، واطمئن إلى أنها تملك ما يرغب فيه الرجال هنا، من وصف ومن مال، لذا؛ فهي تصلح له، وهي مبتغاه! أجل؛ بات الرجال هنا، يسعون للزواج من النساء ذوات المال والعقار! هنا، تزوج شاب وسيم وفي مقتبل العمر، لكنه فقير، من فتاة، بشعة الوجه والجسم، بشاعة منفِّرة جدا، لا تقوى نفس من يراها مرة، على أن يعيد إليها نظره، مرة أخرى!! لكن الفتى، المُشتهى من العذارى، سقط في إغراء المال الجاري بين يديّ أهلها، فزعم أنه يحبها.. ودون تأجيل، ارتدى العريسان بدلتا الزواج، وانتقلا إلى بيت، يكفل أهلُ المرأة، تكاليف معيشة الزوجين؟!
الناس هنا في ضنك وقهر ، مكبلو الأيادي والأرجل، خلف جدران الحصار وأمام عدوان عنصري جاثم فوق الأرض والنفوس. يحب الشاب زميلته في الجامعة، ويتعاهدا على الزواج، حين تسمح أحوال المُجْبَر على الدفع والشراء، فإذا تخرّج الشاب من جامعته، طبيبا أو مهندسا، أو سوى ذلك، بدأ بطالة، تمتد، وقد لا تنتهي؛ فيعبس ويتعس، ويكره الدنيا، ويتلاشى حماسه للحياة، وينسى عهد الحب أو يُنكِره، ويفقد الأمل في الخلاص؛ فإذا ابتسم له حظ، ولاحت بين ناظريه، امرأة عانسة أو أرملة أو مطلقة، موظفة أو ثرية أو من أسرة ثرية، أو تنتظر ميراثا من مال عائلتها وعقاراتها؛ اتجهت بوصلته نحوها، وسعى إليها، غاضّ الطرف عمّا هي، فلا يبالي بعمرها ولا حُسنها ولا علمها ولا عقلها ولا منبتها، ولا بأمر عدا مالِها؛ فيهجم كما يهجم مغامر بحياته، لعله ينجو من هلاك يتربص بحياته!
من هنا، رحل شبان يافعون في أول شبابهم، إلى بلاد أجنبية، فيها امرأة عرفوها، بوسائل التواصل لإليكترونية، واتفقوا معها، على الزواج بها، بعد أن أمطروها بسهام حب كاذب مفتعل، فيشحذ الحب المزعوم، شهوة لبهجة الحياة، لا تنفك تراود كل محروم، صغيرا أو كبيرا، غنيا أو فقيرا، معافى أو عليلا، فتصيب سهام الشبان الضائعون المزيفة، صدورا أنثوية قديمة، باتت عجفاء، تحت وجوه تمادت في التجاعيد، وحفرتها الأخاديد، وشحبت منها النضارة، ووهنت فيها العيون، قد بلغن أرذل العمر، أو دونه بقليل، لكنهن ثريّات، يقتربن من رحيلهن الأبدي، ويحلم الشبان هنا، بمالهن، مثلما يحلمون بالحرية في غير بلادنا، فبلادنا، بموازين المقهورين، وفي عيون الناهضين، وبأحكام القضاة العادلين، مقصلة للحرية ومقبرة للأحياء.. هنا، وفي كل بلدان الفقراء البائسين، أناس وشبان يتذابحون، أمام أصنام مال، قريبة أو نائية، دانية قطوفها، أو بعيد بلوغها ومنالها، لكنهم يحلمون بالحياة المشبَعة، فتغتالهم أوهام بالحرية، في البلاد الأجنبية، يظنونها، أنها حرية حق، وهي في الحق، استعباد رأسمالي مستبد وقح بشع، تطحن عجلته الأنانية الطمّاعة العدوانية الطاغية، بهجة الحياة والحب حريته!!
والناس في بلاد الاستبداد، والشبان منهم، مقهورون ينتحرون كل يوم بل وكل ساعة، تحت بطش سلطان فاسد يتشبث بالسلطان، لا يزيحه عنه، غير قوة عاتية، لا تلبث إذا ملكت مقاليد الحكم، أن تعيد عهدا سبق، فتستبد وتطغى، كما كان وتزيد عليه، وتُفْقِر الناس أشدّ مما كان، وتُجفف ما نجا، من ينابيع الحياة والحب والبهجة، وتغلق أبواب الحرية ونوافذها، بأبواب ونوافذ أثقل وأقتم مما كان!
-"الاستبداد طبائع مكتسبة، يا هدى، يقهر البلاد القديمة والحديثة، ويتعلمه اللاحقون من السابقين، ويضيفون عليه؛ أما أنت، فأنت النور الهادي الآتي من الحلم الخالد: بهجة الحرية حلمنا الخالد!"..
حظيت رجاء بالقبول، لأنها، فضلا عن ثرائها المادي، امرأة محافظة رصينة، ومثلها، هنا، بضاعة رائجة، تُشترى، فور عرضها!"
أطرق وقتا، رفع رأساه ورماه إلى الخلف، تنهّد، أغمض عينيه، أحسّ بالاختناق، اضطربت دقات قلبه، أجهش بالبكاء، تدحرجت دموعه على خدّيه، مسحتها هدى براحتيها الطريتين الناعمتين الحنونتين الدافئتين، أخدته إلى تحت التينة، تسمّر واقفا، تبلّدت عيناه ووجنتاه وشفتاه، ثم فُغر فاهه، وجمد أنفه، وتدلّى لسانه، وارتخت أطرافه، و،مادت الأرض به، ثم هوى فسقط كومة مرتخية؛ فأطلقت هدى صرخة من أقصى أعماقها، فسطع النور الذي في الكون، وفي الوقت ذاته، سطع النور الذي في قلبيهما وعيونهما، فانشقّت الأفق نصفين، وعلا نصف منهما فوق نصف؛ وفجأة، نهض كله، ما سندته ذراعاه، ولا اتكأ على شيء حوله.. استقام جسده، استرد قوته، ابتسم، ابتسمت هدى، ، احتضنته واحتضنها، وغنّيا معا، أغنية حب من نور من بهجة، ورقّصتهما الأغنية على لحن الحرية الخالد.. تسلّقا جذع التينة إلى أغصانها، فلدِنت الشجرة، في غير الموعد المعهود، وأورقت وأزهرت وأثمرت ونضج الثمر ولذُ وطاب، ثم ارتقيا من غصن إلى غصن فوقه، إلى أن بلغا أعلى الأغصان؛ فأذّنا، واقفيْن ناهضيْن ملتحميْن، وبعينين مشرقتين، وبحنجرة واحدة: "المجد لك أيها الإنسان!"..
شدّ حولها حضنه الحنون الدافئ المشتهي، ثم رفعها بذراعيه، إلى أعلى ما استطاع، فأذّنت، بأعلى ما استطاعت: "أمّا أنت أيها الأبيض الإمام، فأنت النور المنبلج النقي القوي الحرّ المحب العزيز الكريم الرفيع البديع، لا تنحني قامتك، وتنحني لك القامات كلها، ولا يشمخ أنف عليك، وتصعد أنت وترقى، فتطال رأسك السماء وما علاها، ثم تتنزل علينا، حاملا لنا مجدنا، وتبقى سامقا بيننا وضّاءا بهيجا في القلوب هاديا، وتبقى ظلا وارفا واسعا، ماطرا هناءا سلاما، لنا، وتظلّ عاليا، مُعليا؛ أنت منّا أنت فينا وفوقنا؛ أنت الحقّ السرمد والسرّ والعلن!"..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح