الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تجاوز ثنائية الإغواء، والغياب في مسرحية النداهة لنسرين نور

محمد سمير عبد السلام

2021 / 9 / 1
الادب والفن


"النداهة" مسرحية تجريبية للكاتبة المصرية نسرين نور؛ صدرت ضمن كتاب يضم مجموعة من نصوصها المسرحية بعنوان "تجارب نوعية" عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة 2020؛ ووتؤسس الكاتبة – في المسرحية – لخطاب مختلف حول الصورة الرمزية القديمة للنداهة التي ارتبطت بالفولكلور في عالم القرية؛ ويقوم خطاب نسرين نور على احتمالية المصائر، ودرجات تحقق الكينونة الفردية فيما وراء صراعات المدينة، وبنية العلاقات المتشابكة، والمعقدة فيها، وكذلك تكرار عمليات الإغواء، والجذب، والغياب المؤجل، والانتشار العلاماتي، والتعارض البنيوي بين عمليات التواصل، وعلاقات الاستنزاف وتجسداتها الرمزية والتعبيرية، أو الانفصال العبثي المحتمل أحيانا؛ ومن ثم يفكك العرض ثنائية الإغواء، والغياب التي ارتبطت بصورة النداهة في الذاكرة الجمعية؛ فالنداهة هنا جزء من مغامرة تتجاوز مدلول النهايات الحاسمة، وتتصل بخبرات واقعية، وذاتية / تعبيرية كثيفة، تؤدي إلى تطور الشخصية الفنية دراميا بصورة ديالكتيكية / جدلية كما هو في تطور شخصية الفلاح؛ فهو يتطور من التلقي السلبي للكرات الحمراء، إلى الحياد، ثم البهجة، ثم الفعل المضاد، أو باتجاه إيجاد مدلول للكينونة الفردية؛ مثلما تطورت الفتاة العصرية، والشاب من حالات الصراع، والإغواء، والاستلاب على إمكانية تشكيل الهوية الفردية من داخل تعقيدات التجربة المتعلقة بعلاقات القوى؛ فالفتاة تهرب من المجموع المكرر، ومن إغواء الغرق في المياه، والشاب يحاول الصعود إلى أعلى للخروج من أسر النداهة، ودرجات التوافق الذاتي، أو الصراع الداخلي، أو مواجهة الآخر / الآخرين، أو مواجهة قوى التكرار، والهيمنة الرمزية؛ أما شخصية الأفندي فقد جسدت قوة الانتشار العلاماتي مع التكرار في بنية المدينة؛ فهو نموذج يقبل التكرار، والاختلاف، ويمثل التحولات الانفعالية الآلية المتناقضة، وغير المبررة في السياق المدني المعاصر؛ ومن ثم تؤسس نسرين نور – في خطابها – إلى دائرية الاحتمالات فيما وراء بنى الإغواء، والرعب، والغياب التي ارتبطت بتاريخ النداهة.
ويقوم العرض المسرحي على التفاعل بين تقنية الفيديو بروجيكتور، والأداء الحركي؛ لبناء سياق فعلي تجريبي من جهة، وتشكيل خبرة حسية إدراكية جديدة تقوم على استدعاء نموذج النداهة من اللاشعور الجمعي، وتجسيده على المسرح بصورة تعبيرية تقوم على إبراز وسائل الإغواء، أو الصراع المباشر ضد الآخر الفلاح، أو المدني من قبل صورتي النداهة؛ المرعبة، والجميلة؛ ثم الصراع بينهما بصورة حركية – تعبيرية بين السياق الفعلي، وديناميكية ألوان الفيديو بروجيكتور، ثم تطور الشخصيات بعيدا عن مركزية الغياب الأولى التي اتصلت بنموذج النداهة؛ ومن ثم تمثل صور الفيديو المتحركة التي تجسد علاقات المدينة المعقدة وخطوطها ودوائرها التجريدية أو صورة البحر الممثلة للإغواء، أو شباك الصيد الممثلة لآليات الاصطياد التي اتصلت بصورة النداهة القديمة، أو دينامية ألوان الصراع التي توحي بأن الصراع لا يؤدي إلى نتائج حاسمة، وإنما إلى تحولات في التجربة، وإدراك الذات، والعالم دائما؛ ومن ثم فصور الفيديو، والأداء الحركي التعبيري قد شكلا نوعا من الحجاج التصويرية – المرئية التي تدلل على صحة المقدمة المنطقية المتعلقة بوجود الإغواء، والرعب، والصراع في المجتمع الأكثر تعقيدا، ولكن مع حذف مركزية الغياب، واستبدالها بتحولات الشخصية، وطرائق إدراكها.
يقوم النص – إذا – على سيميولوجيا المرئي، والمزج بين البيان الحسي المتعلق بالتشكل الفينومينولوجي / الظاهراتي للصورة في وعي الشخصيات، وفي وعي المشاهد؛ فالنداهتان هما شخصيتان فاعلتان، ومرئيتان من خلال الوعي، لا الواقع؛ ومن ثم فالفضاء المسرحي يجمع بين الواقعي، والتجريدي الدينامي، والبيان الحسي الظاهراتي المدرك بواسطة الوعي، لا الحواس وحدها.
ويجمع الناقد الفرنسي جاك فونتاني – في كتابه سيمياء المرئي – بين اتصالية الصور في عملية الإدراك الحسي، وتشكيل المعنى؛ إذ يرى أن العين قد تصبح بديلا عن جسد خيالي، يجوب الحقل المرئي، ويتجسد في زمكانية تصويرية، يرتبط فيها الجزئي بالكلي في اللحظة التي تنشط فيها ذات الإدراك الحسي، وتقوم الصور بتشكيل المعنى. (راجع، جاك فونتاني، سيمياء المرئي، ترجمة: د. علي أسعد، دار الحوار بسورية، ط1، 2003).
يقوم خطاب جاك فونتاني السيميائي – إذا – على المزج بين فاعية الإدراك الحسي، وتآلف الصور، وإنتاجية الصور للمعنى في ذلك السياق من المستويات المتباينة للمرئي؛ وهو ما نلاحظه في مسرحية نسرين نور التي جمعت بين مستوى رؤية شخصيات الريف، والمدينة، ثم الإلقاء بالفتاة مباشرة في السياق المدني العصري الذي ينطوي على الصراعات، والصور التجريدية، والانتشار الآلي العبثي، وإمكانية تشكيل الذات، ثم الانتقال إلى ظهور البيان الحسي / النداهة بين كل من الإدراك الحسي للفتاة، أو الشاب، والإدراك الحسي للمشاهد الذي يعاين فاعلية النداهة في الفضاء المسرحي، وتجسدها التعبيري بين المرئي الحسي، والمرئي في الخبرة الإدراكية ضمن الوعي؛ أو ما يطلق عليه جاك فونتاني ذات الإدراك الحسي التي تنشط حين تظهر صورة النداهة، أو في مشهد الصراع بين النداهتين، وتحولات الصراع إلى دينامية لونية تعبيرية في الفيديو، أو حين تنتشر صورة الأفندي في الفضاء؛ لتوحي بالتكرار، والوفرة التي تسعى لتجاوز هوية الفتاة، بينما تحاول الفتاة تشكيل هويتها فيما وراء ذلك الصراع الذي يقوم على صورة النداهة الطيفية التجريبية، وتشبيهات الآخر الآلية المكررة.
وأرى أن مسرحية النداهة لنسرين نور قد جمعت بين جماليات الحداثة، وما بعد الحداثة، وتجدد نماذج اللاوعي الجمعي في آن؛ فعلامات تشكيل الذات فيما وراء الغياب المؤجل تؤكد النزعة الفردية الحداثية؛ أما انقسام النداهتين، وصراعهما المعقد؛ فيوحي بالتجاوز ما بعد الحداثي للبنية، والانحياز للتشبيهات؛ فضلا عن تفكيك العرض لمدلول الغياب، ومزجه بين انفعالات التآلف، والجذب، والرعب في آن؛ وتتكرر – في العرض – أغنية النداهة التي تمتزج بديكور فولكلوري، يوحي بالحياة الأخرى لشخصيات الأسطورة، وتجددها في الواقع، وبداخل الشخصيات العصرية؛ وكأن المدينة تكرر علامات الفولكلور، دون نتائج مركزية حاسمة؛ فهي تنتج تحولات سيميائية إدراكية، وتشبيهات في وعي، ولاوعي المشاهد.
ويمكننا تحليل بعض العلامات الرئيسية في العمل بصورة سيميائية – دلالية وفق مربع غريماس السيميائي / الدلالي الذي قام جاك فونتاني بتطبيقه على الفنون التصويرية الأخرى المختلفة عن النص القصصي عبر علاقت التعارض، والاختلاف بين العلامات، واحتمالاتها الدلالية.
وتضعنا مسرحية نسرين نور – في البداية – أمام بساطة القرية؛ ومن ثم يمكننا قراءة بساطة القرية – وفق المربع السيميائي – من خلال تعارضها مع تعقيد المدينة؛ وتتجلى بساطة القرية في أغنية النداهة التي تؤكد ثنائية الإغواء، والغياب؛ أما تعقيد المدينة فيتجلى في إغواء المياه، والازدحام، والخطوط والدوائر التجريدية، وانتشار صور الآخر المضادة لكينونة الفتاة؛ أما محور الاختلاف الأول- والذي يقع أسفل المربع – فيمثل اللاتعقيد؛ وينطوي على تحقق سيتناريو الغياب كاحتمال قائم في العرض، وإن كان هامشيا؛ أما محور الاختلاف الثاني لا - بساطة؛ فيقوم على الإعلاء من صور الإدراك الحسي البديلة عن المدينة والممثلة لها في آن في مشهد صراع النداهتين، وتجليهما الطيفي في الفضاء المجازي الكثيف.
أما المستوى السيميائي – الدلالي الثاني فيقوم على التعارض بين علامات الإدراك الحسي في الفضاء، وعلامات الواقع؛ وكل منهما يقع ضمن درجات المرئي التي تبدأ من المدرك بالحواس إلى المدرك من خلال الوعي؛ فعلامات الإدراك الحسي تنطوي على طيفية التكوين؛ مثل طيفية النداهتين، وصور الأفندي؛ أما علامات الواقع فتتمثل في الفلاح، والشاب، والفتاة؛ ونعاين في محور الاختلاف الأول لا – واقع رقصة النداهة الثانية الطيفية دون وجود كيانات مرجعية واقعية أو صراعات؛ أما مستوى الاختلاف الثاني لا – مدرك حسي فيتمثل في الظهور الواقعي الأخير للفلاح عقب تطوره المضاد؛ وقد عاين الاحتمالات المتعلقة ببنية المغامرة.
ويرتكز المستوى السيميائي – الدلالي الثالث في العرض على التعارض بين بنيتي الغياب، والمغامرة؛ ويتمثل الغياب في مرجعية نموذج النداهة القديم في صوت المجموع، والأغنية الشعبية التي تبحث عن كينونة الولد المستلبة بواسطة كائن النداهة الأسطوري؛ وتقوم المغامرة على سلسلة من الخبرات الدرامية الواقعية، والتعبيرية التي تؤدي إلى مزيد من التحولات الإدراكية، والأدائية في مستوى الوجود، ومستوى الحدث الدرامي الواقعي المحتمل، وغير المعروف مسبقا؛ ويقوم محور الاختلاف الأول لا – مغامرة على احتمالية سقوط الفتاة والشاب في شباك النداهة؛ ومن ثم استنزاف بنية المغامرة قبل أن تكتمل؛ أما محور الاختلاف الثاني لا – غياب فيرتكز على استمرارية التطور الإدراكي – الوجودي – الواقعي للفلاح والفتاة والشاب في سياق تحقيق الهوية الفردية، أو في سياق تحقيق موقف وسطي يتجاوز كلا من الاستلاب، والفعل المضاد في آن.
أما المستوى السيميائي – الدلالي الرابع فيتعلق بالتعارض البنائي بين الرقصة، والصراع؛ إذ يشير فعل الرقص إلى بهجة ذاتية، أو نشوة روحية أنثوية، بينما يشير الصراع بين النداهة والفتاة، أو بين النداهة والشاب، أو بين النداهتين إلى الصخب، والعنف، والرعب؛ ولهذا نعاين في مستوى الاختلاف الأول لا – صراع اكتمال النشوة الروحية عبر المحاكاة الساهرة للصراع؛ فالصراع إذا كان بين الصور، والتشبيهات، والأطياف، سوف يتجاوز ثنائية المنتصر، والمهزوم؛ أما مستوى الاختلاف الثاني لا – رقص فيشير إلى التوسع في بناء سياق واقعي يقوم على الصراع فيما وراء الكثافة المجازية لصور العرض؛ ونعاين هذا المستوي في خطاب الأنثى في النهاية؛ والذي يشير إلى التحولات الواقعية التي بنيت على الصراع، وتدافع القوى الثقافية المعقدة التي أنتجت الصورة الجديدة لكل من الفتاة، والفلاح.
أما المستوى السيميائي – الدلالي الخامس فيقوم على التعارض البنائي بين الصراع مع الآخر / الآخرين، والصراع الذاتي الداخلي؛ ويتمثل الصراع الأول في مقاومة الفتاة للمجموع المكرر، ولصورة النداهة الأصلية، وشباكها، وصراع الشاب مع شباك النداهة، ومقاومة الفلاح للراقص، والمجموع؛ أما بنية الصراع الداخلي / الذاتي فتمثلت في صراع النداهتين إذا اعتبرنا أنهما تنبعان من رمز واحد، ومن وظيفة درامية واحدة؛ وفي صراع الفلاح مع ذاته؛ ومن ثم نعاين في محور الاختلاف الأول لا – صراع ذاتي الإعلاء من صراع المجموع مع الذات في سياق تشكيل الهوية؛ ومن ثم تصير الصور المجازية أكثر قربا من المستوى الإدراكي الحسي؛ أما محور الاختلاف الثاني لا – صراع ضد الآخر / الآخرين فيتمثل في إشكالية الصراعات الذاتية الخفية التي يطرحها خطاب نسرين نور حول مرحلة ما قبل المغامرة؛ فصورة النداهة في اللاوعي الجمعي توحي بصراع داخلي يسبق فعل المغامرة الدرامي؛ ويستمر داخل العرض، ويتخذ أحيانا شكل الصراع الوجودي بالنسبة للشاب، والفتاة؛ وكأن الحياة العصرية بحد ذاتها مغامرة وجودية تستدعي نوعا من الصراع الداخلي، يقوم على اتخاذ قرار بمواجهة النداهة، أو الانسحاب، أو الاستلاب؛ فالنداهة، أو الغولة تكمن في مغامرة الانتقال من القرية إلى المدينة، وفي مغامرة مواجهة النداهة داخل المدينة نفسها في سلسلة الأفعال التي تسعى لتحقيق الكينونة، وفي المستوى الإدراكي الأخير الذي يمكن النظر فيه إلى الحياة نفسها كمغامرة وجودية تنطوي على حضور صورة النداهة، وفاعليتها الخفية التي تؤسس لصراع ذاتي – داخلي مضاعف، يؤدي إلى مجال مفتوح من الاختيارات، والمصائر، والرؤى الإدراكية المحتملة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة


.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟




.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا