الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قيس سعيد والأسطرة الخبيثة: من قال أنّ الغرب ضد قيس سعيد؟

محمد عمامي

2021 / 8 / 20
مواضيع وابحاث سياسية


لو اقتصرنا على النظرة السطحية للأمور دون الأخذ بعين الاعتبار تعقّد وخبث الاستراتيجيات والبدائل المتعددة والمتشعبة للقوى الاستعمارية عن أزمات الأنظمة الموالية لها في منطقتنا وفي بلادنا لقلنا مع القائلين: إن أمريكا تقيم استراتيجيتها الحالية على دعم الخوانجية وحلفائهم في المنطقة (تركيا وقطر) ومعاداة خصومها السياسيين (قيس سعيد وحلفائه في المنطقة (الإمارات السعودية ومصر!) غير أنّ حلفاء قيس سعيد ليسوا سوى عملاء ضالعين تاريخا وحاضرا في فرض الهيمنة الأمريكية وفي طليعة المطبعين مع إسرائيل وهم لا يقلّون عمالة ولا عداء للثورة ولتحرر شعوب المنطقة عن المجموعة الأولى. وأغرب ما تستمع إليه كون قيس سعيد صاحب مقولة "التطبيع جريمة" يتموقع ضمن مجموعة دول تعمل ضد مصلحة أمريكا واسرائيل، لذلك يعمل الأمريكان ما في وسعهم لعزله واضعافه وممارسة الضغوط عليه لتمكين الخوانجية من البقاء في السلطة باعتبارهم ركيزتها الأساسية في الهيمنة! بعكس فرنسا التي تقيم استراتيجيتها على إسناد ودعم قيس سعيد ومن ورائه الإمارات العربية والسعودية ومصر لأنّ مصالحها تتعارض مع مصالح أمريكا وحلفائها في المنطقة!

أنّ تعارض مصالح الإمبرياليات شيء ليس بالجديد؛ ولكن مع ذلك التعارض هناك، منذ عقود، تفاهمات حول تقاسم سلمي لمناطق نفوذ يحافظ على التوازنات وتحالفات عالمية بين الإمبرياليات (الناتو تحديدا) نفسها في مواجهة المعسكر السوفياتي سابقا وحركات التحرر الاجتماعي والوطني، من جهة، وتعاظم خطر الصين وروسيا، حاضرا، من جهة أخرى. وتلعب الديبلوماسية بما فيها من رياء ومخادعة وضغوط وكرّ وفرّ، دورا مهما في تلافى الصدامات الكونية خاصة بعد دخول السلاح النووي حيز الإنتاج والاستعمال. وتتكامل أحيانا شراكات امبريالية مع شراكات اقليمية ومحلية وتقيم علاقات "صداقة" و"تعاون" (اقرأ غلبة وهيمنة وتسخير مقنّع) متعددة الأطراف. فمن قال أنّ العربية السعودية (صنيعة أمريكا) ليست صديقة لفرنسا؟ (انظر الصفقات الكبيرة بينهما في ميدان بيع السلاح الفرنسي للسعودية). ومن قرر أنّ قيس سعيد، صديق فرنسا والاتحاد الأوروبي، هو بالضرورة في وضع الشبهة ومحلّ الضغوط الأمريكية لأنه ليس أمريكي الولاء مادام فرنسي التوجه؟ قيس سعيد ما فتئ يوكد على تميز العلاقة الاستراتيجية التاريخية (منذ بورقيبة) مع أمريكا ولن يحيد عن ذلك. ومن يتوهمون دفعه إلى تنويع علاقاته خارج أمريكا والاتحاد الأوروبي وربط علاقات استراتيجية جديدة (الصين مثلا) ليسوا سوى حالمين أغبياء. فهو يسعى إلى الاستقرار في العلاقات واتباع النهج البورقيبي في أولوية الولاء الاقتصادي والثقافي والحقوقي لفرنسا أولا ولأوروبا ثانيا، في حين يبوّء أمريكا منزلة المهيمن على المستوى الاستراتيجي والعسكري والإقليمي كمعطى بديهي. ولكن ما أسهل ان تخلق لك نموذجا من الحروب تحشر نفسك في إحدى معسكراتها دون الأخذ بعين الاعتبار طبيعتها المتعددة العوامل والأبعاد والفاعلين، وكذلك عمق المناورات السياسية التي كثيرا ما تبطن ما لا تظهر وتذهب عكس ما يحدده لها الوثوقيون.

أمريكا ليست ضد قيس سعيد ولا هي ملتزمة بنصرة الخوانجية

"ليس لأمريكا أصدقاء بل لها مصالح": هذا المبدأ الثابت في سياسة أمريكا يجعلها تتعامل مع كل الأطراف المتصارعة في المنطقة، وتسعى للهيمنة عليها بأشكال متفاوتة ومتنوعة وتسخّر الجميع ضد الجميع، وتشجع هذا وتطمئن ذاك في نفس الوقت. فهي لا تبدو طرفا في الصراع ولكنها حاضن للجميع ومتوكل على الجميع. هي الحَكَم، توصي باحترام "الديمقراطية" في نفس الوقت الذي تساند فيه "الإجراءات الاستثنائبية" لوقف الأزمة والتصدي للكارثة وتقبل بتعطيل تلك "الديمقراطية" ظرفيا لكن دون تمديد، حتى لا تبدو انقلابا عن الديمقراطية وعن دولة المؤسسات والقانون! أمريكا رفضت وصم "الإجراءات الاستثنائية" التي قام بها قيس سعيد بالانقلاب، بل اعتبرتها لجوءا إلى الدستور لحل أزمة خانقة والتصدي لحالة استثنائية وخطيرة. ولكنها طالبته بالإسراع بتعطيل التعطيل: أي "بالعودة الى الديمقراطية" (أية ديمقراطية؟ وهل ما سمي الانتقال الديمقراطي له من الديمقراطية سوى المسخ!). يبدو الموقف مركبا وحمّال أوجه. فالفاصل القيسوني اللاديمقراطي كان ضروريا لفرض استقرار المنظومة المتهاوية بفعل لا مسؤولية وتكالب الخوانجية وإفسادهم المسار الديمقراطي "الحقيقي" الخيالي. ولكن ديمومته خطر عليه لأنّ ما زاد عن هذا التصور الأولي سيؤدي إلى ملاحظة أبعاده الأخرى التي تتجاوز المعركة الثنائية مع الخوانجية وسيجعل قوى أخرى تستفيق على وضع الرهينة التي تردّت فيه.

أضف إلى ذلك، كيف نستطيع تفسير انتشار الفساد الخوانجي بدون تنزيله في سياقه ضمن فساد الشراكة الخوانجية/الليبرالية صلب الدولة أولا والمجتمع ككل ثانيا، تلك الشراكة التي هندستها أمريكا بالذات ضمن مشروعها للشرق الأوسط الكبير؟ ثم كيف تريدوننا أن نسلّم بكون قيس سعيد، لكي يخرج الخوانجية من دائرة السيطرة على الدولة، يجب عليه حتما أن يعتدي على حق الشعب في الحرية والديمقراطية وأخذ مصيره بيده دون التسليم بسلطة المستبد العادل؟ أمريكا تعتبر الفاصل التسلطي القيسوني ضروري بشرط انتهاجه الفورية والسرعة ثم العودة إلى مسار "الانتقال الديمقراطي" بعد إخضاع الخوانجية الى قبول تعديل النظام السياسي والانتخابي وإعادة إرساء المنظومة البورقيبية القوية، ضامن الاستقرار وكابح الشعب عبر ثقافة الولاء للدولة لا للأحزاب أو للجماعة الراشية المافيوزية. ولكن لا الخوانجية سيتغيرون وإن أوهموا بذلك، ولا قيس سعيد يؤمن بالديمقراطية أصلا. وهكذا يبقى الصراع فوقيا بين قوى التسلط واحكتار النفوذ لا يبالي بكذبة "الديمقراطية" وبأضحوكة الحرية ولا يرى لجمهور المناورة من دور سوى التحشيد لما يخطط في القصور لتمريره. هو، إذن، صراع بين أنظمة حكم ممكنة ضمن نفس المنظومة العامة الرأسمالية المتسلطة والنهابة وبالتالي الفاسدة خلقا وخليقة: دولة القوة والحزم والضبط والقمع "المشرّع" ذاتيا عبر التأويل الشخصي والتهديد البوليسي والعسكري أم دولة المخاتلة والهرسلة والتمكّن والاستعانة بالدين والبوليس وشبكات الإرهاب الاسلاموي وكل الوسائل لفرض الطاعة؟ وفي الحالتين هي وبال على مواطنيها طالما سلّم "الشعب" (الأتباع!) بمشروعية مطلب اغتصاب السلطة والحكم الاعتباطي لأي من تلك الأطراف. فشعب لا يعرف كيف يصون حريته وكيف يفرض إرادته هو شعب خاضع ومدجّن مهما كانت نوايا سالب حريته.

أمريكا وأوروبا: حان وقت تحجيم الخوانجية ولكن دون لفظهم نهائيا

بغض النظر عن الأحزاب الانتهازية التي قفزت إلى سفينة قيس سعيد في الدقائق الأخيرة لتسجل نفسها ضمن قائمة الرابحين، فإنّ الفاعل الأساسي محليا والرابح الأول طبعا هي ماكينة منظومة بن علي التي، لا فقط غسلت نفسها من درن شراكتها مع الخوانجية، بل وعادت في شكل مرجعية للكفاءة الإدارية والعسكرية والأمنية. وهي مثال الوطنية والمسؤولية، ومن الطبيعي، إذن، أن تكون الحاضنة الطبيعية لمنقذ الوطن والشعب، قيس سعيد. كان لا بد من عشرية سوداء حتى يبرز فشل الإخوان المسلمين في الامتحان، حين وضعهم الناتو في موقع متقدم من لفيف القوى الحاكمة ضمن أنظمة الانتقال الديمقراطي في المنطقة كاملة. وينبع فشلهم من عجزهم على الانفصال عن تياراتهم الراديكالية وعن تخليهم عن طبيعتهم المزدوجة التي منعتهم من التعلّم والتطبّع بطباع حلفائهم، أسياد الأنظمة السابقة، الذين عرفوا كيف يتكيفون مع مقتضيات الثورة "الديمقراطية" و"المدنية" و"السلمية" التي ابتدعوها من خيال إعلامهم ومساجدهم ومنابرهم وبرلمانهم... مغطّين عن الثورة الاجتماعية التي أرعبتهم كلما أطلقت موجاتها المتجددة.

ويُعدّ نجاح نخب الأنظمة السابقة في العودة إلى الحكم صراحه دون التخفي وراء الخوانجية تعبيرا عن مرحلة مهمة في "انتقالها نحو الديمقراطية" وتخلصها من الصورة القاتمة لكتاتورييها المخلوعين. وهنا فقدَ الخوانجية المبرر الذي كان يدفع أمريكا وحلفائها في المنطقة إلى تحمّلهم وتعهدهم. وخفض منسوب ذلك التعهد ليتلاءم مع المهمة الجديدة: القيام بدور السائس للحليف الليبرالي الموالي للغرب قلبا وقالبا والتخلي عن حلم الريادة في انقاذ المنظومة القائمة. وبقدر ما كانوا ضروريين مطلق الضرورة في المرحلة الأولى لتفكيك الثورة وهزمها، بقدر ما أصبحوا عالة على عملية إعادة ترتيب البيت المضاد للثورة وإعادة تشكيل الأنظمة المهترئة بطريقة مقبولة تبدو فيها وريثة "ثورة ديمقراطية" مزعومة. وهذا ما جعل الأمريكان وحتى حاضنيهم المحليين (قطر تركيا) يحاولون - دون لفظهم نهائيا – تقليم تغولهم والضغط عليهم ليقبلوا التراجع في المشهد السياسي الى المقام الثاني وليسمحوا بتقدم شركائهم الليبراليين، ولكن نزعة الاستبداد والملك تستبد بالخوانجية أو ببعض مراكز القوة صلبهم ويصعب عليهم التراجع فينبذون ويضطرون ساعتها للاذعان صاغرين بعد أن تطير رؤوس العناد أو تذوى.

في هذا السياق المتميز بالتوجه الأمريكي الأطلسي إلى إضعاف الخوانجية وتعديل موازين القوى طبقا لذلك، نجح قيس سعيد في غلبتهم وحشرهم في وضع المشلول الذي لا يمكنه رد الفعل لأنهم يعرفون جيدا أن لا سند لهم إن ردوه خصوصا بطريقة عنيفة. فكل الأطراف المتدخلة كانت في هذه النقطة وراء قيس سعيد وسمحت بعجز الخوانجية على مقاومة الإجراءات الردعية الفورية – ولكنها المحسوبة والحذرة - التي اتخذها ضدهم وضدّ حلفائهم وكذلك في وضع ركائز سلطتهم خارج الصلاحية. ولكن مع ذلك، يعتبر استحواذ قيس سعيد على جميع الصلاحيات وجمعه كل السلطات فضيحة لعرابي الثورة المضادة "الديمقراطية جدا" وهو أمر يحرجهم أمام العالم وأمام شعوب تدرّبت على الحريّة ولو خارج الديمقراطية الرسمية المؤطرة والممأسسة، فاحتلت الساحات والميادين ومارست حريتها بفوضاها المنفّرة. وأمام خطر اندلاع لحظة فوضى الحرية من جديد وتطور موجة جديدة من الحراك الثوري يسمح بتجاوز حدود "المعقول" من الديمقراطية التوافقية، سارعت أمريكا وفرنسا والاتحاد الأوروبي على السواء إلى إرسال التحذيرات لمنقذ هيبة الدولة قيس سعيد كي يعيد اطلاق مسرحية "المسار الانتقالي الديمقراطي" المعطل، وكي يعيد تشغيل آلياته المهترئة ضمن مسار توافقي مع "كل الأطراف"، أي بما في ذلك الخوانجية، بعد القبض عليهم من خصيتيهم وجعلهم يباركون كل الخطوات اللاحقة (قبول الحكومة التي يعينها الرئيس، تمرير مشاريع تشريعية تهم خاصة تغيير النظام السياسي والنظام الانتخابي، القبول بالتضحية ببعض الرؤوس الضعيفة والمتنطعة (فتيان الشيخ)، وطبعا التضحية ببعض الفاسدين والمرتشين من موظفي الدولة والكناترية والسماسرة الصغار كي يأخذ الردع معنى معاد للفساد ويصبح شعبيا.

الماكينة القديمة واللوبيات الاقتصادية تعمل في السرية وتستبدل اللافتات

تأتي قيمة قيس سعيد بالنسبة للوبيات الاقتصادية التي ملت وضع الرهينة لدى الخوانجية وللماكينة النظامية التي خططت للتخلص مهنم بعد انتهاء مهمتهم القذرة، كون قيس سعيد بعذريته السياسية والأخلاقية لا يمكن للخوانجية ابتزازه والتلويح بورقة كشف جرائم كان قد اقترفها بشراكة معهم. وهذا ما جعل المواجهة معه، بعد أن التف حوله واحتمى به كبار بارونات الفساد والإرهاب البوليسي والعسكري لنظام بن علي وفاسدي النقابات والمنظمات والأحزاب الربحيّة، خاسرة أخلاقيا وسياسيا. وتلك العذرية الأخلاقية هي الأهم بالنسبة لجمهرة المؤمنين الذين لا يفرّقون بين حق ومنّة، ولا بين هدف اجتماعي وسياسي وبين النوايا الحسنة وطيبة القلب.

الغرب "ينخز البهيم ويتخبى بالبردعة"

إنّ تباكي الغرب اللبرالي، من جهة، والخوانجية، من جهة أخرى على "الديمقراطية" كذبة مضحكة. فالديمقراطية ليست على جدول أعمال الخوانجية ولا على جدول اعمال قيس سعيد على السواء. لذلك حوّل قيس سعيد الرهان من "تصحيح المسار الديمقراطي" إلى إرساء "نظام قوي" يردع الفاسدين والمجرمين (الخوانجية وحواشيهم) ويتصدى "للأزمة" قبل فوات الأوان، بكلمة متداولة "انقاذ تونس"؛ والإنقاذ يتطلب مركزة النفوذ بيد من حديد هي يد الحاكم الأوحد المستبد العادل الذي وحده يعرف حل الأزمات بما حفظه من علم أوحد هو الآخر، يستطيع به فهم وتأويل الأوضاع والنصوص وتقديم الحلول: ألا وهو علم القانون الدستوري.

هنا يلعب قيس سعيد لعبته الذكية، فحصر الجرائم والفساد والإرهاب وكل الشرور في الخوانجية سيمكنه من إنقاذ الجسم الأهم من المنظومة السائدة وربطها به: من عالم الاعمال الأصم والمجرم إلى الإدارة البيروقراطية المترهلة، الى الآلة القمعية المتكونة من المؤسستين الأمنية والعسكرية الخ... وخارج الخوانجية والتيارات القريبة منهم، لم يعد من مجرم سوى بعض التعساء المرتشين من الدرجة العاشرة أو بعض المضاربين الصغار. وهكذا يغطى قيس سعيد على اللوبيات الكبرى التي كانت ليوم واحد قبل 25 جويلية، لا فقط حليفة للخوانجية بل شريكة في كل جرائمهم. وضمن هذا المنعرج، أمكن لبارونات الداخلية والجيش والإدارة الموروثة عن نظام بن علي ان يبدوا بمنأى عن كل الفساد المستشري طيلة العشر سنوات الماضية وخرجوا في مقام الوطنيين الأبطال. وبالتفافهم حول الرجل النظيف الذي استجاب لتداعي الجماهير "العفوي" لتحقيق مطلبي حل البرلمان وحل الحكومة، أصبحوا جزءا من "حركة التصحيح الثورية" التي وسم بها قيس سعيد انقلابه على الثورة وانخراطه في مسار انقاذ المنظومة القديمة وإعادة عنفوانها ومركزتها وتسلطها وتنقيتها من شوائب عشرية التعايش مع الإسلاميين في السلطة.
ولكن هل كان من الممكن تنفيذ خطة انقلاب 25 جويلية بدون الغطاء الدولي الذي وفرته أمريكا والاتحاد الأوروبي، وخنازير الخليج وتركيا؟ أي بدون الضغوطات والتهديديات التي وجهها الجميع للخوانجية في حال مقاومة التسلط القيسوني؟ قطعا لا. والدعم الأمريكي يتجلى منذ البداية، مع التكرار المنافق حول التمسك بالديمقراطية والمؤسسات والدستور الخ، في اعتبار استعراض القوة "الاستثنائي" الذي أتاه قيس سعيد حركة ضرورية في واقع الأزمة الاجتماعية والسياسية والصّحية. وكان موقفهم واضحا برفض وصفه بالانقلاب ولكنهم أشفعوا ذلك طبعا وكعادتهم بضرورة العودة السريعة للديمقراطية" وهم طبعا يقصدون الديمقراطية على الطريقة ما قبل 25 جويلية، أي الديمقراطية الإخوانية التي كانت وراء كل الكوارث التي عاشها البلد منذ عشرية. إعادة البرلمان الى نشاطه وتشكيل الحكومة ورسم خارطة طريق واضحة تبين الخطوات اللاحقة وتتبنى الحوار مع "جميع الأطراف السياسية والشعب"، تلك هي الوصفة النمطية التي لا يبرحها ولا يتخلى عنها الأمريكان والناتو بوصفها الماركة المسجلة له والمدخل الى احتلال الشعوب واغتصاب ثرواتها وإرادتها. ولكن، هل ستتثور ثائرتهم إن حلّ قيس سعيد البرلمان وكوّن مجمع "خبراء في القانون الدستوري" ونقّح دستور تسعة وخمسين؟ ورمى بدستور الفين وأربعة عشر؟ قطعا لا. وهل سيعزل دوليا لو نقّح القانون الانتخابي ثمّ قرر انتخابات على هواه تفرز برلمانا شكليا وغير ذي سلطة؟ قطعا لا وهل سيعاقبونه في حال نقّح مجلة الأحوال الشخصية بما يتماشى والنص المقدس؟ قطعا لا. كل ما يهم هو الشكل. والشكل يمكن دوما تشكيله على الشكل الذي لم يعد معه مشكلا. وطالما مصالحهم وهيمنتهم محفوظة من قبل الحكّام والمحكومين فلا مشكل.

أين الديمقراطية من كل هذا؟

لقد بينت موجات الحراك الثوري قدرتها على ابتداع اشكال وأطر تنظم جماعي متضامن وتضامني تتميز بإتاحة المشاركة الشعبية في التداول واخذ القرار أثناء الاعتصامات والاضرابات والمظاهرات الكبرى في الشوارع والساحات العامة والحوم والأحياء الشعبية وأمام مقرات رموز السلطة المنصبة، حين كانت لجان حماية الثورة تحرس مكتسبات الشعب وتطورّها وتتصرف بوصفها هياكل تسيير قاعدية مفتوحة وفي علاقة مباشرة بالمواطنين. وأعطى كل ذلك الزخم اشارات قوية الى ولادة نوع جديد من الديمقراطية غير الحبيسة لصفوة المتنفذين القابعين في قصورهم، يسطرون ما على الشعب فعله كي يختار من بينهم هم من "سيجلده" بكل "ديمقراطية" ووطنية.

يتعلق الأمر، إذن، هنا بالتمييز بين ديمقراطية الثورة وديمقراطية الثورة المضادة. فديمقراطية الثورة هي ديمقراطية مباشرة لصيقة بهموم وفعل الجماهير الثوري الميداني اليومي، وديمقراطية الثورة المضادة هي ديمقراطية الصفوة المتنفذة تتقاسم في بينها، دون سواها، كعكة الحكم والنفوذ والثروة تبعا لذلك. فلو كان حراك 25 جويلية من قبيل حراك 17/14 أو حراك 08 فيفري 2013 أو 25 جويلية 2013 أو غيرها من الحركات الاجتماعية في الجهات والمناطق التي تجرأت على طرح قضية المشاركة في تسيير الثروات واستعادة المنهوب من الشركات الكبرى العالمية والعميلة المحلية، لكان طرح بطبيعة ديناميكيته قضية الديمقراطية المباشرة. ولكن حراك 25 جويلية الأخير، وإن عبر في جانب منه على حقد وغضب شعبيين كبيرين على منظومة الحكم وخاصة عن الخوانجية وصنائعهم في البرلمان، مركز القوة في السلطة القائمة منذ عشرية، فإنّ طبيعته وقياداته وشعاراته ومطالبه والحدود التي رسمت له كانت مخططة سلفا ومحصورة في التخلص من العائق الذي كان يقف ضد أهداف الرئيس لا غير (تغيير النظام السياسي والقانون الانتخابي مما يسمح بمركزة السلطات بيد الجهاز التنفيذي وعلى رأسه الرئيس). ويتمثل هذا العائق في البرلمان والحكومة. لذلك جاءت شعارات الحراك مطابقة تماما لخطة ومرامي الرئيس ومن يقف وراء الرئيس. وكانت الحشود جمهور مناورة والبوليس والجيش ضامنين لردع كل مقاومة تصدر عن الخوانجية وحلفائهم من جهة، وعن أية قوة محتملة لا تتعرف على نفسها في مشروع الرئيس، من جهة أخرى. إنّ حراك 25 هو حراك عمودي هرمي توكيلي بمعنى كان يهدف إلى توكيل الرئيس على مصير الشعب وجعله منقذا وأبا ومسؤولا على قوته وعرضهوكرامته، بما يعني ذلك من التسليم بعجز الشعب والشباب والنخب وكل مكونات المجتمع عن تحرير أنفسهم بأنفسهم.
وكانت استجابة قيس سعيد بما يتلاءم مع ذلك التفويض القدري الاستسلامي: تهديد الجميع في كلمته التي أعلن فيها "اجراءاته الاستثنائية" التي تلخصت في استحواذه العلني والصارخ على كل السلطات والرفع من حالة الطوارئ درءا لكل احتمال تحركات مضادة لهذا الاستيلاء. ولئن ظل قيس سعيد دوما غامضا في خصوص برنامجه وبديله السياسي فإنّ الانقلاب الأخير كان على حساب توجهات الثورة وتراجعا عن الآفاق التي طرحتها وعجزت لحد الآن عن إنجازها لا على الديمقراطية او الشرعية أو الدستور كما يتوهم البعض. فكل هذه المسوخ هي نفسها انقلابا عن الثورة حاولت الثورة المضادة ترسيخه منذ عشر سنوات. إنّ إرساء نظام يقوم على مركزة السلطات ودعم دولة الردع والتسلط وتحكم فرد في مصير شعب مهما كانت خصاله، هو قطع لمسار تطور ما عبرنا عنه بتلك الإشارات والشذرات والآفاق التي فتحتها نضالات الشعب في مختلف الميادين والمستويات: لقد خلقت موجات الحراك الثوري المتتالية تقليدا كان يمكن الاعتماد عليه وتطويره ونشره في كامل أرجاء البلاد، عنيت بذلك أشكال التنظم الذاتي والديمقراطية المباشرة والانتخابات المعممة على كل المستويات من المحليات والجهات والقطاعات حتى تنزاح كتلة البيروقراطيين ومحترفي السياسية والنهابين وكل أنواع المنصبين ذاتيا على كاهل الشعب وحتى يمكنه من اختيار من ينوبونه في المجالات والمستويات التي تتجاوز حضوره العيني مع احتفاظه بحق سحب التفويض متى شاء.

لقد أوهم قيس سعيد يوما ما الشباب بقربه من هذا الطرح. وقدّم نفسه على أنه حامل مشروع قاعدي يتيح تشريك الشباب في التسيير والتصرف ولكنه سريعا ما تخلى عن طرحه ذاك ما ان غلت في رأسه فكرة الترشح للرئاسة. واذن التكيف لضرورات المؤسسة ومقتضيات المتحكمين في اللعبة. وفي أول تمرين له بدحض كل شك حول كونه لا يعدو أن يكون اليوم الأداة الأكثر فعالية، إذا نجح، في استعادة عنفوان النظام وقوته وتماسك قوات ردعه بعد سنوات عديدة من التصدع والتفكك في أجزاء كثيرة منه سواء عن طريق المسار الثوري الذي أنهك الآلة القمعية أو عن طريق خيانات واختراقات الشريك الخوانجي.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -