الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


*هل ما زال هناك مسرح ملتزم؟

حكمت الحاج

2021 / 8 / 19
الادب والفن


مع أن أتباع الفلسفة الوجودية من الذين ساروا على نهج "جان بول سارتر" قد نادوا بالالتزام، في الأدب عموما، وفي المسرح بخاصة، إلا أن كلمة "التزام" و"ملتزم" إنما أصبحت لصيقة بذلك النوع من المسرح الذي يهتم بالمشاغل الاجتماعية وهموم الوطن والأمة، على أن تكون الخلفية الفكرية يسارية اشتراكية، بينما كانت الخلفية الفكرية في الحالة الأولى هي الوجودية بشقيها الإيماني والإلحادي. وهكذا لمعت في الغرب أسماء مسرحيين كتبوا الأعمال الدرامية الملتزمة بوجهة نظر أيديولوجية معينة، منهم آرون سوركين، روبرت بن وارن، سيرغي آيزنشتاين، برتولد بريشت، جان بول سارتر، هوارد برينتون، كاريل تشرتشل، وفيديريكو غارسيا لوركا.
وبالنسبة لعالمنا العربي، فإنه قد استقر مفهوم المسرح الملتزم منذ بواكير الستينات من القرن الماضي ليصف تلك الفعاليات المسرحية ذات الطابع القومي الاشتراكي الوطني، والمهمومة بمشاغل الناس والطبقات الناهضة المكافحة، من وجهة نظر يسارية.
ولكن، ألم يكن هذا يعني، بشكل أو بآخر، إننا أمام مسرح سياسي بامتياز، وإن تفاوتت نسبة السياسة فيه بين قليل وكثير، واضح وخفي؟
نعم، هو كذلك، ولنُسمّ الأشياء بأسمائها!
يقال إن وليم شكسبير هو المؤلف المسرحي السياسي الأول بجدارة، وفقا لبعض الباحثين الأكاديميين، الذين لاحظوا أن مسرحياته التاريخية تدرس الدوافع والعواطف الشخصية والمكائد التي تحدد النشاط السياسي، وإن العديد من المآسي التي كتبها، مثل "الملك لير" و"ماكبث" و"كريولانس"، تضفي الطابع الدرامي على الحراك السياسي، والحيل المعقدة والمؤامرات لكائنات بشرية تقودها شهوة السلطة.
في تاريخ المسرح العربي، هناك تقليد طويل من العروض التي تتناول قضايا الأحداث الجارية، لا سيما تلك الأحداث المركزية في المجتمع نفسه. كانت لهذه الأعمال الدرامية أهمية طقسية واجتماعية عززت الانتباه للقضايا السياسية الراهنة، ومنها قضايا التحرر الوطني من الاستعمار وبقايا هيمنته على المنطقة، والقضية المركزية في الوجدان العربي، وهي مسألة تحرير فلسطين، وإعادة الحق المغتصب إلى أهله.
في العقود اللاحقة، اتخذ المسرح الملتزم أحيانا أشكالا مختلفة. في بعض الأحيان ارتبط المسرح السياسي بمسرح النجوم والتناول الشعبي للقضايا الكبرى، كما حصل مع مسرحية "أهلا يا بكوات" من بطولة النجمين محمود ياسين وحسين فهمي، أو "البهلوان" للنجم يحيى الفخراني، في مصر. أو اقترن أحيانا أخرى بفن "الستاند أب كوميدي"، والمسمى خطأ "وان مان شو"، في تونس، والمسرح الشعبي الجماهيري المنتقد للظواهر السلبية في المجتمع. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هي أعمال الفنانين، الأمين النهدي وكمال التواتي. وقد قدم هذا المسرح نفسه كمسرح "للناس من الناس لمصلحة الناس". ونلحظ في هذا الجانب، تطور المسرح السياسي داخل المجتمعات المدنية في ظل الحكومات القمعية كوسيلة فعالة للتواصل ونشر الفكر النقدي، وامتصاص النقمة وشيء من التنفيس، شريطة أن لا يمس من سلطة الزعيم الأوحد.
لقد ظهرت أنماط أقل راديكالية من المسرح الملتزم، داخل المرجع الحديث السائد للفاعلية المسرحية في تونس، مثل الدراما التي قدمها الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري ومحمد إدريس والمنصف السويسي وغيرهم من أتباع الواقعية التي تبحث في سلوك البشر كذوات اجتماعية وسياسية محاصرة ومحبطة. كان الشكل الخارجي المعطى على خشبة المسرح كتجلّ فني لرؤى هؤلاء المخرجين الأفذاذ، ينهل من تطبيقات المسرح التعبيري ومسرح الصورة، ولكن هذا الخط المسرحي الذي هيمن بشكل طاغ على المسرح في تونس، وأعطاه تقريبا صبغته الأساسية التي عرف فيها في العالم العربي والعالم، بلغ ذروته في الخطاب الداخلي للعرض كنوع من الإخلاص لمسرح برتولد بريشت الملحمي وتأثير التغريب البريشتي الذي يستخدمه معظم مخرجي هذا التيار المسرحي، الذي هو سياسي إلى حد ما، ملتزم إلى حد كبير، مما يجبر على الجمهور أن يتخذ "موقفا نقديا" للأحداث التي يتم تمثيلها أو عرضها على الخشبة. وأنا أرى آثارا عند هؤلاء من بقايا مسرح القسوة، والتي تطورت من الممارسة السريالية الفرنسية المبكرة والعبثية الأولى لأنطونان آرتو، مع مزيج شعري شاعري ملفع بأهاب المسرح الملحمي. ولعل أنصع مثال على ما تقدم، هو العرض المسرحي "العوادة" للمخرجين، الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري، ومن بطولة الفنان فتحي الهداوي.
في العقود الأخيرة من القرن العشرين ظهر شكل جديد من المسرح السياسي مع مؤلفات نسويات مثل "الفريده يلينيك" (نوبل للآداب عام 2004) و"كاريل تشرتشل"، يتناول قضايا المرأة ونضالاتها في سبيل مزيد حقوقها وتحررها. وقد تجاوز هذا النوع من المسرح إنتاج المسرحيات النسوية، بل سعى أيضا إلى منح النساء فرصا وخبرة عملية في جميع مجالات الإنتاج المسرحي التي كان الرجال يهيمنون عليها حتى الآن. فبالإضافة إلى مهنة التأليف والإنتاج والتمثيل، كانت هناك فرص للنساء لكي يصبحن فنيات إضاءة، ومصممات مواقع، ومهندسات ديكور، ومنفذات للموسيقي، ومديرات للمسارح، وما إلى ذلك.
وفي التسعينات من القرن الماضي، ظهرت مسرحيات تتناول قضايا المرأة في معظم العواصم العربية، من الدار البيضاء حتى بغداد ودمشق. وسرعان ما ظهر شكل جديد من المسرح الملتزم في تونس، مع بروز مؤلفة نسوية فيمينستية مثل جليلة بكار، وهي إلى ذلك ممثلة محترفة، والتي غالبا ما استخدمت الأساليب غير الواقعية الموضحة أعلاه، لإنتاج أعمال شديدة الواقعية، تمت مسرحتها على يد رفيق دربها، الفنان القدير فاضل الجعايبي، مثل المسرحية الشهيرة "جنون"، من بطولة الفنان محمد علي بن جمعة.
من ناحية أخرى، تم استخدم أسلوب الواقعية الاجتماعية لتصوير حياة الطبقة الوسطى المتعلمة، واستكشاف آفاق ومديات استيعابها للمشروع التحديثي في تونس، ومدى مواءمته للكفاح من أجل الديموقراطية.
فمع توفيق الجبالي ومسرح التياترو، أخذنا منه الدرس التالي: بأن المسرح لا يمكن أبدا أن "يتسبب" في تغيير اجتماعي، ولكن يمكنه التعبير عن الضغط باتجاه مشروع ما، ومساعدة الناس على الاحتفال بنقاط قوتهم وربما بناء ثقتهم بأنفسهم، وهي قبل كل شيء، يمكن أن تكون الطريقة التي يجد بها الناس أصواتهم وتضامنهم وتصميمهم الجماعي. وهكذا كانت مسرحية "هنا تونس"، ومن قبلها سلسلة عروض "كلام الليل"، المبهرة وذات الأثر المستمر رغم مرور سنوات على تقديمها، علامات بارزة في طريق المسرح التونسي الملتزم، والمقبول شعبيا، في الوقت نفسه.
وهكذا، ففي معظم عواصم المسرح في العالم العربي، تشظى الالتزام، وتوزع على أنماط مسرحية عديدة، وتناهبته تيارات فكرية مختلفة، فكانت في بعض الأحيان بمثابة كناية عن دمقرطة الحياة الثقافية نفسها.
ويمكن اعتبار هذه المسرحية، عملا ملتزما التزاما كاملا بمسرح اللامعقول، نصا وعرضا وتشخيصا، في خطوة متجددة نحو العصر ورهاناته وتحولاته، متجاوزا مفهوم المسرح الملتزم بضيق أفق أيديولوجي متياسر مسيس، إلى آفاق أرحب من حيث الالتزام بقضايا الإنسان واللغة وقيم الحداثة والكونية.
إن المسرح الملتزم ما يزال حيا، وسيبقى، ولكنه متحول باستمرار، مستبدلا أقنعته، منخرط في عصره باستمرار.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان