الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليسار العالمي.. مأزق خيار رد الفعل

عبدالمنعم الاعسم

2006 / 8 / 16
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


1-
كثيرا ما ترددت في التطرق الى هذا الموضوع: اليسار العالمي والعربي ودكتاتوريات المنطقة.. او: اليسار العالمي والارهاب، او: اليسار والعداء لامريكا، وكلها تنحشر في الفكرة التالية: ان مواقف اليسار العالمي(الجديد) من جميع القضايا الكونية الموصولة بالتنمية والفقر والمخدرات والارهاب وانعدام حقوق الانسان والعدوان والديمقراطية والدكتاتوريات والاحتلال والتطرف والمجاعة والحرب تنطلق من تعيين الولايات المتحدة كمسؤول عن كل ذلك قفزا من فوق مسؤولية طغاة وقتلة وارهابيين ورجال منظمات ودول يرتكبون القتل واعمال الابادة والقمع بحق الشعوب وانصار الحرية وحقوق الانسان على مدار الساعة.

وفي جوهر هذا الموقف ثمة حقيقة اخرى هو انتقال اليسار من قوة مشاركة في صناعة الاحداث والتحولات منذ مطلع القرن الماضي حتى اواخره الى قوة معارضة او متفرجة.. انتقال-بوجيز الكلام- من الفعل الى رد الفعل.

اما سبب ترددي في الكتابة عن هذا الموضوع، على الرغم من وضوح الصورة في امثلة آنية لا حصر لها، فيعود الى سببين، الاول يتعلق بالسمعة الطيبة لهذا اليسار بين الشعوب المتطلعة الى الحرية طوال قرن كامل من الصراع من اجل الانعتناق والتحرر، الامرالذي يحتاج الى اداة تحليل ومعالجة حذرة عن الظروف التي اطاحت بدور ومكانة هذا اليسار وجعلته، في نهاية المطاف، متواطئا، او مهادناً لدكتاتوريات بغيضة، مثل دكتاتورية صدام حسين، ولحركات ظلامية مثل حركة بن لادن.

اما السبب الثاني، فيتعلق بنهج الغطرسة والعدوان والاستهتارالذي يستخدمه اليمين الجديد في الغرب بعد انتصاره في المعركة الايديولوجية والسياسية والاقتصادية ضد الاشتراكية، وبعد فترة الرخاء وظهور علائم النعمة على قسمات المجتمع الغربي الجديد، فضلا عن تسارع عزلة هذا اليمين الخانقة عن الشغيلة والعاطلين والطبقات الوسطى وجمهور المثقفين في الولايات المتحدة واوربا في فترة تاريخية قياسية، ويمكن اضافة الخيبة التي منيت بها شعوب اوربا الشرقية بعد خروجها من نظام الحزب الواحد الشمولي الى فضاء السخط العام ضد هذا اليمين وسياساته.

احسب اني اوضحت بعض ما يجول في خاطري بصدد قضية شائكة تحتاج المزيد من البحث والتأمل والتشريح، وهي فروض ليست واردة في هذا الحيز الضيق، لكن ثمة ما تنبغي الاشارة اليه، هنا، من مظاهر لافتة عن عمليات مصاهرة عجيبة بين قوى التطرف والجريمة والخرافة المتحدرة من دول "العالم الثالث" وامتداداتها في الغرب وبين جماعات اليسار العالمي، ما نشاهده يوميا في اعمال التظاهر والاحتجاجات المشتركة، وفي اللغة "القتالية الاستشهادية" المتشابهة، وفي تعايش اللافتات التي تحمل شعارات حكومة طالبان وشعارات المنجل والمطرقة في آن، وفي الاستهزاء من شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان ونبذ العنف والحكم الفردي ونظام الحزب الواحد والقهر ومصادرة الحريات في الدول الاستبدادية، ويستطيع الذين يعيشون في الغرب ان يلتقطوا ذلك بسهولة من الصحافة والاقنية التلفزيونية والفعاليات السياسية اليومية، فيما يستطيع البعيدون ان يعرفوه من الاستماع الى المقابلات والندوات والمناقشات، بل الى الوجهة السياسية، لهيئة الاذاعة البريطانية (البي بي سي) التي يسيطر عليها اليسار البريطاني(رفاق جورج غالاوي) وافترض ان الملايين من المستمعين تابعوا عن كثب انحياز هذا المرفق الاعلامي الخطيرالى صدام حسين، ومنذ شهر تقريبا شكا ضحايا للنشاط الارهابي في العالم من انعدام توازن ومصداقية البي بي سي في الموقف من الارهاب.

الصحفي اليساري اللبناني المستقل حازم صاغية شعر بالرعب من نظر اليسار الاوربي بعين عوراء الى ما يحدث في لبنان، فكتب يقول: " يدعمنا اليسار الأوروبي ضد إسرائيل وجرائمها. شكراً، هذا ممتاز واللبنانيون بحاجة الى كل دعم في مواجهة الوحش التقنيّ المجاور الذي يحتل الفضاء ويحرق الأرض. لكن اليسار، ما دام تقدمياً بتعريفه، يُستحسن به أن يعرف خصوصية وضع بعينه فلا يكتفي بالعموميات التي تصدر عن كراهيته للسياسة الأميركية".



2-



يتمتع اليسار في اوربا، والى حد ما في امريكا اللاتينية بامكانيات كبيرة في التاثير على الرأي العام ومنابره ومؤسساته البرلمانية والنقابية والخيرية والاجتماعية والثقافية، ويقود، بالتحالف مع المتدينين، الكثير من الانشطة المناهضة للحرب والسياسات الامريكية والعولمة وسباق التسلح والاخطار التي تهدد البيئة، وينخرط في هذا النشاط، وضمن حدوده، منذ اكثر من عقد من السنين، مثقفون ومفكرون وفنانون عالميون كبار، وقد ارتفع وزنه بوصول بعض احزابه الى الحكم في ايطاليا واسبانيا وجزئيا المانيا والبرازيل، وخاض معارك واسعة دفاعا عن مصالح الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهاجرين وقضايا العاطلين عن العمل والتسلح.

ومن جديد بدأت تتشكل ملامح يسار جديد في اوربا الشرقية، افرزته سلسلة الازمات الاقتصادية الناجمة عن التحول من صرامة السوق الاشتراكي المركزي الى اقتصاد السوق المفتوح وانتشار الفساد والجريمة والبطالة ما لاسابق له، وساعد على النمو السريع لحركة اليسار في هذه الدول التغيير البنيوي الذي حدث في صفوف الكثير من الاحزاب الشيوعية الحاكمة سابقا وتخليها عن اسمائها وبرامجها وطرق تفكيرها واشكال عملها التنظيمي، مما وضع الكثير منها في قطيعة مع الماضي الايديولوجي والمنهج الشمولي ونظرته الى المجتمع وموجبات التغيير.

المشكلة التي يواجهها هذا اليسار تتمثل في عجزه عن تحشيد الجمهور في المعارك الانتخابية، فان ملايين العاطلين والساخطين على الدولة والمهاجرين والفوضويين، وهم قاعدة نشاطه، لا يشاركون بعددهم في الانتخابات كما يشاركون في العادة بالتظاهرات ومعارك الشوارع، وتذهب الدراسات الحديثة الى ان واحدة من ابرز علل اليسار العالمي الجديد هي ضعف فاعليته في صناعة الاحداث التاريخية واقتصار دوره هنا على رد الفعل وترويج الشكوى والسخط والتسكع والفوضى.

من جانب آخر، فقد اربكت هجمات 11 ايلول الارهابية اليسار العالمي، وسقطت العديد من ردود فعله في نزعة التشفي بالولايات المتحدة، وربما بالرضا عن الجريمة، فيما لاذت الكثير من الاطروحات اليسارية، مرة بالتشكيك في تورط منظمة القاعدة وحكومة طالبان بالعملية، ومرة اخرى بفرضية ان المخابرات الامريكية هي التي خططت ونفذت الهجوم لاستخدامها ذريعة لشن حرب على افغانستان، وظلت تروج لهذه الاطروحات حتى انقذها نعوم تشومسكي بنظرية ان تلك الهجمات (الاسلامية) جاءت كرد فعل على السياسات الامريكية المتحيزة لاسرائيل، وعلى هذا الوترعزف جيش من الكتاب العرب، من فهمي هويدي حتى عبدالله النفيسي، فضلا عن سياسيين واكاديميين وانصاف دعاة، وممثلي دول تحاول مغازلة بن لادن، أو تتكفى شرّه.

اما ظلال هذه العلة على احوال العالم الآخر، عالمنا الثالث، فيمكن قراءته ببساطة متناهية في قاعدةٍ تمسكَ بها اليسار العالمي، هي: اينما تقف الولايات المتحدة ينبغي الوقوف في المعارضة لها، ما جعل هذا اليسار يجفل إزاء ملفات حقوق الانسان وكفاح الشعوب والقوميات والاديان ضد الدكتاتوريات والقمع والشوفينية، وان يعارض اية اجراءات من شأنها التضييق على انشطة الجماعات الاسلامية الارهابية في الغرب، وان يتردد في التضامن مع ضحايا التمييز الاجتماعي والقومي في بلدانهم، وان ينآى بنفسه عن الفعاليات المناهضة للارهاب والجريمة المنظمة، وان يسخر من تطلع شعوب كثيرة نحو الديمقراطية والحريات، وان يصم آذانه عن سماع انين ضحايا انظمة مغرقة حتى النخاع بالاستبداد وحكم الفرد، بل ويناصر جلادين ومنبوذين ومثقلة اعناقهم بمشانق مواطنيهم، كل ذلك لأن هذه المواقف تضع اصحابها في الجهة المقابلة للولايات المتحدة التي تصرح(لاعتبارات عديدة) ضد انتهاكات حقوق الانسان، وليس ثمة مثال صارخ على الاستهتار بمشاعر ضحايا القمع والدكتاتورية من قيام يساريين عالميين بالتوقيع على صورة السفاح صدام حسين بوصفه بطلا للحرية، وعندما نقلب الصورة سنجد سلسلة طويلة من الاسماء.. من جورج غالوي حتى غينادي زيوغانوف.



3-



منذ عقد من السنين، لم يعد ثمة تيار سياسي، له ملامح او ظلال على ارض الواقع اسمه"اليسار العربي"غير ان هذه الحقيقة لم تلغي حقيقة موازية تتمثل في ان ثمة يسارات عربية، او على وجه الدقة، هناك يسار(يترنح في الواقع) في كل بلد من البلدان العربية، لا يتشابه في برنامجه او قسماته او اشكال صراعه مع اليسار الآخر الذي يشاركه في الجغرافيا والتحديات الاقليمية والمشاكل الداخلية الاقتصادية والسياسية المتقاربة.

وإذْ تشكل الاحزاب الشيوعية والماركسية العمود الفقري لليسار في كلٍ من هذه البلدان، فان المنطق يقول ان هذا ينبغي ان يكون مشجعا لتشكيل حركة يسار فاعلة على المستوى القومي، غير ان الواقع لا يبرر المنطق، كما يبدو، إذ تعيش هذه الاحزاب افتراقاً بيّنا فيما بينها بعد ان كفت منذ اكثر من عقدين عن البحث المشترك في معضلات الراهن العربي والعالمي ودراسة اتجاهات الازمة التاريخية التي يعيشها هذا الراهن، والحقيقة ان الاحزاب الشيوعية العربية تخلت عن المسؤولية الجماعية للاجابة عن الاسئلة التي بدأت تواجه العالم العربي منذ انهيار حركة التحرر الوطني العربية في العقد الثامن من القرن الماضي ونشوء ما يسمى الفراغ السياسي، او ازمة القيادة السياسية في العالم العربي، وليس ثمة ابلغ دلالة من ملاحظة المفكر اللبناني كريم مروة، إذْ قال "وما يزال أركان هذا اليسار عاجزين عن إيجاد مخرج من هذه الأزمة لأنهم مازالوا عاجزين عن فهم التحولات التي تجري في عالمنا المعاصر".

ويبدو لبعض دارسي مآل اليسار العربي بان تحنيط شعار "النضال ضد الامبريالية والرأسمال" واعادة تلقينه وفق مقولات الخمسينات، وغياب التعبئة لانتاج معرفة جديدة للواقع وضع اليسار العربي والعديد من الاحزاب الشيوعية في حالة تماهي مع حركات دينية وقومية صاعدة تخوض منذ عقد من السنين(وتحديدا منذ الافتراق بين السي اي اي والحركات المجاهدة في افغانستان) صراعا شرسا ضد الولايات المتحدة وحلفائها وسياستها في المنطقة على برنامج من مفرداته الاولى اعادة الخلافة الاسلامية او مواجهة الغزو الغربي الثقافي او الانتقام من الاذلال الذي يعامل به الغرب اتباع الديانة الاسلامية، وطبعا من اجل تحرير فلسطين والقاء اليهود في البحر، وقد انخرط اليسار العربي في غالبية واجهاته وانشطته في هذا المشروع، وإن على مسافات متفاوتة.

وإذ بدأ نظام الدكتاتورية في العراق يترنح متخبطا في النتائج الكارثية لمغامرات صدام حسين في ايران والكويت فقد برز اكثر فاكثر-بالمقابل- مأزق اليسار العربي، إذ اضاع بوصلة التحليل المستقل وهرع الكثير من ممثليه واركانه بمن فيهم قادة في الاحزاب الشيوعية العربية، سوية مع رموز ودعاة التطرف والتكفير الديني الى الانخراط في حفلات تنصيب الدكتاتور بطلا قوميا واسلاميا، وبلغ ضياع اليسار العربي مداه مع اندفاع المشروع الارهابي في المنطقة الى واجهة المسرح السياسي وسقوط اليسار القومي(الناصري) المريع في قلب هذا المشروع المهووس بالتجييش، بدل صياغة موقف مستقل يوحد ما بين الدفاع عن المصالح القومية ضد الاحتلالات والاملاءات وبين ضرورات الاصلاح والديمقراطية وحقوق الانسان.

ان غيبوبة اليسار العربي ادت، كما يقول مروة عن حق الى " تشوه الوعي والذي يؤدي إلى بروز ظاهرات مرضية أخطر أشكالها السلفيات التي تزيد بأشكال ممارستها إرجاع بلداننا إلي أبشع مراحل التسلط والتكفير في تاريخنا القديم وتؤجج من المشاعر البسيطة والغرائز، الأمر يظهر بعمق فيما يمكن أن نسميه عملية تدمير منظمة في حياة الأفراد والمجتمعات، وحياة البلدان كافة".









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب: ما الغاية من زيارة مساعدة وزير الدفاع الأمريكي تزامن


.. روسيا تنفي ما تردّد عن وجود طائرات مقاتلة روسية بمطار جربة ا




.. موريتانيا: 7 مرشحين يتنافسون في الرئاسيات والمجلس الدستوري ي


.. قلق أمريكي إيطالي من هبوط طائرات عسكرية روسية في جربة التونس




.. وفاة إبراهيم رئيسي تطلق العنان لنظريات المؤامرة • فرانس 24 /