الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تداعيات الاختزال في القصة القصيرة

ايناس البدران

2006 / 8 / 17
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات


تعد القصة القصيرة اول الانواع والاعمال الادبية طبيعة واستمرارا، كما انها اكثر الفنون ديمقراطية فكل فرد بامكانه ان يحكي قصة، واذا كانت جذابة فلا بد ان يجد من يصغي اليها.
والقصة القصيرة كغيرها من الفنون الادبية مرت بمراحل تطور ولم تبق علي حالها، فقد نمت من جذور الاساطير والقصص الشعبية الي ان وصلت الي ما وصلت اليه. ولانها قصيرة فهي تركز علي بطل واحد او شخصية واحدة وموقف او فكرة بعينها لمدة زمنية تكون في الغالب قصيرة، ذلك انها تمثل جزءا يسيرا مقتطعا من الحياة المألوفة واللامألوفة، وجانبا لايتوقف عنده الانسان العادي - جهلا او تجاهلا- لانشغاله بمتطلبات الحياة اليومية.
وهنا يأتي دور القاص حين يقوم بالقاء الضوء علي هذا الجزء ربما من منظور بعينه او زاوية ما للتعبير عن رؤية ما. وقد شبهت القصة القصيرة بلقطة تختزل في مداخلها جوهر الدراما والخبرة الانسانية، او بمجموعة لقطات يعبر من خلالها عن هموم وتجليات البطل، فهي كضربات الفرشاة في يد رسام تعكس جانبا من اللوحة، وليست كالرواية التي تفترش اللوحة برمتها.
وقد عرفها آرسكين كادويل بانها (حكاية خيالية لها معني)، ممتعة بحيث تجذب انتباه القاريء، وعميقة بحيث تعبر عن الطبيعة البشرية). وللقصة القصيرة مهمة رئيسية لخصتها هالي بيرنت بقولها (علي القصة القصيرة ان تقدم فكرة في المقام الاول ثم وجهة نظر ومعلومة عن الطبيعة البشرية بحس عميق، وفي النهاية يأتي الاسلوب). ووصفها سومرست موم بقوله (يمكنني ان اضيف بان لا احد من صديق او عدو او غريب يرد علي وعي الكاتب الا ويستحق الملاحظة والتفكير).
ولعل الملاحظات التي ابداها الرسام الشهير روبرت هنري لتلامذته تصلح لكاتب القصة ايضا اذ قال : (لكي يكون الفنان ممتعا للاخرين لابد ان يكون ممتعا لنفسه، وان يكون قادرا علي الشعور المكثف والتأمل العميق). ان القصة الجيدة تبدو لغير الكاتب سلسلة كالزواج المثالي من السهل ظاهريا تحقيقه، اما بالنسبة للكاتب فهي قضية اخري لانها مزيج من مشاعر شتي تضم بين ثناياها الشك والصراع والرغبة والعمل والحيرة والثقة والحب، ذلك ان الكتابة بحر حقيقي لايستطيع الغوص فيه اي كان. وقبل الشروع بكتابة اية قصة يحتاج الي فكرة يبني عليها قصته، والفكرة هي اي شيء يحرك خيال القاص نحو الشروع في الكتابة، مع عزم كاف علي البدء في عملية الابداع القصصي، اي انها شيء يسيطر علي ذهن القاص ويدفعه الي التفكير. ان الفكرة بالنسبة للقاص كالبذرة للبستاني، او كالدقيق للخباز، فهي المقوم الاول الا انها تحتاج الي مقومات اخري، فالقصة حشد لافكار كبيرة وصغيرة وكل فكرة تسهم في الوصول الي النتيجة النهائية مثل سبيكة متماسكة بعد مجموعة تفاعلات كيميائية. وبعد الفكرة تأتي الخطوة التالية المتمثلة في التفكير (ماذا لو) وفي التجليات والتداعيات ونشاط الذهن وعمله علي وضع سيناريوهات عدة للمشهد الذي اثار اهتمامه.
من هذا كله نستخلص ان القصة القصيرة هي سرد يقوم المؤلف خلاله بمزج عناصر الشخصية والصراع والحوار والحبكة والبناء من اجل اهداف ثلاث: (1) يمتعنا (2) يؤثر فينا (3) يخبرنا، مع هدف اسمي هو اعطاؤنا الخبرة والحكمة. ذلك ان من ابرز واجبات الكاتب ازالة القشور عن الناس وكشف الجوهر واظهار مشاعرهم وطبائعهم الحقيقية، وعلاقتهم ببعض والتعبير عن كل هذا بأسلوب خاص متفرد فالغوص في الاعماق يوفر لنا اكبر درجات الحرية التي نتطلع لها جميعا كتابا وقراء،والشجاعة التي يتحلي بها الكاتب هي التي تقودنا الي اعماق الاشياء.
والحق ان الطبيعة البشرية لم تتغير كثيرا عبر القرون فالمشاعر مازالت هي هي في كل زمان ومكان، ولكن تظل لكل تجربة تفردها ولكل مخلوق ردة فعله تجاهها، الا انه مع شيء من الخيال وذاكرة حساسة يمكن ان ينتج فنا.
ان الفكرة التي يسعي اليها الكاتب كثيرا ما تثار لديه اثر حادثة ما او منظر او جملة او حتي نظرة. يقول تولستوي: (ان الكاتب الجيد يستطيع ان يكتب قصة كاملة من شجار رآه في الشارع). اما الروائي نيكوس كازانتزاكي الذي رفد العالم بروائع مثل زوربا والاخوة الاعداء فانه يقول في يومياته (يكفي قلم وورقة بيضاء ومتسع من الوقت وعزلة وضحك متبادل مع شخص حبيب لتري النور روائع ادبية جديدة). ويشير شين اوفالين الي ان اية قصة قصيرة من الدرجة الاولي لابد ان تركز علي الاهتمام بشخص واحد، فالشخصية برأيه تشد عواطفنا كالعاصفة.
فيما تتحدث الروائية ربيكا ويست لتقول (ان اول ما احب ان افعله حين اكتب هو تأمل الشخصية فالدوران حولها ثم تقمصها، وهذه الشخصية قد اكون التقيتها في الحياة وتركت اثرا في نفسي، او ابتدعتها بناء علي تجربتي الخاصة، او بدراسة التاريخ) . اما سومرست موم فيري ان لا احد يمكنه خلق شخصية من الملاحظة فقط، اذ لكي تبدو الشخصية حية ومقنعة ان تكون لدرجة ما ممثلة لشخصية المؤلف).
ومن الاهمية بمكان تفرد الكاتب بأسلوبه الخاص الذي يميزه عن سواه تماما مثل بصمة الاصبع او قزحية العين، وطرح نتاجاته بعيدا عما جاء به الاخرون، لذا لاينصح بالكتابة مباشرة بعد قراءة عمل ادبي لكاتب آخر ذلك ان هذا قد يولد تكرارا بفعل التداعي والتاثر به، كما يجب علي المبدع تجاوز او تخطي نتاجاته السابقة كي لايظل اسير دائرة وافكار ضيقة مما يطلي اعماله بصبغة من الجمود والتكرار وضيق الافق.
ان الاسلوب برأي الناقد سدني كوكس هو المحرك الفعال لتقديم وجهة النظر، انه نعمة الخيال الحر وهو الذات والاعماق الغامضة. اما القصة القصيرة الحديثة فقد تميزت بسمات جعلتها مختلفة في بعض الوجوه، منها التقنية التي يبتعد القاص من خلالها عن عملية السرد الشائع ويستفيد من فنون كالسينما اذ انه يدخل السيناريو ضمن شكلها القصصي.. كذلك يستنبط من الفنون التشكيلية تكويناتها واهتمامها بالالوان مثلما يسخر المسرح في حواراته ويلجأ الي التقطيع حين قسم النص الي مقاطع لايجمع بعضها الي البعض الاخر سوي المناخ العام والموضوع، فتبدو مقاطعها وكأنها قصص قصيرة جدا متباعدة في الظاهر لكنها ملتحمة من داخل مواضيعها.
كذلك نبذت القصة القصيرة الحديثة المفهوم الارسطي في النص الادبي وهو وحدة الزمان والمكان، اذ لاتجري احداثها في زمن واحد كما يحصل في الكلاسيكيات بل في ازمنة مختلفة، مستندة علي اسلوب التداعي الذي يحطم وحدة الزمان والمكان، ولاتجري احداثها في مكان واحد بل في اماكن متعددة، كما انها لاتمتلك بالضرورة بداية وعقدة وحلاً وخاتمة، اذ ربما تبدأ من النهاية فتكون النهاية بداية والخاتمة مفتوحة كي تعطي المجال لخيال القاريء. اما الشخصية الاساسية فهي مختلفة كذلك لانها متغيرة ومبعثرة مشتتة فاقدة للتركيز في الغالب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فراس ورند.. اختبار المعلومات عن علاقتهما، فمن يكسب؟ ????


.. 22 شهيدا في قصف حي سكني بمخيط مستشفى كمال عدوان بمخيم جباليا




.. كلية الآداب بجامعة كولومبيا تصوت على سحب الثقة من نعمت شفيق


.. قميص زوكربيرغ يدعو لتدمير قرطاج ويغضب التونسيين




.. -حنعمرها ولو بعد سنين-.. رسالة صمود من شاب فلسطيني بين ركام