الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رواية: هدى والتينة (13)

حسن ميّ النوراني
الإمام المؤسِّس لِدعوة المَجْد (المَجْدِيَّة)

2021 / 8 / 24
الادب والفن


(حِكايةُ رَجلٍ يشْتهي الحُبَّ ولا يَنالُه!)
عاد من حجّه الأول، إلى هواء "الحبيبة"، في الشمال البعيد، منهك الجسد، مشوّش الفكر مضطرب النفس.. وصل إلى بيته، بعد رحلة استغرقت ثلاث ساعات، في الواقع، فالرحلة، في ظروف اعتيادية، لا تستغرق أكثر من ثلاثين دقيقة، لكن السيارة التي أقلّته، اضطرت للتوقف عدة مرات، ولمدد طويلة، خضعت فيها للتفتيش، والتحقق من هوية ركابها، أمام حواجز قوات الاحتلال الإسرائيلي، المنصوبة في عدة نقاط، على طريق صلاح الدين، التي تمتد من أقصى شمال قطاع عزة، إلى أقصى جنوبها. طوال الرحلة، كان نائما، وكان الجنود الإسرائيليون، المدججون بالسلاح، المستنفَرون، عند الحواجز، يتحققون من هوية السائق، ويكتفون بتسليط ضوء مصابيحهم اليدوية، على وجهه الشاحب والشائب.. قبل أن يغادر مقعده في السيارة، لدى وصوله إلى بيته، قال له السائق: "كان نومك مقلقلا، وانتفض جسمك أكثر من مرة، وامتقع وجهك مرات، واكفهرّ مرّات، وفغرتَ فاهك، كأنت كنت تحاول التقيؤ، وضاقت أنفاسك، وبدوتَ كأنك تختنق، وشهقت بقوة وزفرت بقوة، وكنت تبكي حينا، وتضحك حينا، كنت مرتعبا أحيانا، وهادئا احيانا، وحين نتوقف قسرا وقهرا، عند الحواجز الإسرائيلية، كانت يداك، وأنت غارق في نومك، وفي نوبات أحلامك، أو كوابيسك، تندفعان بحركة قوية خاطفة، نحو جانبيك، كأنك تسحب مسدسين من جرابهما، وبسرعة البرق، تفتح كفّيك، وتشدهما، كأنهما متشنجتان، ضامّا إلى راحتيك، اصبعيك الوسطيين والخنصرين والبنصرين، وإبهاماك مرفوعتان، وسبَّابتاك مشدودتان ثابتتان موجّهتان نحو رأس الجندي الإسرائيلي، فيغتاظ ويجفل ويرتعد، فتبتسم أنت، وأبتسم أنا، فلا أداري بسمتي، وأنْفُث غِلّ صدري، ثم أتنفَّس الصُّعَدَاء!
رمى جسده المرهق على فراشه الأرضي، تذكّر نصيحة أسدتها له صديقته، حين طلبت إليه أن يتروّى، قبل الانتقال إلى بلد "الحبيبة"، المستهدَف من قوات الاحتلال الإسرائيلي، باجتياحات ليلية مرعبة، تتكر مرتين على الأقل، من كل أسبوع، وتتوزع بين الأحياء، وتجري، في أوقات متأخرة من الليل، ويسقط فيها الضحايا، أمواتا وجرحى؛ أضافت ناصحته أو محذِّرته:
- "أنت تقيم الآن في منطقة، هي الأهدأ والأشدّ أمنا، في قطاع غزة كله!".
- "دعيني اسقط شهيدا للحب!".
قال في سرِّه: "بل شهيد الأوهام!".
أضافت، بحسرة: " تريد أن تكون شهيد حب في زمن لا يعرف الحبّ ولا يقيم له وزنا؟!,
- "أنا نبيُّ الحب ولا أبالي!!"..
- "يا لِبؤسك وضياعك؟!".
تمتم، وقد بدأ النومُ يجتاحه: "الحقّ أنا شهيد تيَهاني القديم عن أمّي؛ فمنذئذ، لا أزال أبحث عنها، في صحراء نفسي، الراكدة الباردة المتجمدة القاحلة الموحشة، الغائرة في ظلامي!"..
بعد دقائق قليله، هبّ من النوم فزِعا يترنّح، قرعٌ على الباب بقبضة غليظة الضربات، وجرس يدوّي حادا، وبإصرار متصل، ومكبِّر صوت، يهدد ويتوعّد ويكرر: "أخرج يا دكتور، لا تحاول الهرب، المكان محاصر بإحكام ، اهبط الآن، وإلا سندمر عليك بيتك!"؛ فتح الباب: رجل صارم الملامح مكفهر الوجه مرعوب مرتبك منهك مضطرب: "الجيش يطلب منك، الخروج فورا، إلى الشارع!".
- "أي جيش؟!".
- "جيش الاحتلال، يحاصر بنايتنا، ويستعد لاقتحامها؛ خرج الجميع من بيوتهم، سألني قائدهم: مَن تبقّى؟ قلت: الدكتور؛ الأمر متروك لك!".
- "سأغلق الباب، وأتبعك!".
الرجل جار له، لم يكن يعرفه من قبل. مدخل البناية الضخمة الواسع، غاصٌّ بالنساء المرتجفات، وأطفال يصرخون مذعورين بعضهم على صدور أمهاتهم، أو على أكتافهن، وبعضهم ملتصقون بأبدان أمهاتهم، وبعضهم يختبئون وراءهن، وبعضهم نائمون فوق الأرض الجرداء الخشنة، وآخرون يلهون أو يتشاجرون مع أقرانهن، أو يصخبون أو متبلّدون من هول ما يحدث.. انشق ازدحام عّرق النسوة القلِق الضجِر، عن ممر ضيق عبر منه الدكتور، وأكتافه تحك ظهور بعضهن، وساعداه تلمس مضطرة، أثداءا، بعضها مكتنزة، نافرة، يشتهيها، وبعضها ضامرة ذابلة، ترثيها نفسه بصمت، وعيناه تلتقي بعيون بعضها ناعسة، وبعضها فاغرة، وبعضها ذابلة، وبعضها جامدة لا مبالية، وبعضها تبثّ نداء الشوق العتيق؛ بعضه ماجن فاجر، وفي بعضه عدل وفي غيره جَوْر، وفي بعضه نور وسلام وحب وبعضه مرّ كريه قاتم، وبعضه مشتهى وبعضه ممجوج، وبعضه من وراء حياء، منه فجّ ومنه عاهر أو نزِق متعجِّل، وبعضه مارق أو عابر أو خارق أو واهن أو كاسح جارف، وبعضه مضطَهد وبعضه مضطِهد، ومنه مرتوٍ هانئ ومنه ظمآن أو متهتّك أو بائس يائس منهك عليل، ومنه مصطنَع، ومنه صادق بليغ وقور حكيم متّزن جميل ناعم أنيق ساحر، مُشتهى لظمئه، الذي لم يخْفِه خوف صاعق!
خرج من باب البناية المطلّ على الشارع، أضواء أعمت عينيه، وقف برهة، لا يعرف إلى أين يتجه، صاح الميكروفون: "خرج الدكتور؟!"، ردت حناجر رجال كثيرين: مخنوقين، بصوت واحد: "نعم، خرج!"، انجذب غير واع بما يرى ويفعل، نحو مصدر الضوء، هتف الرجال المشدودين إلى حائط البناية، بصوت مشفِق يتوسل: "عُدْ يا دكتور، عُدْ يا دكتور!"، عاد أدراجه، بدأت عيناه ترى ما يجري: رجال، مرتعبون، يقعدون القُرْفُصاء، يسندون ظهورهم إلى الحائط، يتهامسون، وتحدّق عيونهم المذعورة بدبابات ضخمة، تجثم على ظهورها، رشاشات ثقيلة مصوبَة فوهاتها الآثمة القاتلة إليهم، وحاملات جند محصنة، وليل صامت، ونسائم رقيقة، وصياح دِيَكة، ونباح كلاب ونهيق حمير وخوار ثيران، وحفيف أغصان ترقص، وسماء تراقب ما تحتها، وقمر تامّ ساطع، متربّع فوق عرش السكينة، يحثّ الخطى، تُزفِّه سحب رشيقة مبتهجة بيضاء تتسابق بينها، إلى بواكير صبح جديد..
وقف أول الطابور الجالس، من جهة باب البناية، زعق الميكروفون: "دكتور، تعال!"، تقدم نحو مصدر الصوت، مال الجندي المنادي برأسه، نحو رجل ملثم جواره، همس الأخير في أذنه بكلمات قليلة، خاطب الجنديُ الدكتورَ، بلقبهَ المهني وباسمه الأول واسم عائلته وكنيته، وسأله: " هل بقيَ أحد في البناية؟، يجب أن يخرج الجميع!".
- "لا أدري، أنا لا أعرف أحدا من سكانها!"؛
- "لماذا؟!؛
- "أنا هنا منذ أيام قليلة!"؛
- "أين كنت؟!"؛
- "في مكان بعيد!"؛
- "ماذا جاء بك؟!"؛
- "الحبّ!"؛
- " قلتَ الحب؟!"؛
- "أجل؛ الحب! هل تعرفه دولتُك، وهل تعرفه أنت؟!"؛
استخزى الجنديُ وذَلّ، والتفت إلى الملثمّ الخائن لشعبه، الجالس جنبه، فبصق عليه، وأحنى ظهره، وطأطأ رأسه، وانحسر على مقعده، وقال بنفْس مشروخة وبنبرةِ صوتِ آثمٍ مأزوم مهزوم: "أنت رجل نبيل ومحترم، تفضلْ بالعودة إلى رفاقك!"..
- "أودّ، قبل رجوعي إلى رفاقي، أن أقول إن "نبيلة"، كانت أولى كلماتي، نطقت بها، يوم ضياعي، في مدينتي، يافا، يوم هجرتنا القسرية منها، بعد احتجاج طفولي بريء سام، امتد، منذ ولادتي، ثلاث سنوات، شهد وطني فيها، صراعا بيننا، نحن أصحاب الحق، وأنتم الغزاة المهاجرون، من بلادكم، لاغتصاب وطني!"؛ قال برفعة عزيزة مقدامة؛ أضاف: "في الواقع، أنا انطلقت صحبة طفلة من شعبي، كانت عائلتانا، قد اتفقتا معا، على زواجنا الأبدي، منذ ولادتينا، وكنّا قد فررنا، متعانقين، معا، من أهلنا، وهم يتأهبون للفرار بنا، والهجرة قسرا، طلبا للنجاة، من موت وحشيّ منكم، محدّق بنا، بوطننا وشعبنا، آملين عودة قريبة، وعدتنا بها، حينئذ، جيوش سبع دول عربية، خذلتنا، ولا تزال تخذلنا، وقوى الشر الحاقد الأعمى الجاهل كلها معها، ولا زلتم، موتا يجثم فوق صدورنا، يحاصرنا وينهش لحمنا، ويغتصب أرض نبيّ السلام، ويقتلنا!"..
- "أفهمك؛ لكني أجير مغلوب على أمره، نُزِع من إنسانيته، وفرّ منه ضميره، أعمل بثمن بخس، كإنسان آليّ، مسلوب الإرادة، مقهورا، تحت أقدام طغاة عتاة قساة فاسدين أشرارا طمّاعين ظالمين!"..
عاد إلى جهة الأسرى المقيدين بالرعب، مرفوعَ القامة، قويَ النفس منشرحَ الصدر مطمئنا محبا للحياة، مبتهجا بحبّه.. وكانت النسوة، بأمر الغزاة البغاة الوُقْح القَباحَى، قد خرجن إلى حيث يوجد رجالهم، على رصيف الشارع، من جهة بناية مساكنهم، يحملن أطفالهن أو يجرجروهم، رغما عنهم! وقف بينهن، يبادلهن النظرات، يميل إليهن، ويملْن نحوه، يداعب أطفالَهن، محمولين فوق صدورهن وأكتافهن أو متجمِّدين لِصْقهن، بأنامل تندسُ بين الأم وطفلها!!
رأى "الحبيبة" وطفلها، في كل منهن، وفي كل أطفالهن: "هي، أتت بي إلى هنا!",, لكن "الحبيبة" غائبة، منذ غاب عن أمه، يوما كاملا، قضاه وحيدا، مع أغراب، بعدما عادت الطفلة صاحبته، إلى أهلها، بعد غياب قصير عنهم! عاد جسده إلى أمه، لكن روحه، ظلّت فارّة! خذلته أنثاه الصغيرة، بعدما أدبر ، من أجلها، عن أمه! لا زال يبحث عن "نبيلة الحبيبة الأولى، التي فكّت عقدة لسانه، حين نطق أول كلمة له، كانت أسمها، بعد أن اعتقد أهله، أنه أبكم، وسيبقى عمرَه كله، أبكما!"..
- "قضيتُ، يا صديقتي، سنواتي الثلاث الأولى، صامتا، أفكر بعمق، وأبحث عن كلمة أبدأ بها كلامي، وتحدد اتجاه بوصلتي!"..
- "دلّك اسمُ صاحبتك الطفلة، فوجدتَ ضالّتك!"..
- "نبيلة، صفة تجمع أركان دعوتي، وترسم، بدقة، غايتها: إنسانية نبيلة!"..
- "يرحم الله أمّي، أمّك؛ هي مَن قصّت عليك حكايتك، قبل أن تبدأ ذاكرتك، في حفظ حكايات حياتك!!"..
استدارت مدرعة، فجعلت مؤخرتها، أمام باب البناية، بلا مسافة فاصلة، وهبط منها، على عجل، جنود محصنون مدجَّجون بالسلاح، وجلون، وكلاب مسعورة، اندفع الغزاة إلى السلالم، واحتلوا البناية من الداخل، وتمركززا، ببنادقهم الرشاشة الثقيلة، فوق السطح، الذي يرتفع عن جميع سطوح البنايات المترامية أمامه، حول شوارع وأزقة، فباتت البلدة كلها، مرمى للنيران المندفعة من الفوهات القاتلة الكثيفة الصمّاء العمياء.. من فوق السطح، ومن بٌعد أمتار دون عدد أصابع كفٍّ واحدة، عن صامتين، يتوقعون موتا، قد لا يذر منهم أحدا، انفجرت، حُمَم الدمار والخراب، من فوهات مدافع الدبابات والرشاشات، تقصف الهواء، بلا هدف محدد، بنيرانها المظلمة الحقودة الثقيلة: "لو ساد بين الناس قانون الحب ما كان هذا الليل مُرعبا؛ أمي ماتت مختنقة بهواء لا حبّ فيه!"؛ قال، فيما الحقد الظالم يقذف وحوشا ضارية وطيورا كاسرة، تنفطر من أهوالها، قلوب أطفال ونساء ورجال، مسالمين! الحقد العدواني الأسود، ينشب أنيابه في الصدور، وينهش السلام وحق الحياة الوادعة الهانئة الكريمة!
"لو ساد الحب أرض بلادي، يا هدى، لقام فيها للنور وطن للإنسان، وحرية وعدل وكرامة وبهجة!!"..
ظلت الدبابات الإسرائيلية تطلق نيرانها الكثيفة لثلاث ساعات.. وكانت السماء العالية، لوحة صيفية طريّة، يحمل هواؤها سحابات بيضاء يضيئها شعاع القمر المكتمل العالي.. أطلق عينيه في الأفق الحر المترامي بلا نهاية وهو يحدّث نفسه: "للحياة سبيل غير سبيل الموت!!".. أضاف: "هذا سمر في حريتي المطلقة، لم أحظ بمثله من قبل!!".. جلس مطمئنا وسكينة الروح تلفه بالجمال.. كان مبتهجا.. في الأوقات الصعبة، يلوذ "الإمام الأبيض" بعقيدته: "بهجة الحب جوهرة الحكمة وسيدة الدواء".. هو لا يكره، ولا حتى أولئك الذين يهددون حياته بالموت العبثي: "يا هدى؛ إنما يقع الإنسان، إذا ارتكب فعلا شرّيرا، ضحيةَ جهله؛ الواقع في جهله ليس عدوي.. لو وقع أخوكِ في هاوية الغرق، هل تبيح لك الأخلاق النبيلة، أن تخذليه فتتركيه فريسة ضعفه؟!"، قال، وأردف: "يا هدى؛ جيش الكراهية، ضعيف الحيلة، كليل البصيرة، يُغرقه جهلُه في ظلامه وظلمه وبؤسه!!"..
بدأ فجر جديد، النور أخرسَ ضجيج الموت المنطلق من فوهات المدافع.. نزل الجنود وكلابهم، من فوق السطح، وأخذت آليّات الغزاة في التأهب للانسحاب من المنطقة، أدار المعتدُون ظهورهم، ابتهل إلى الله بصمتِ قلب منير: "اللهم أنر قلوبهم بالحب.. إنك إن أنرتهم، أنرت جهلهم وصاروا بالحب جيشا للحياة!!".. كثيرا ما يردد على مسامع من يتحدث إليهم: "إذا أصلح الله رجلا يستذله الجهل، وتقيد الكراهية عقله وقلبه، فإن صلاحه خير له وخير لك وخير للناس وللخلق أجمعين؛ لكن فساده شر يصيبك بالأذى أنت والخلق كله مثلما يصيبه، أو أشدّ وأنكى!!"..
****








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس


.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه




.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة


.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى




.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية