الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أفغانستان بين اللاهوت ودولة القانون – 2

داليا سعدالدين
باحثة فى التاريخ

(Dahlia M. Saad El-din)

2021 / 8 / 31
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


باتت أفغانستان محط أنظار العالم بعد سيطرة طالبان على مقاليد السلطة فيها. طالبان التى لم تكن واقعيا بعيدة عن مشهد الصراع ليس فقط في الشرق الأوسط، بل وفي شرق ووسط أفريقيا، كما امتد تأثيرها فى اتجاه الغرب أيضا. ولكي يتم فك طلاسم الموقف؛ لابد من المرور عبر بوابات التاريخ المتداخلة، حيث لم يكن صراع القوى العظمى للسيطرة والتهديد المتبادل الذي عانت شعوب العالم من ويلاته، من خلال استخدام السياسة في أحيان، واستخدام القوة العسكرية الغاشمة متلفحة بعباءات الشرعية في أحيان كثيرة، لإضفاء شيء من المهابة على عمليات الغزو، كونها فاقدة لشرعية القانون بطبيعة الحال. فلم يكن ذلك الصراع وليد اللحظة أو التاريخ المعاصر؛ إذ تنامت جذوره وشبت عن الطوق كمارد كاسح؛ خلال ما قبل ثلاثينيات القرن التاسع عشر الميلادى. إلا أنه، وفي الوقت ذاته؛ تداخلت التحالفات السياسية العسكرية والمصالح الاقتصادية مع مبررات شرعية أو دينية غير واضحة المعالم بشكل حاسم آنذاك، أي خلال ثلاثينيات القرن التاسع عشر في التاريخ الأفغانى.
ففي خضم توسع النفوذ البريطانى في مناطق آسيا انطلاقا من شبه القارة الهندية، مع تعارضه والنفوذ الروسي؛ نشأت بعض حركات المقاومة تحت شعار الجهاد الإسلامي المناهض للوجود البريطانى فى تلك المناطق، ومن ثم كان الصدام مع الأفغان فى الحرب الأفغانية الأولى 1839- 1842، حيث كانت كل من إيران وروسيا القيصرية فى جانب الأفغان خلال بعض فترات ذلك الصراع. وقد اعتبرت فترة ثلاثينيات القرن التاسع عشر نوعا من الحرب الباردة بين كلا من النفوذين الروسى والبريطانى لبسط الهيمنة السياسية على مناطق وسط آسيا، وهى فترة تاريخية عرفت اصطلاحا "باللعبة الكبرى". خاصة وأن الإمبراطور "بول الأول" (1796- 1801) قيصر روسيا كان قد أعد العدة لغزو الهند، والتي تقع تحت السيطرة والنفوذ الاستراتيجى البريطانى؛ غير أن اغتياله فى عام 1801 حال دون ذلك. إلا أن الساسة البريطانيون منذ تلك اللحظة وحتى ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أصبحوا ينظرون إلى أي تحرك دبلوماسى روسى في المنطقة بشيء من الريبة وباعتباره تهديدا للنفوذ البريطانى. وفي عام 1837 تم إثارة المخاوف من عدم استقرار الأوضاع فى كل من أفغانستان والسند، خاصة مع الاعتقاد بتجدد شبح الغزو الروسي للهند البريطاني؛ ومن ثم دعموا تسليح مملكة السيخ في الشمال الغربي للهند البريطاني (شرق وجنوب شرق أفغانستان). بينما لم يكن قيصر روسيا حينها، "نيكولاس الأول" (1825- 1855)؛ يهدف من خلال سياسته الدبلوماسية مع إيران الداعمة لإمارة أفغانستان، إلى أي مواجهة عسكرية ضد بريطانيا فى وسط آسيا؛ بل كان هدفه الحفاظ على الوضع الراهن فى أوروبا من خلال التعاون مع بروسيا والنمسا لعزل فرنسا. وأيضا إلى الوصول لصيغة ما يتم من خلالها عدم تعارض النفوذ الروسي مع النفوذ البريطاني في مناطق وسط آسيا، خاصة وأن هدفهما الأوروبي واحد، أى عزل فرنسا.
أما فى إمارة أفغانستان، فقد كان الوضع مختلف؛ إذ تزايدت مخاوف "دوست محمد خان" (1823- 1839/ 1845- 1863) وأيضا مخاوف عاهل إيران، "محمد شاه قاچار" (1834- 1848)؛ من تزايد نفوذ شركة الهند البريطانية من خلال دعمها العسكري لمملكة السيخ فى إقليم البنجاب؛ لذا عقدا تحالفًا سياسيا عسكريًا ضد مملكة السيخ للقضاء عليها. غير أن الساسة البريطانيون خشوا من نجاح تنامي قوة إسلامية في المنطقة بدعم إيراني يسانده نفذ روسي، ما قد يؤدى إلى تمرد وانتفاضات فى الهند. وبالتالي تم اتخاذ قرار بضرورة التدخل لتغيير حكم "دوست محمد خان" في أفغانستان بسلطة تكون أكثر مرونة سياسيًا فى تقبل الأمر الواقع، تحت ذريعة التهديد الروسي للنفوذ البريطاني في آسيا الوسطى. لذا ارسلت شركة الهند مبعوثا دبلوماسيًا "لكابول" للتفاوض مع "دوست محمد خان" حول تشكيل تحالف ضد النفوذ الروسى، وكان "دوست محمد خان" مستعدًا تماما لمثل هذا التحالف؛ إذ كان قد فقد حديثا مدينة "بيشاور" ذات الموقع الاستراتيجي في صراعه مع مملكة السيخ. غير أن الساسة البريطانيون أنفسهم كانوا قد قرروا دعم مملكة السيخ فى البنجاب، نظرا لقوتها العسكرية وجيشها النظامي مقارنة بجيش أفغانستان الذى كان يتألف من قبائل لا يجمعهم نظام عسكري محدد.
فى واقع الأمر لم يكن فى مقدرة الأفغان مجاراة مملكة السيخ فى فنون وتكتيكات الحرب؛ إذ كان المهراجا "رانچيت سينج" (1801- 1839) المعروف بأسد البنجاب، محاربا منذ نعومة أظفاره، حيث خاض أول حروبه وهو فى سن العاشرة بجوار والده. وما إن أتم عامه الحادى والعشرين حتى أخضع جميع الممالك المحيطه بالبنجاب شمال شرق الهند البريطانية، كما نجح فى صد غارات الأفغان، بل وتم له ضم أراض كانت تقع تحت سيطرة حاكم أفغانستان، "دوست محمد خان"؛ كان أهمها مدينة "بيشاور"، كما سبق الإشارة. بالإضافة إلى أن المهراجا "رانچيت سينج" كان يتمتع بنظرة سياسية مستقلبية؛ إذ عمل على إدخال مملكته فى البنجاب إلى العصر الحديث من خلال التطوير والتحديث في شتى المجالات. فى حين كان الوضع عكس ذلك تماما فى الإمارة الأفغانية التى سيطرت عليها النزعة القبلية وأفكار العصور الوسطى، كما أن إمبراطورية "القاچار" الإيرانية كانت تعتبرها مجرد إمارة عازلة لصد الهجمات المحتملة سواء من السيخ أو من شركة الهند البريطانية؛ ومن ثم فلا توجد ضرورة لتطوير نظامها السياسى أو الاجتماعى طالما تقوم بوظيفتها فى إثارة القلاقل للنفوذ البريطانى من خلال غارات القبائل التى هى اشبه بحرب العصابات. غير أن حاكم أفغانستان "دوست محمد خان"، يبدو أنه قد فطن لشىء من هذه الاستراتيجية؛ إذ لجأ إلى تخويف شركة الهند البريطانية بنية تحالفه مع روسيا، حينما أرسل القيصر مبعوثة الدبلوماسى الكونت "جان فيتيكيفتش". غير أن ما زاد الأمر سوءًا هو طرد "دوست محمد خان" للبعثة الدبلوماسية البريطانية فى أبريل 1838، خلال محاولات التفاوض لإيجاد حل وسط يتجنب خوض الحرب، كما انهارت المفاوضات الأفغانية الروسية خلال نفس العام. وعليه أصبح رأس حاكم الأفغان مطلوبا من القوتين العظميين فى المنطقة، بريطانيا وروسيا على حد سواء.
وحيث أن إمبراطورية القاچار فى إيران كانت حليفا لروسيا القيصرية، فقد قام الجيش الإيرانى بدعم روسى؛ بحصار مدينة "هيرات" فى أفغانستان، وهى المدينة التى كان يأمل كل شاه إيرانى فى استعادتها؛ إذ تقع فى سهل خصب عرف تاريخيا "بمخزن حبوب آسيا الوسطى". وهكذا أصبح النفوذ البريطانى فى المنطقة على المحك؛ لذا أصدر اللورد "أوكلاند" – الحاكم العام لشركة الهند البريطانية – إعلانا بالحرب فى أكتوبر 1838 ضد حاكم الأفغان "دوست محمد خان" لقيامه بهجوم غير مبرر على مملكة حليفة لبريطانيا، أى مملكة السيخ. غير أن الإيرانين خلال تلك الأثناء كانوا قد رفعوا حصارهم عن مدينة "هيرات"، وبالتالى أصبح قرار الحرب البريطانى ضد الأفغان حماقة سياسية وجريمة ضد إمارة ضعيفة؛ إذ ظهر الصراع بشكل واضح حول ضم إمارة أفغانستان للنفوذ البريطانى. إلا أن اللورد "أوكلاند" كان قد عقد العزم فعليا على حرب حاكم أفغانستان واستبداله بحاكم متعاون؛ ولم تجدى المحاولات لثنيه عن عزمه. وفى 25 نوفمبر 1838 تحركت قوات شركة الهند مع القوات البريطانية فى المنطقة، مدعومة بجيش مملكة السيخ فى البنجاب، وأعلن اللورد "أوكلاند" أن جيش السند الكبير سيبدأ مسيرته نحو كابول لإسقاط حكم "دوست محمد خان". وعلى الجانب الأخر فى بريطانيا، أدان دوق "ويلينجتون" العملية العسكرية معتبرا أنها "تصرف غبى". حيث أشار إلى أن المشكلة سوف تبدأ فى أعقاب نجاح الغزو؛ ذلك أن جبال أفغانستان ليست سهلة، كما أن أرضها هى عبارة عن صخور ورمال وصحارى وجليد.
ولم يكن الطريق إلى كابول وعرا اطلاقا بالنسبة لجيش السند الجرار؛ إذ لم يواجه الجيش مقاومة عكسرية ذات فاعلية أو تأثير، كما أن "دوست محمد خان" نفسه كان قد فر تاركا شعبه يواجه وحده الغزو. ومن ثم تم احتلال كابول، وتم ترك حوالى ثمانية آلاف جندى بريطانى فى أفغانستان، كما تم السماح لجنود الحامية البريطانية بجلب عائلاتهم. الأمر الذى ضاق به الشعب الأفغانى؛ إذ اعتبروه احتلالا فعليا. وحيث أن الأفغان لم يكن لهم جيش نظامي؛ إذ كان لديهم نظام قبلى إقطاعى يسمح لرئيس القبيلة بالاحتفاظ بعدد معين من الجنود المسلحين، فى حين أن كل رجال القبائل يتم استدعائهم للقتال فى حالة الحرب. لذا طالبت حكومة شركة الهند فى عام 1840 الحاكم الجديد الذى تم وضعه على عرش الإمارة بضرورة إنشاء جيش نظامى حديث، وهو الأمر الذى تعارض مع مصالح رؤساء القبائل؛ إذ كان يهدد نفوذهم، لذا رفض الأمير الجديد ذلك الطلب متعللا بعدم القدرة المالية لأفغانستان على تحمل عناء تمويل جيش نظامى دائم.
خلال نفس الفترة بدأ الصراع الأنجلو- روسى لفرض الهيمنة والسيطرة على مناطق آسيا الوسطى يخبو شئيا فشئيا، خاصة مع العرض الروسى بالتعاون والتفاوض بشأن عقد اتفاقية روسية- بريطانية تنهى حالة "اللعبة الكبرى" فى آسيا، وتحدد مناطق نفوذهما. غير أن هذا العرض قوبل بالرفض البريطانى؛ نظرا لأن العرض الروسى كان يشى بضعف موقفهم فى مناطق آسيا، هذا بالإضافة إلى أن إنهاء عملية "اللعبة الكبرى" كانت تعنى إعادة نشر القوة الروسية فى أوروبا، وهى المناطق الأهم فى الاستراتيجية البريطانية آنذاك.
ومع خفوت الخطر الروسى فى آسيا الوسطى، فضل الساسة فى بريطانيا تغيير الاستراتيجية فى أفغانستان. حيث لم يعد الأمر يتطلب حكومة موالية؛ إذ تبدو الأوضاع مستقرة. وبالتالى تم تخفيض عدد القوات البريطانية فى أفغانستان، كما خفضت حكومة شركة الهند العطايا والرواتب التى كان يتم تقديمه لرؤساء القبائل الأفغانية، ما أدى إلى تذمرهم وبدء مسيرة المقاومة تحت "راية الجهاد" فى أفغانستان. فتدفقت القبائل الساخطة لدعم ذلك الجهاد المقدس ضد البريطانيين خلال شهرى أبريل وأكتوبر 1840، ومن جبال أفغانستان كانت المقاومة فى شكل حرب عصابات قامت بها القبائل المتذمرة من تخفيض أو منع العطايا البريطانية، كما ساهم فى نجاح تلك المقاومة أو الجهاد الأفغانى؛ أن عدد أفراد الحامية البريطانية كان قد تم تخفيضه وتقليصه بشكل كبير. وفى يناير 1842 تم التوصل لاتفاق يضمن النزوح الآمن لأفراد الحامية البريطانية وعائلاتهم من أفغانستان.
وللحديث بقية، ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز