الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صافرة انذار

وليد ياسين

2006 / 8 / 16
الارهاب, الحرب والسلام


في عيونهم ترى الخوف والفزع، في نفوسهم تستشعر حالة من الانكسار لم يتعودوها، في كل حركة يأتون بها تلاحظ الصدمة ازاء حقائق اثبتتها 33 يوما امضوها في الملاجئ وفي بلدات نزحوا اليها هربا من الموت الآتي من الشمال.
لبنان بالنسبة لكثير منهم، خاصة اولئك الذين عايشوا وشاركوا في الحرب السابقة، عدوان 1982، كان مجرد لعبة يلهون بها متى شاء وزير امنهم او رئيس حكومتهم، او حتى اصغر فرد في جيشهم الذي توجوه بهالة من القوة، اعتقدوا معها انه الجيش الذي لا يقهر.
لكن 33 يوما من الرعب والفزع والخوف من صاروخ تسبقه صافرة انذار مدوية قلب لهم ظهر المجن، وادركوا ان لبنان 1982، هو ليس لبنان 2006.
ادركوا ان الجيش الجبار وترسانة الأسلحة الضخمة، التي فاخر بها قادتهم، ودبابة المركفاة التي اعتبروها اكثر المدرعات تطورا في العالم، وحتى صواريخ الباتريوت التي نصبت في عدة اماكن، لن تحقق لهم الامان امام الضربات الصاروخية.
58 عاما مضت خاضوا خلالها خمسة حروب وانتصروا بمقاييسهم العسكرية، خمسة حروب لم يخرج فيها احد من منزله، لم تسقط حتى رصاصة طائشة في بلداتهم، واعتقدوا ان لجيشهم قوة الردع القادرة على تحطيم كل من يتجرأ على دولتهم.. وعندما سقطت بعض صواريخ سكاد العراقية في عدد من البلدات ابان حرب الخليج الاولى، تعاملوا مع الامر وكأنه مجرد حدث عابر لن يتكرر.
اما اليوم، بعد يوم من الحرب السادسة، فحين تسأل أي مواطن منهم عن حاله، تجده، حتى لو كان يقيم في واحدة من البلدات التي ظلت بعيدة عن مرمى الصواريخ، يشيح بنظره إلى السماء، يفكر مليا قبل ان يأتيك بالجواب، ثم يطلق تنهيدة تعكس ما في نفسه من خوف وخيبة أمل، واذا اجابك يقول: "يا للجحيم" ثم يطلق شتيمة او زفرة وينصرف. واذا ما سمع ضجيجا تراه يحث خطاه بحثا عن اول ملجأ يحميه وهو يطلق شتيمة "نصرالله هذا.. هيك وهيك للببور اللي جابو". والببور هو الباخرة، ويقصد الباخرة التي حملت نصرالله، لكن نصرالله لم يأت اليهم بباخرة.. ولا على ظهر حمار كما يتوقع اليهود مجيئ المسيح المنتظر، نصرالله جاء على جناح خيبر ورعد، فزرع الخوف والرعب والدمار والموت الذي لم يتعودوه او يتوقعوه.
حالة من التوجس والخوف تسود في كل مكان. "لا نصدق بان الحرب انتهت" تقول سيدة اسرائيلية في رسالة كتبتها على شبكة الانترنت. "اتفاق وقف اطلاق النار لم يحقق لاسرائيل أي هدف" يقول اخر، ثم يطالب بمزيد من القوة العسكرية لاعادة الجنديين الاسيرين، بروح خطاب رئيس المعارضة بنيامين نتنياهو، زعيم حزب الليكود المشهور بعجرفته وتهوره واعتقاده بان قوة إسرائيل ما زالت تلك التي لا يمكن لاي جيش في العالم ان يقهرها.
وحين تسمعه يردد تلك العبارة من على منصة الكنيست، امام عدسات التلفزة، وعلى مرآى من عيون قرابة مليون اسرائيلي عايشوا الخوف والفزع لاكثر من شهر، تجد نفسك تكرر مقولة الاسرائيليين وتقول: يا للجحيم، أي غرور هذا، أي عنجهية يتحلى بها هذا؟ وهل كان سيقول هذه الكلمات لو كانت عيونه تنظر مباشرة إلى عيون 118 اما فقدن اولادهن في جنوب لبنان خلال شهر فقط؟ هل كان سيقول هذه الكلمات لو وقف امام امهات وزوجات واطفال المدنيين الذين قتلتهم الصواريخ التي لم تمنع كل الترسانة العسكرية وصولها وانزالها الضربات بمدن كانت بالامس فقط تعتبر آمنة وبعيدة عن الخوف؟
وتعود إلى مجموعة من المدنيين تحلقوا حول طاولة في مقهى صغير في مدينة تغير وجهها لكثرة ما تعرضت له من ضربات صاروخية، وتسأل: كيف الحال، فينظر اليك بعضهم بعيون واهية ولا يجيب، بينما يتطوع متهور شاب متوعدا بان يفعل كذا وكذا .. ويطلق شتيمة سوقية..
وتمر لحظات صمت يمزقها صوت نادلة شابة تسأل: ما الذي يمكنني عرضه عليك يا سيدي؟
اطلب فنجان قهوة واجلس على طاولة في زاوية المقهى اراقب من بعيد تلك المجموعة التي واصلت التحلق حول طاولة وضعت عند مدخل المقهى.
تحضر النادلة فنجان القهوة وأسألها: ارى ان الناس بدأوا العودة إلى حياتهم الطبيعية.
ترسم على وجنتيها ابتسامة صفراء وتقول: انت واولئك اول الزبائن.. 33 يوما لم يدخل هذا المقهى احد.. انظر اليهم، انهم يخافون حتى الجلوس في الداخل، طلبوا ان نضع لهم طاولة قرب المدخل.. انهم لا يصدقون ان اطلاق النار قد توقف، لا يصدقون حزب الله.. الصواريخ زرعت في صدورهم حالة من الخوف غير المسبوق..
استعيد ما سمعته في خطاب رئيس الحكومة الاسرائيلية من على منصة الكنيست وهو يشيد بصمود الجبهة الداخلية، وابتسم.. "فليأت إلى هنا ليشاهد هذا الصمود" قلت لنفسي وانا احتسي فنجان القهوة على عجل، ثم ادفع ثمنه واغادر بحثا عن مشاهد اخرى في هذه المدينة التي تسمى عروس الكرمل.
حيفا.. المدينة التي لا تنام، هكذا كانوا يسمونها قبل شهر وبضعة ايام فقط، لكنها على مدار الشهر وبضعة الايام لم تعرف النوم، ليس لان الناس كانوا يخرجون إلى المقاهي والمطاعم وحدائق النزهة، وانما بفعل الخوف من صاروخ قد يأتي كالعاصفة ويفاجئهم في مراقدهم.
حيفا لم تنم لاكثر من شهر، وان كان من عرف طعم النوم من اهلها فهم اولئك الذين نزحوا عنها لاول مرة منذ عرفت نزوح اهلها الاصلانيين، في عام 1948.
عند مدخل دار البلدية كان رئيسها يتحدث إلى وسائل الاعلام الذين سألوه ان كان يوصى النازحين بالعودة بعد ان دخل وقف اطلاق النار حيز التنفيذ، وعلى غير ما تتوقع تسمعه يقول: توجهت إلى اهالي المدينة عبر التلفزيون بأن يواصلوا الحذر لأسبوع آخر.
اذن، هي حالة من الخوف المتواصل.. ومعطيات استطلاع للرأي يرسخ هذا الاعتقاد: 66% من الإسرائيليين يعتقدون بأن قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بوقف إطلاق النار ليس في صالح إسرائيل، لانه لا يضمن لهم عدم عودة الصواريخ.
وفيما كان يعتقد 33% من الاسرائيليين قبل 11 يوما من انتهاء الحرب ان الهجوم الاسرائيلي على لبنان اتاح لاسرائيل تحقيق اهدافها، تجد النسبة انخفضت إلى3% بعد يوم من وقف اطلاق النار.
الاسرائيليون لا يصدقون قادتهم، لكن مشكلتهم لا تكمن في عدم تصديق ما يقوله قادتهم، بل في سرعة النسيان.
قبل 24 عاما، جرهم شارون وبيغين إلى حرب لبنان تحت شعار وقف صواريخ الفلسطينيين، قالوا لهم ان العملية العسكرية ستصل إلى عمق 40 كيلومترا وستهدأ الأرض 40 سنة.. لكنهم غاصوا في ما يسمونه "الوحل اللبناني". 18 عاما وهم يركضون وراء الصواريخ، احتلوا بيروت، واجبروا العالم على اخراج قيادة الفلسطينيين وغالبية جيشهم من لبنان، لكن غياب نيران الفلسطينيين لم يمهد الطريق لخروجهم من الوحل. فبدل النيران الفلسطينية جاءت نيران المقاومة، نيران الاحزاب التي رفضت الخنوع والاستسلام للمهانة ورفضت التسليم بالتخاذل العربي ازاء احتلال عاصمة عربية، وبدل الصاروخ جاءت صواريخ، ودحرت الجيش الاسرائيلي حتى الحدود، ومن ثم تحرير الجنوب.
لكن بقعة واحدة رفضت اسرائيل الانسحاب منها، فتواصل اندلاع شرارة اللهيب، وواصلت المقاومة حربها، حتى جاءت الحرب القادمة.. حرب يقول اتفاق وقف اطلاق النار انها انهت 33 يوما من القتال، ويقول الاسرائيليون، بل حتى قادتهم العسكريين انها ليست الا خطوة على طريق الحرب القادمة..
الامين العام لحزب الله قال للاسرائيليين في احد خطاباته الاولى بعد اندلاع الحرب: يقال انكم تصدقون ما اقوله اكثر مما تصدقون قادتكم. وفي ذلك الخطاب قال للاسرائيليين وللعالم في بث مباشر: انظروا إلى البحر قبالة بيروت، ستشاهدون البارجة الحربية التي تقصف وتدمر بيروت وهي تحترق. دقائق قليلة مرت وشاهد العالم كله السنة الدخان تتصاعد من البحر. صاروخ، او قذيفة، لا يعرف نوعيتها الا حزب الله، اصابت البارجة واوقعت عددا من القتلى في صفوف جنودها.
ايهود اولمرت يقول ان حزب الله يختبئ في الملاجئ ويردد الاكاذيب، وجندي اسرائيلي عائد من لبنان يقول: فجأة، وبعد ان غادرنا المروحية، سمعنا دوي انفجار قوي. رفعت عيناي وشاهدت الصاروخ الموجه إلى مروحية "يسعور". في طرفه اشتعل لهيب وردي قوي. القوات التي تم انزالها قبل لحظات تجمدت في مكانها ونظرت. شاهدنا الصاروخ يصيب المروحية وتهوي على المنحدر.."
ويشهد جندي آخر شارك في معركة اخرى: "فجأة رأينا حزمة من الاعشاب ترتفع، وفوجئنا بمسلح يمطرنا بالنيران.. هذا مخيف"..
هذا الخوف، لم يصب الجنود الذين ارسلوا إلى لبنان فحسب، ولا المدنيين الذين اضطروا إلى الاختباء في الملاجئ لاكثر من شهر، فقط، بل حتى اولئك الجنود الذين امروا بالدخول إلى لبنان حتى بعد صدور امر وقف اطلاق النار.
في اليوم التالي لوقف العمليات، التي لم تتوقف داخل الجنوب المحتل، نشرت الصحف الاسرائيلية ان ضابطا وخمسة جنود قدموا إلى المحاكمة العسكرية لانهم رفضوا أوامر عسكرية بالدخول إلى الجنوب اللبناني. هذا الرفض لم يأت لأسباب ضميرية كما يقول اولئك الذين رفضوا المشاركة في هذه الحرب منذ بدايتها، بل بدافع الخوف على حياتهم من نيران القناصة والصواريخ المضادة للدروع. 21 يوما سيمضي هؤلاء في السجن العسكري.. لكن المؤكد انهم سيشعرون بارتياح، فهناك على الاقل لن تكون حياتهم معرضة للصواريخ..
واعود إلى الشارع الحيفاوي، التقي بمواطن عربي يرجع إلى منزله بعد ان لجأ إلى اقاربه في احدى البلدات الشمالية هربا من الصواريخ التي ضربت مدينته. سألته عن الحال فقال ضاحكا: كله خـ... واطلق شتيمة تعلمها من جيرانه اليهود الذين عادوا لتوهم من تل ابيب. لماذا، الححت عليه السؤال، فقال: حسن نصرالله طلب منا مغادرة المدينة كي لا تصيبنا الصواريخ، لكن الصواريخ لحقت بنا إلى البلدة التي لجأنا اليها.. "كله خـ.." كرر العبارة وواصل حمل اغراضه ومضى نحو منزله خلف كوم من الركام خلفه احد الصواريخ.
في البحر تمخر سفينة، قد تكون الاولى التي تغادر الميناء بعد الحرب، او الاولى التي تصل اليه، او بارجة جاءت من شواطئ لبنان او تستعد للعودة.. البحر بعيد والصورة باهتة.. ولا اسمع من موقعي الا صفارة انذار.. لا تنبئ بصاروخ قادم، لكنها تكفي لزرع حالة جديدة من الخوف...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام