الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تخفيف القيود وعودة المتسوّلين!

طارق حربي

2021 / 8 / 27
الادب والفن


يوميات مضيق الرمال
(24)
تخفيف القيود وعودة المتسوّلين!
شعر سكّان المدينة بالإرتياح منذ نهاية شهر يونيو الماضي، بعد إعلان الجهات الصحية المختصة والحكومية في مؤتمر مشترك عن تخفيف القيود في مواجهة الجائحة، وتقليص فترة الحجز الفندقي والمنزلي إلى ثلاثة أيام، بعدما كانت أسبوعين ثم قُلّصتْ إلى عشرة أيام ابتداء من شهر يوليو. (1)
وشوهد العشرات من السكّان في اليوم التالي يتبضعون في سوق الحوت أو يتناولون الطعام والشراب من دون ارتداء الكمامات! لا يتدافع القوم بالمناكب عند الدخول إلى الأسواق والمتاجر كما في العديد من الدول بينها السعودية، وللحق فقد شاهدتُ مؤخراً صورة أرشيفية كبيرة بالأسود والأبيض مؤرخة في ستينيات القرن الماضي، عُلّقتْ في باب المتجر الكبير في مدينة تونسبيرغ، لمتسوقين نرويجيين تدافعوا بالمناكب وسقوط عدد منهم!
وداعاً للحياة المشلولة قلتُ في نفسي فقد منحني تخفيف القيود أعمق شعور بالتحرر من قطعة القماش الطارئة على الحياة، لا يمكنني تصور أن حياة الإنسان تتوقف على ارتداء الكمامة ويتعيَّنُ عليه التعايش معها إلى ما لا نهاية! كما انتابني شعور بالراحة من التنفس بلا حواجز وممارسة الحياة اليومية بلا منغصات! لا يخلو استمرار وضع الكمامة على الأنف من إقصاء الكيان الإنساني عن مقومات الحياة العادية، يخيّل إليَّ أحياناً والكمامة تغطي أنفي أني مريض يرقد في مستشفى تضع ممرضة على أنفه قناع الأوكسجين لتمدَّ في عمره ساعات قليلة! فتلوب منه الروح وتزغلل العينان ويعيد بلمح البصر شريط حياته الماضية خائفاً ومرعوباً!
تبددتْ غيوم الكآبة عن وجوه السكّان وخفّ الشعور بالضغط النفسي بعد التحرر من الكمامة بيوم واحد لا غير، واستعادتِ الابتسامةُ ألقها فشعتْ على وجوه المارَّة ولاسيما الفتيات والنساء، ولم يعد أحد يبالي بانتشار العدوى التي تضاعفتْ حوالي خمس مرات خلال الأسبوعين الماضيين، بعد انتشار متحور (دلتا) وخاصة بين الأطفال والشبّان وفي المدارس طلاباً ومعلمين! في الطقس المشمس الرائع تلاقتْ مجموعات من السكّان في الشوارع للحديث والضحك وتشمَّمتْ كلابهم بعضها البعض لكنها لم تنبح إلّا نادراً! وسُمِحَ للرواد بالجلوس في المقاهي متقاربين وعلى موائد متجاورة، وهكذا ارتسم أمل جديد في أفق المدينة في عودة الحياة اليومية إلى طبيعتها والتخطيط للسفر وتنفيذ كل ما تم تأجيله خلال أكثر من عام ونصف العام!
في المضيق المغطى بالغيوم البيضاء والرمادية انطلقتْ بعد ظهر يوم 24 يونيو العشرات من الزوارق الخاصة فاخرة الطراز إلى مسافة بضعة كيلومترات، إحياءً لـ (Sankthans) وهو عيد ديني سنوي بدأ منذ العام 1770 ويُعدُّ امتداداً للعادات المسيحية القديمة المرتبطة بعيد ميلاد يوحنا المعمدان، وما ارتبط بها من السحر والشعوذة وإشعال النيران. قد يَجمعُ المحتفلين زورقٌ مملوكٌ لشخص ما يدعو إلى جولة بحرية قصيرة إضافة إلى عائلته أصدقاءَهُ أو جارَهْ، لكن عادة ما يحتفل السكّان في الحدائق العامة أو في الأكواخ المعزولة في الغابات أو على الشواطىء. يضرمون النار في مواقد دائرية الشكل وكبيرة تسمى (بول)، شاهدتُ أحداها خامداً في جولة على الشاطىء صحبة ليزا. ومثلما يتحلق الأفارقة حول النار كذلك يتحلق النرويجيون حول الـ (بول) ويستمتعون بحفلة شواء اللحم في الهواء الطلق. ذكرني مسير العشرات من الزوارق في المضيق بمسيرها في عيد الدستور النرويجي في 17 مايو، لكن الفرق بين المسيرتين أن أعلاماً نرويجية صغيرة وكبيرة رُفعتْ في الثانية دون الأولى، وكان منها أربعة كبيرة مرفوعة على سوارٍ عالية في واجهة الحديقة المقابلة لشقتي بقيتْ ترفرف منذ شهر مايو حتى نهاية شهر يونيو، لكنها أُبدلتْ فجأة بأربعة أعلام للمثلية الجنسية التي لم تعد جريمة جنائية في النرويج بعد عام 1972. ولاحظتُ أن الشذوذ الذي تُحييه النرويج تحت عنوان باب أوسع للحريات وتتبع فيه خطى الولايات المتحدة الأمريكية ليس في ذلك حسب بل في كل شيء تقريباً، حالها حال الكثير من دول العالم وخاصة في أوربا الغربية، لم يكن مقتصراً على الأعلام فقط، فقد طُبعَ العلم بألوانه القوس قزحية على الحقائب رجالية ونسائية والمظلات المطرية وأغلفة الدفاتر والجوارب وغيرها، ورفرف في شرفات الشقق السكنية بينها شقة يملكها رجل في شارعنا!
وتضاعفتِ الحركةُ في معظم مطارات البلاد وأقلعتِ الطائراتُ من مطار المضيق (تورب) منذ أسابيع إلى مدن عديدة في غربيّ أوربا وشرقيّها، وهبطتْ فيه أخرى حملتْ مسافرين بينهم متسولون من رومانيا، فما أن أصبح هذا البلد عضواً في الاتحاد الأوربي في عام 2007 حتى تدفق المتسولون منه إلى النرويج بعد منحهم (فيزا شنغن) في أوربا الغربية، ومعظمهم من طائفة الروما التي أباد منها هتلر الكثيرين في الحرب العالمية الثانية! فقراء وأميون وطرز ثيابهم قديمة عادوا من جديد لمزاولة المهنة في المضيق والكثير من المدن النرويجية في موسم الصيف، ويأتي بهم سنوياً وكيل روماني يُسكنهم في شقة بائسة ينامون فيها ويطبخون الطعام ويأكلون ويستقطع منهم نسبة مما يحصلون عليه!
وسرعان ما عادوا إلى أماكنهم على الأرصفة وفي نواصي الشوارع وشرعوا بالعمل غير مكترثين بالجائحة، ما دام النرويجيون مسيحيين طيبين كما يقولون ويجزلون لهم العطاء! (2) الفتيات الصغيرات كنَّ حذرات من المتسولين أكثر من اللزوم خلال مرورهنَّ على الأرصفة! أغلب الظن أن حذرهنَّ كان بتوصية من الآباء والأمهات خوفاً من الغرباء؟! اختلاف سحن وجوههم عن سحن وجوه سكان المدينة بمن فيهم الأجانب والمقيمين، إضافة إلى طرز ثيابهم القديمة وتوسلهم بالمارَّة بما يثير الشفقة والريبة أيضاً، من بين الأسباب التي جعلتِ الصغارَ وخاصة الفتيات يتفادون المرور على الأرصفة التي يشغلها المتسولون كما لو كانوا مصابين بمرض الجذام!
فوجئتُ صباح اليوم بجلوس أحد المتسولين (3) تحت شقتي وهو يمدُّ يده للمارَّة في الشارع! وبالضبط أمام صالون تجميل ترتاده نساء يقدنَ سيارات فاخرة وأحياناً كبيرات في السنِّ، وتديره السيدة الهندية التي لم أشاهدها يوماً صحبة زوج أوعشيق البتَّة! أخبرتني في الصيف الماضي بأنها غارقة حتى أذنيها في العمل ومشغولة بجمع المال!
ويمثل المتسولون أوضاع المعاقين الجسمانية في وقوفهم وجلوسهم وحركاتهم وسكناتهم وتلك ثمرة خبرة أعوام طويلة ووراثة مهنة، ليّ اليدين والقدمين والجلوس على الركبتين ومدّ الساقين وانحراف الكتفين، وتذكرني نظرة الخنوع والاستسلام بشخصية زيطة في رواية زقاق المدق لنجيب محفوط، وكان يصنع العاهات للفقراء لكسب عيشهم بالتوسل والإستجداء! وأشقَّ ما يكون على الإنسان ويثقل ضميره هي الضعة والهوان والإستجداء! وأسرع من ترقُّ قلوبهم على المتسولين هم كبار السن والعجزة فيقدمون لهم المساعدة نقوداً وثياباً مستعملة ومواد عينية. تبدو متسولة خمسينية مثل امرأة مشلولة في جلوسها وتدثرها ببطانية تصدقتْ بها عليها عجائز نرويجيات، وتنقل نظرها بين صورة عائلتها التي وضعتها أمامها على الرصيف وبين وجوه المارّة مستجدية! ويرقُّ قلب سكران خارج من البار لمتسولة أربعينية تجلس أمام البار في مركز المدينة ويمنحها نقوداً، هي نفسها التي كانت في العام الماضي تعزف على آلة (أكورديون) صغيرة وقديمة وقذرة، لكن خاب أملها لأن القوم لا يصغون إلى هذا النوع من موسيقى الغجر بعدما فات أوانه! ويقعي رجل ثلاثيني له جسم ربّاع على ركبتيه مبتسماً في وجوه المارَّة، وأمامه صورة بحجم الكف ليسوع المسيح يبدو فيها كئيباً!
ولا يوجد أي مبرر لاكتئاب المسيح في بلاد الخير والعدل والجمال!
لكن الإنسان لن يكف يوماً عن تطويع السرديات التاريخية والرموز الدينية لمصالحه الخاصة .. ويعيش!
20/8/2021
Norway/ Sandefjord
www.tarikharbi.com
* الصورة لمدينة مضيق الرمال (Sandefjord) بعدستي في شهر يوليو 2021
____________________________________
(1) وفي زمن الاحصاء والمعلوماتية قامت المؤسسات النرويجية بربط المعلومات الخاصة بالتطعيم بنظام إكتروني جديد يدعى (QR) للسيطرة على الجائحة والحفاظ على أرواح الناس. فما أن يضع الشرطي هاتفه المحمول على المربع الموجود في شهادة تطعيم الشخص القادم إلى النرويج سواء من مواطنيها أم من الزائرين، حتى يظهر في الحال صدقه من كذبه، إن كان تلقى جرعتيَّ اللقاح فيُرفع عنه الحجز المنزلي أو جرعة واحدة فيحجز لمدة ثلاثة أيام!
(2) يحصل المتسولون على دخل يومي جيد واطلعتُ على تقارير نشرتها الصحافة النرويجية مرفقة بصور منازل معتبرة اشتراها المتسولون في رومانيا! ونشرتْ تقارير صحفية تؤكد أنهم يكسبون من التسول في مدينة كريستيان ساند أكثر بكثير مما يكسبونه من الحد الأدنى للأجور في رومانيا، وتم تحديد 2000 كرون يومياً كمعدل أي أكثر من 200 دولار أمريكي!
(3) وكان التسول شائعاً في النرويج في القرنين السابع عشر والثامن عشرولم يتم منعه بقانون إلّا في عام 1900 ودخل في حيز التنفيذ في عام 1907.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل