الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسود.. وأسود.... قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 8 / 20
الادب والفن


يقع المسجد الجديد في النصف الجنوبي من القرية, قريبا من الساحة الرئيسية, بني نكاية بالحي الشمالي ومسجده القديم, الذي لا تقام فيه حلقات الموالد, فشيخه لا يتقنها مثل الشيخ شعبان الذي تعلم أبا عن جد, طريقة خاصة للفت نظر البسطاء وليكثر المريدون والمعجبون.
ليس بين المسجدين رمية حجر, ستحضر مجموعة من الحي الشمالي على مضض إلى المسجد الجنوبي, للمشاركة في الموالد الاسبوعية, هم لا يستطيعون إقامة مثلها في مسجدهم, لعدم وجود من ينشد أو من يحفظون أغان وأناشيد.
أصوات الجوقة التي تردد خلف الشيخ شعبان, أخف حدة وأهدأ من صوته المتشعب, يطل المسجد على الساحة, التي تبدو كأنها منحدر, حين يمشي المرء فيها يميل باتجاه المرتفع ليحافظ على توازنه خشية السقوط للاتجاه الآخر.
في نهاية المرتفع, رتبت الكراسي أمام البيوت المحيطة بالساحة, وثبِّتت إذاعة خاصة ومكبرات للصوت على أسطح المنازل, ونصبت كاميرا فيديو لتصوير عرس أحد الشبان, بعد أن هرب من الثالث الاعدادي السنة الماضية, ليتزوج فتاته الحولاء.
توافد الناس بدعوة ومن غير دعوة لحضور الفرح, من القرى والمزارع المجاورة ومن الجبل القريب, احتشت الساحة حتى أتخمت, فبدأ الطبال ينقر طبله ساعة وصوله ويرقص, هاج الحاضرون وزغردت النساء الجالسات على الأسطح والأدراج.
كان هذا مقدمة, ريثما يصل المطرب وفرقته. رقص الكبير والصغير دون تنظيم, وارتفعت أصوات الصبية تردد بفرح:
( المطرب.. المطرب.. وصل المطرب والفرقة.. وصل المطرب).
صار نقر الطبل قرعا عنيفا متواصلا, تعبيرا عن الترحاب, ازداد التصفيق والهتاف:
( شرفتونا شرفتونا.. أهلا وسهلا شرفتونا).
جلس المطرب وفرقته خلف الطاولات بجانب العريس, وجلس بعض الحاضرين, اكتملت ترتيبات الحفل بتجريب المايكروفون, وراح العواد يعزف عوده.
علا صوت الشيخ شعبان وفرقته داخل المسجد بالنشيد, حين سمعوا صوتا منافسا يأتي من خارج المسجد:
( ألو.. ألو.. نحن هنا.. ألو.. ألو.. نحن هنا.. أهلا وسهل بالضيوف.. ألو.. يا هلا.. يا هلا.. ألو ألو.. جاهز تمام).
خرج الرقيب ومعه شرطي من مخفر القرية, الذي يقبع على الحدود مع دولة مجاورة, وبقي شرطي يحرس المخفر, سارا باعتداد حتى وصلا مدخل الساحة, قال الشرطي:
( ما رأيك أن نحضر حفلة المسجد؟..)
قال الرقيب:
( نحضر العرس أولا ثم نكمل في المسجد)
قال الشرطي:
( الله يبعدنا عن الحرام.. أنا ذاهب إلى المسجد).
قال الرقيب
( وهل صار حضور الأعراس حرام؟.). قال الشرطي:
( إنهم يشربون الخمور .. ويختلطون بالنساء). قال الرقيب:
( وهل الجامع يأمر بعدم شرب الخمر؟). رد الشرطي بحماس:
( نعم والقرآن والحديث النبوي أيضا) . قال الرقيب ساخرا:
( ألم ينه عن الرشوة أيضا؟.. أم يحق لك أن تختار ما تريد؟).

افترقا كل واحد إلى حفلته, حين وصل أخو العريس من مقر عمله في المركز الثقافي في المدينة, فوجئ بترتيبات العرس, رغم أنه أوصى أهله من قبل, أن يكون الفرح عاديا, يقتصر على أقارب العريس والعروس, ولم يعلم أن أخاه بقي مصرا أن يكون عرسه أكبر عرس في القرية, ليظل الناس يذكرونه مادامت القرية عامرة.
بعد أن جلس الرقيب منتشيا بالترحاب والهتاف والتصفيق, الذي جعله يحس أنه سيد الدنيا. وقف أخو العريس في وسط الساحة قال:
( يا جماعة.. يا صدقاء.. يا أهلنا.. أهلا وسهلا بكم جميعا.. أرجو من الجميع احترام القانون ومشاعر الناس.. وحفاظا على حياة الجميع.. أرجو أن لا تطلقوا الرصاص.. حتى لا ينقلب الفرح إلى أحزان).
نهض الشيخ شعبان يمسك دفه في منتصف الجامع. وقف الحاضرون إلى جانبه, أمسك أعضاء فرقته دفوفهم, شكلوا دائرة, وراحوا يرددون جملا وعبارات قصيرة:
( حي حي.. ألله حي).
على الطاولات في الساحة, أفرغت زجاجة خمر في الأكواب, أضيف إليه الماء حتى غدا كطلاء فاسد, شرب الرقيب, شرب المطرب وفرقته, وشرب عدد من المدعوين, غنوا ورقصوا فزغردت النساء.
أفرغت الأقداح, ثم ملئت فشربوا, غنوا ورقصوا, وزغردت النساء, أفرغت زجاجة إثر أخرى, انتشى الرقيب, رقص وغنى حتى انتصف الليل, ثمل منتشيا فتراخت أعصابه, وفقد توازنه, أخذ مسدسه وأطلق عدة طلقات متتالية, دون تحديد اتجاه, سقط على الأرض وهو يفرغ ما بجوفه ولايزال يطلق رصاصه, وسقط أخو العريس حين استقرت بعض الطلقات في رأسه. اختبأ البعض خلف زوايا البيوت, وصار المطرب وفرقته تحت الطاولات, تكوم الخلق فوق المصاب, تسربلت النساء عن أسطح المنازل, مزقن ثيابهن, ملأ عويلهن فضاء القرية, من خلال مكبرات الصوت, هرع بعض الرجال يستعجلون آلية لنقل المصاب إلى مستشفى المدينة.
مازال الشيخ شعبان يردد مع فرقته الجمل القصيرة بعد كل نشيد, نفر العرق من الجباه, غمرهم الهيجان والانفعال, ينحنون ويعتدلون, يميلون يمينا ويسارا, والدفوف تعلو وتنخفض, ويشتد الخبط عليها, تبللت الوجوه بعرق الإعياء, خاصة الحاج جمعة, الذي لم يحضر من قبل مناسبة كهذه. بدأ يفقد وعيه رويدا رويدا, لف ودار حول نفسه, ثم سقط بينهم وهو يحاول سحب بعض أنفاس ضاعت في رئتيه, التصقت حدقتاه في مقدمة أنفه, فر الدم عن وجهه, وفرد أطرافه كالقتيل.
توقف الشيخ شعبان وفرقته, وتوقف الحاضرون, حملوه خارج المسجد, وجرى أحدهم للبحث عن آلية تنقله إلى مستشفى المدينة.
لم يبق واحد في بيته, خرج الجميع إلى الساحة, ترتسم على الوجوه تعابير مشاعر متناقضة, تشرح خلافاتهم التي لا تنتهي.
صار الجميع في الساحة يتحركون بفوضى من مكان لآخر, بعض الأصوات تحتج بلا جدوى, وقفت في فم الساحة سيارة نقل صغيرة, وضعوا فيها فراشا, مددوا الضحيتين في الصندوق, وأسرعوا باتجاه المدينة.
بعض أهل القرية, حملوا الرقيب ليقذفوه في المخفر, كان الحارس مربوطا بحبل, واختفت الأسلحة والأشياء المهمة.
ظل عدد من أهل القرية في الساحة ينتظرون ويشتمون, ينفخون حنقا وغيظا, حتى بدا على وجوههم اليأس, وفقدوا الأمل من طلوع الشمس.
رقدوا في أماكنهم, الساحة ساكنة كمقبرة, بينما صخب النساء يأتي من بعيد, كأنه سوط ياسع الكاهل, ويمنع أحدا من إغفاءة قصيرة على رمل الساحة البارد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا