الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الصرخة.. وعناق الأرض...... قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 8 / 28
الادب والفن


النهار يوزع آلامه ومآسيه وتعاسته.. ينسل خيوط الأماني بفظاظة ورتابة.. لا خبر يفرح نفسي المتشبثة ببقايا أمل مهيض.. قتل وهدم وحرق وجوع.. وقمع وإلغاء.. أمن أجل هذا خلقنا؟.
جرجرتُ ساقيّ منهكا.. وأنا أستعيد ما نثره الشارع في أذني.. وما قرأت من أخبار على صفحات الجرائد.. يتسرب إلى رأسي صداع ضاغط رويدا رويدا.
فشلتْ محاولات زوجتي لتخفيف الآلام التي تهاجم عينيّ.. أحسست ستنبعث منهما لهيبا.. أضغطهما بأصابعي.. الصداع يتصاعد وينتشر.. وتتجه حالتي نحو الأسوأ.. خشيتُ أن يصيبَني عمى فلا أقدر التمييز بين الأشياء.
لم أستطع الاقتراب من طعام العشاء.. تمدّدت.. صرت أهز برأسي أخضّه خضّا ليخفّ بركانه..
أسرعتْ زوجتي تلف فوطة حول رأسي.. شدّتها بقوة وعقدتها في جبهتي.. ثم غطّتني وأبعدتْ عني الضجيج.. فأغمضتُ عينيّ وسرعان ما انتقلتُ إلى ملكوت آخر.. ابتعدتُ كثيرا عن أرضنا.. ورحبتْ بيَ النجوم.. صرتُ أراقب من مكاني كل شيء.. شاهدتُ بحرا عظيما يصطخب.. ضحكتُ حين تصورتُ نفسي أهبط إلى عمق قاعه.. لأتعرف على جميع مخلوقاته الملونة.. ولن يأتي قرش مفترس ليلتهمني.. لأني هنا في حماية أحد ما.. لا أدري من.. لكن الحيات والحيتان والأسماك والمخلوقات المائية.. ستصادقني وتحافظ عليّ. لا أمتلك قناعا للغطس.. وليس لديّ غلاصم.. فكيف أكون تحت الماء الأجاج أكثر من دقيقة؟.
من برجي العاجي نقلتُ نظري نحو اليابسة.. ها هي بلاد جميلة.. وها هو ضياء ينبعث منها على شكل دفقات متتالية.. ينير كل أطراف الدنيا.. لا أرى حركة ولا ضجيجا. وها هو الشارع الرئيسي يبدو هادئا.. تدخل سيارة تحمل بعض العسكر.. تسير بعصبية.. كأنها تبحث عن شيء.. ثم غزا نفوسّ العساكر سيلٌ من مشاعر الاطمئنان.. لعدم وجود أحدٍ يعيق طريقهم.. راقبتها من ملكوتي باهتمام ولهفة.. العساكر مدجّجون بالأسلحة والقنابل.. تُرى ماذا يجري هناك؟.
تهادت السيارة بخيلاء.. وظل بابها الخلفي مفتوحا.. انعطفتْ في نهاية الشارع فغطستْ في حاجز من الحجارة التي تتخللها ألسنة اللهب الداكن.. الناتج عن احتراق عجلات قديمة.
انهالت فجأة حجارة كثيفة على مقدمة وجوانب ومؤخرة السيارة.. برشقات متلاحقة.. فتوقفتْ عن الحركة.. وبدأتْ عجلاتها وأشياء أخرى قابلة للاشتعال.. تساعد النار التي احتوتها وخبّأتها بين أذرع اللهب الممتدة في الفضاء.. كأنها ترفض أن تكون بردا وسلاما.
لحظتها قفز الضابط والسائق والجنود.. ابتعدوا بين كثافة القذائف الصخرية من كل صوب.. وخلال مدة قصيرة كانت سيارات النجدة والجرافات والإطفاء قد حضرت.. وحين أبعدتْ السيارة المحترقة.. وأطفأت النار وأخلت الشارع.. بدأت قذائف الرصاص والمطاط والغاز تملأ الفضاء والساحات.. وخلال لحظات لم يبق في الشارع واحد لتأخذه الدورية وتقتص منه.
انقض العساكر على الحي القريب.. مشّطوا البيوت.. وليس لديهم أسماء محددة لتوجيه التهمة إليها.. فقرر الضابط ومساعدوه القبض على بعض الموجودين في بيوتهم.. ووقع اختيارهم على مصطفى حلاوة وأخيه محمود.. لو جود أكوام من الحجارة القديمة ومجموعة من الإطارات المطاطية المهترئة.. وصفائح كيروسين في داخل الحوش الذي يعيشان فيه مع أمهما.. أبوهما يعيش في المعتقل منذ عشر سنوات.. ومنذ خمسين سنة حمل جدهما بندقية ولم يعد إلى عائلته حتى اليوم.. قفز مصطفى بضعَ خطوات واختفى.. لم يجد العساكر غير محمود.. جرّوه إلى السيارة ولجأت أمه إلى بيت أخيها.. ثم فجروا الحوش بما فيه.
التفّت النساء حول أم مصطفى من جميع البيوت في الحي.. تعاظمت صدورهن بالحجارة المندسة حول الأثداء.. وتهامس الرجال.. حملوا الحجارة في أحجارهم وأكفهم ولقموا المقاليع.
ازداد عدد الدوريات في الشارع والأزقة.. ازداد عدد المحاربين بالحجارة.. انتشروا في زوايا المنعطفات والبيوت والساحات.. وحين تلقوا إشارة.. أمطروا العساكر بوابل من الرشقات الحجرية أعمت البصائر الغادرة. صرت أحدث نفسي:
( كأن هؤلاء يكرهون أولئك.. وبالعكس.. كأن عداوتهم قديمة.. منذ متى يا ترى؟).
ولكن إلى متى يظل العداء مستحكما في جميع مفاصل الحياة؟.. يبدو لي أن هذا غدا شريعة البشر في هذا الزمن.. في كل الأحوال.. سننتظر بعض الوقت ولن ينتصر غير الحق في النهاية.
أرى العسكر ازدادوا غطرسة وشراسة وشرا.. قانون الكفر أباح لهم اقتناء أسلحة مهلكة.. فصارت قوتُهم وفراشهم.. يتباهون بها كأنها حق سماوي.. ومُنع عن الطرف الآخر أن يتسلحوا بأي سلاح ليدفعوا الظلم عنهم.. حتى الحجر.. ولا يحق لهم إلا العري والجوع والعطش.. يستمر القهر والضغط.. أحرقوا مزارعهم ومحاصيلهم وشجرهم.. اقتلعوا الزيتون والبرتقال واللوز.
لكن الحياة تستمر أيضا بإصرار بكل المعاني الصعبة.. ورغم أن النظر في عين الشمس يقذي العيون.. ماتزال عيون الرجال والنساء والأطفال.. تنظر بثبات وقوة.. ليستمدوا بريق العيون من وهج الشمس.
اليد الطائشة إذا توقفت قليلا.. فإنها تنصِبُ الشباك لتصطاد من ينظر إلى الأعلى.
تكسرت الأزمنة على صخور الحدث.. وتو حدت الأمكنة كأنها حي واحد.. وتظل الصخور والحجارة والمقاليع تلاصق الأكف الصابرة.
لم يبق أمام العدو إلا الاستنجاد بعقول أخرى.. لتدبر معهم مكيدة يتخلصون بها من عنائهم اليومي المزمن.
هزتهم الحيرة.. ودق صدورّهم القلق.. هاجوا وغضبوا.. في الموقع العسكري ضرب الضابط على طاولته بكفه.. أرهقه الزمن القصير.. أفرغ شحنة الحقد واللؤم في وجوه مساعديه وصرخ.
يجب أن توقفوا هذه المهزلة.. العالم كله يسخر منا الآن.. ماذا أصابكم؟.. القيادة قررت إنهاء هذا المد في كل مكان.. بسرعة وبأية طريقة.. أوقفوا هؤلاء الرعاع.. كانوا ميتين وعاشوا .. عادوا إلى الحياة من جديد.. كأني أشهد القيامة.. لا أريدهم أن يعودوا للحياة.
قلت في نفسي: ( يا إلهي.. هذه المدن والقرى والمخيمات.. أعرفها.. ماذا حل بها؟.. ماذا جرى لأهلها؟.. أعرفهم .. ناس طيبون ).
في هذه اللحظة وصلتْ إشارة سريعة من القيادة.. التقطها الضابط بسرعة بعد صبر.
( سيدي.. رئيس الأركان حل المشكلة.. يقترح طريقة فعالة لإيقافهم وإنهاء الفوضى).
ضوء الخبر بدد العتمة في ذهنه.
( أخبرني ماهي الخطة؟.. ماذا يقترح؟.. ماذا سنفعل؟.. بسرعة).
( يقترح أن نجمع الحجارة ونطحنها فنضرب عصفورين بحجر.. الأول.. نتخلص من أداتهم وسلاحهم.. والثاني.. الرمال الناتجة عن طحنها نحتاجها لبناء حاجز كبير .
صفق الضابط وهلل فرحا.
(هاتوا الجرافات.. اجمعوا الحجارة من كل مكان.. الشوارع والساحات.. وجدران البيوت المهدمة.. وحتى حجارة المقابر.. كلها كلها.. لا تتركوا حجرا واحدا بين أيديهم).
جلس في مقعده وهو يفرغ ما بصدره من زفير.. أملٌ بغيضٌ يغشى الرؤوس.. الشعور الفاسد أزاح هما ثقيلا يحاصر الأنفاس العليلة.. التي أدمنت قتل المعاني الانسانية.. واكتسبت خبراتٍ في إجهاض براعم النماء.. العجلات المنتفخة كروشٌ متخمة.. السلاسل الحديدية تدوس الصخر الرافض فيتطاير الشرر.. صناديق الشاحنات تنتظر امتلاءها بالحجارة.. والجرافات تلتهم الطرقات والساحات وجدران الدور وشاهدات القبور.. كل حجر يبدو أمامهم.. واقفا جاثيا نائما.. أو يسند أخاه أو يستند إليه.. وكل شيء يشبه الحجر.. صار عدوا لهم.. يخيفهم ويرعبهم.
نُقلت الحجارة أكواما.. جبالا صارت في مكان طحنها.. فشبّك إسحاق ناعون يديه خلف رأسه وراح يحلم بالأمان.
لايزال المنتفضون ينظرون إلى الأعلى وتتبعهم العيون بإعجاب.. لكن العسكر بدّلوا أطرافهم بأخرى فولاذية.. وساطوا الروح المتحفزة.
تقول هذا حد النهاية.. وستنطفئ الجذوة.. ورقد العالم رقود قبر.. خشيتُ أن تلتهم الحلكة ذرات الضوء القادم من الشرق.. وضعت كفّي على قلبي .. كدت أصرخ من برجي.. لا تتوقفوا.. استمروا.. إذا لم تجدوا حجرا فاخلعوا أسنانكم.. استعملوا حناجركم.. اقذفوهم بشرر العيون.. لا تستكينوا.
كانوا يستريحون استراحة المحارب يلتقطون أنفاسهم.. دوتْ الصرخة من جديد.. الرؤوس تتقارب.. الأيدي تتعانق.. الشفاه تهمس.
( سنغيّر الخطة.. لابد من سلاح يقذف النار.. يتشظى.. يفجر.. يقتل).
بدت الحياة عادية رتيبة.. مملة.. كل شيء يرقد عليه صمت وهدوء مهيب.
الأطفال في مدارسهم.. الفلاحون في مزارعهم يغرسون فسائلهم.. ولا يتوقف العمال عن أعمالهم.. ولا يأخذون استراحة للعيد القادم.. النساء يدبرن شؤونهن الخاصة بهن وبالأهل.. ينسجن السلال والأطباق والقفف من عيدان القمح والزيتون والعناب.. الكتاب والشعراء يتحدثون عن الثقافة والأمن والسلام.. المطربون يغنون للحب والعشق.. المسرح يعرض أجمل الأزياء الفولكلورية والتراثية.
بدا كل شيء يتحدث عن الحياة بتفاصيلها.. حتى أحسستُ بجمال الدنيا بلا نزاعات وحروب.. تخيلتُ الطفل يغفو على صدر أمه بأمن واطمئنان.. والعيد يوزع هداياه ومباهجه.. تصورت الذاكرة كتابا مقدسا لا ينسى ولا يخطئ.
فهل ينسى صاحب الحق حقه؟.. وهل يتقبّل حياته على هوى عدوه بعد أن طرده من ملكه ومدينته وقريته ومزرعته؟. . وهل يرتضي أي إنسان أن ينتزع قلبه من جوفه؟..
الصمت يعلن انسحابه.. اتفقوا وقرروا الخروج إلى المزارع التي تروى من ماء التحدي والبقاء.. على رؤوس النساء قفف القش.. وفي أيدي الرجال والأطفال سلال العناب والقصب.. يطيرون كعاملات نحل تجني محصول العسل.. يدرجون كجيش نمل يخزن مؤونته.. موكب يروح وآخر يغدو.. السلال الفارغة تصير ثقيلة على الرؤوس والسواعد.. تمتلئ حجارة جاهزة للإطلاق.. يملؤون البيوت.. يجدلون المقاليع.. يتهيؤون .. ويتوقف الزمن.. تفور الأرض كتنور القيامة.. اللهب يشتعل في العيون.. تومض القلوب نورا مستمدا من طيبة الأنبياء.. الحق سيف يلعلع أمام الوجوه.. يتحدى.. يقاوم.. كدعاء مبارك عرف طريقه.
انتشروا.. توزعوا في جميع منافذ المدينة والقرية.. انطلقوا من المسجد والكنيسة.. أم مصطفى حلاوة تنتظر هذه الساعة.. زغردت وقالت:
( وعليّ نقل الحجارة إلى كل كف ومقلاع).
بنى الفتيان متاريسهم وحواجزهم في الطرقات والشوارع.. ودحرج الصبية عددا من البراميل والإطارات المطاطية إلى الساحات ومداخل الشوارع.. جعلوها أكواما وشرّبوها بالنفط ثم حولوها إلى لهب يتطاول.
سيارات الدوريات العسكرية كثُرَ عددُها.. قفزوا ببنادقهم وقنابلهم من مؤخرات السيارات.. طوقوا المكان.. نظروا حولهم .. لم يروا أحدا.. الحواجز الصخرية فاجأتهم.. رجعوا بحذر خطوات إلى الخلف.. الدخان الأسود سحابة من غضب.. اللهب الذي يجلو الصدأ يضخ وهجا ويعلن غضبه.. يرسم تحذيرات في الفضاء.
خطوات أخرى إلى الوراء.. حيّرهم الصمت.. الخوف نبتة تنمو في صدر الباطل.. صرخ الضابط:
- هيا.. تقدموا إلى الأمام.. هيا.
- سيدي.. كيف نسير خلال الحواجز الملتهبة؟
- لا أريد سماع الكلام.. أين صوت الرصاص.. هيا.
يتلفتون في جميع الاتجاهات وهم يتقدمون.. لم يجدوا من يبعث فيهم الخشية.. توزعوا في الشوارع والأزقة.. وساد هدوء حذر.
من فوق أسطح البيوت والمساجد والكنائس.. نبتت رؤوس وأكف مشرعة في كل زاوية ومنحنى.. وفي الحقول القريبة.. وخلف الحجر والشجر. فوجئ العساكر.. بدا لهم كأن ما يحدث من عالم آخر.. خيال وأوهام.. بعضهم يحدّث الآخر.
- لا أصدق أن هؤلاء بشر.. هم أرواح أخرى
- ماذا نفعل؟.. نحن الآن مطوقون .. علينا أن نحمي أنفسنا.
رفعوا البنادق.. تقدموا بتحدٍّ وحذر.. ساعتها هدرت إشارة متفق عليها في الطرف الآخر.. نداء المئذنة.. الله أكبر.. والناقوس يطنُّ فيصعق النفس المأفونة.. أمطرت السماء حجارة فوق الرؤوس.. الحجر موجه إلى هدفه.. نزفٌ في مكان سقوط الحجر.. الكل يقذف ويختفي.. تراجع العسكر.. اختبأوا خلف آلياتهم.. أطلقوا قنابل مطاطية.. غازية.. تضامن الغاز الكثيف مع اللهب والدخان الأسود والحجارة المتطايرة من جميع الجوانب.
المكان يستغيث.. والحق سيف يلمع فوق الوجوه.. تقدموا بلا وجل.. أكفهم تضغط على الحجارة.. تقذفها فتبرق في الفضاء وتطير.. ولا تزال قنابل الغاز المسيل للدمع تتساقط هنا وهناك.. يكمم أحد الفتيان أنفه بكوفيته.. يجري إلى قنبلة طازجة.. يلتقطها ويقذفها إلى مكان إرسالها.. ثم يمد ذراعه.. ويلوح مقلاعه.. ويستنشق هواءه.
زغردت أم مصطفى حلاوة وراحت تسعى.. سلتها بيدها تمتلئ حجارة.. تدرج من هنا إلى هناك.. توزع ثمار سلتها.. تفرغها بسرعة في الأكف.. ثم تعود مسرعة لتملأ سلتها وتعود.. كانت موجودة في كل مكان.
صرخ الضابط ملء شدقه.
- افتحوا النار.. الرصاص الحي.. مقابل كل جرح ينزف أريد قتيلا منهم.. هيا.. من أين جاءتكم الرحمة؟.. من علمكم الرحمة بهم؟.
نار الرصاص لا يمنع الحجر من السقوط فوق الرؤوس.. أرى في الشارع طفلا يرافق أباه إلى السوق.. بيتهم بحاجة إلى بعض الأشياء لتستمر الحياة.. حين صارا في وسط الشارع لمحهما العسكر.. وجّهوا حقد بنادقهم إليهما.. قفزا إلى الرصيف.. التجأ الطفل خلف أبيه الذي تلطى بجدار.. صرخ كثيرا كثيرا.
- أوقفوا رصاصكم يا أوغاد.
كان يحتمل مقذوفات النار التي تحرق كل بقعة من جسده ليحمي فلذته.. لا يهتم لروحه.. سيفدي بها ولده.. ينثر خلايا دمه في قدسية أرضه فداء وأملا.. كلما ازداد الرصاص كثافة يتباطأ صراخه ويضعف صوته.. تهبط ذراعه الممدودة.. وتنفلت الأخرى التي تحيط ولده الذي يتمدد مسلّما روحه وحلمه.. نظر إليه.. فتح عينيه بدهشة.. غالب ضعفه ونزيفه.. وصار الطفل يلوح بين يدي أبيه وجميع أجزاء جسمه تقطر منها نجوم وردية.
سقط شهيدان شاب وفتاة.. أم مصطفى المرأة اللولبية جُرحت في ساقها فتوقفت عن السعي.. حملوا الشهيدين على أذرعهم.. زغردت النساء وضجت أصوات بأسى.
والله لزرعك بالدار يا عود اللوز الاخضر
واروي ها الأرض بدمي تتنور فيها وتكبر
هجم العسكر، باغتوا الرجال المتحلقين حول الشهيدين.. يقبضون على عدد منهم.. يجرجرونهم على الأرض.. يسحلونهم سحلا.. يسلبونهم آدميتهم.. يسقط الشهيدان ببطء عن الأذرع.. فينتفض الغضب.. وتنطلق الصرخة من جديد.. النساء تحاصر السيارة التي يحشرون فيها الرجال.. وقذفت الأكف حجارتها.
الروح عطشى لتلبية نداء الحق.. من بين البساتين مدّ مصطفى حلاوة قامته.. طلَّ على موقع الحدث.. يضم بكفه قنبلة جاهزة.. كان يخبئ في دمه الأمل.. نهض مشبعا بأسباب الحياة.. فوجئوا به بينهم.. حاصروه من كل ناحية ليقبضوا عليه.. أيديهم تحمل أدواتٍ قاتلة.. وهو يتقدم.. لكنهم لم يعلموا أنه يمتلك قنبلة سيهديها لهم.. النساء تحدق بذهول ودهشة.. صاحت أمه الجريحة وزغردت.
- مصطفى.. اليوم يومك يا بنيي.
تقدم.. ارتجت الأرض تحت قدميه.. خطوات العسكر صارت حذرة.. اقتربوا منه.. ضاقت الدائرة حوله.. وهو ينظر إليهم بعينين ثابتتين كذئب جريح.. نبتت فيهما عروق حمراء نافرة.. القنبلة تدور بكفه بحركة نشطة.. بينما لاتزال الدائرة تضيق وتقترب منه.. تكاد تلامسه لتقبض عليه.. كانت حركته رشيقة بنزع صمام القنبلة .. سقط على أرضه ليطهرها بدمه.. فابتلعت عددا من العساكر.
تحركتُ في برجي بنشوة.. الله الله.. الله يا مصطفى حلاوة.. إني معجب بما فعلت.. ولكن كان عليك يا حبيبي يا مصطفى أن تحافظ على نفسك.. لو قتلتهم فقتلوك كان أفضل بكثير.. لماذا سكبت في نفوسنا هذا الحزن عليك؟.. لماذا يا مصطفى؟.
لو قذفت قنبلتك نحوهم من بعيد.. لكتبت لك الشهادة ألف مرة.. لماذا قتلت نفسك يا مصطفى؟.. أما يكفينا كل هؤلاء الشهداء؟.
امتلأتْ نفسي حسرة عليه.. وغبّشتْ عيني بدموع ساخنة.. ولكن ها هو رأسي يتجرد من بركانه المتفجر ألما.. ليقذفه في دمعتين حارقتين.
مرت أسرابٌ من الطيور فوق المكان.. نظر الصبية إلى السماء.. كانت سيارات الإسعاف تنقل العسكر القتلى.. ولفتْ النساء الشهيدين براية ملونة.. وهلل لسان أم مصطفى مبللا بالدموع وبزغرودة انتصار.. فانطلقت أغنية الجميع.
والله لزرعك بالدار يا عود اللوز الاخضر
واروي ها لأرض بدمي تتنور فيها وتكبر.
جرّتني نجمتان نحو الأسفل.. مهّدتا لي مكانا في قلب سحابة حبلى.. تمشي بثقل وتأفُفْ.. كنتُ مستريحا وأنا أنظر إلى لوحات تنشر جمالها وروعتها في الكون كله.. لا يكدرها سوى بقايا دخان يتصاعد.. وينشر الهباب حولها.. تتوه في الفضاء بضع حمامات.. وطيور تغرد.. لكن السحابة ترش عطرها.. أحسستُ أني سأسقط فجأة من علو شاهق على صخور ناتئة حادة.
أصابتني رعدة.. تسلل قليل من البرودة في جلدي.. عصرتْ الغيمة ذاتها عليّ فاختفيتُ وتحولتُ إلى ملايين الذرات المطرية.. ربطتني بخيط رفيع جدا.. وأنزلتني ببطء شديد حتى وصلتُ الأرض.. كانت بيداء يغوص في رمالها بعير دون أن ينقذه أحد.. غصت في الرمال التي ابتلعتني بسرعة هائلة.
أفقت من نوم عميق.. كنت مبللا من رأسي حتى قدمي.. ثيابي تلتصق بجلدي.. حتى الغطاء كان مبللا بالرطوبة.. كأني خارجٌ من بركة ماء.. نزعت الفوطة عن جبهتي فكانت مبللة أيضا.
نهضتُ وقد فارق رأسي غليان الصداع.. اغتسلتُ.. وجلستُ أمام التلفزيون.. كانت الأخبار تعرض مشاهدا هاجم فيها عساكر العدو آلاف الأطفال.. ثقبوا أجسامهم الصغيرة بملايين الثقوب.. تصورتها أفواها تنادي ليسمعها كل العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا