الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فشافيش*

جعفر المظفر

2021 / 9 / 1
الفساد الإداري والمالي


وسأقول أن الحديث عن ثقافة الأسيجة يبقى مهما بقدر إرتباطه بطبيعة المتغير في الخطاب المجتمعي والسلطوي للدولة العراقية على مختلف أنظمتها, وفي عهد صدام فقد قُدر للأسيجة أن ترتفع تديجيا للتخفيف من غارات اللصوص الذين غالبا ما كانوا يعجزون عن الوصول السهل إلى خزائن الدولة فيستسهلون الوصول إلى خزائن الناس.
وفي هذا الإتجاه أعاود حكايتي وسأخبركم إنني لم أقتنع في البداية بقصة إقتناء كلب حراسة الذي نصح به صاحبي لأن مسؤولية متابعته ستلقى على عاتقي, وأنا لم أكن في وضع يسمح لي بذلك, لا من ناحية الوقت ولا من ناحية المزاج, بالإضافة إلى صعوبات أخرى ومن ضمنها الخوف من الكلب على الجيران أو على زوار البيت خاصة من صديقات زوجتي, وحيث النساء كما هو معروف يمِلْن إلى القطط ولا يمِلْن إلى الكلاب من النوع الجرمان شبرد !
أما جاري في البناية حيث عيادتي وهو المحامي وضاح الشيخ الذي كان في فترة مديرا للحاكمية وهي مقر تحقيق لجهاز المخابرات العراقية في منطقة ال52فقد نصحني بكهربة القفص الحديدي, وسأعود للحديث عن ضاح الشيخ في وقت آخر وكلما سأذكره عنه الآن أنه كان فُصِل من جهاز المخابرات وتفرغ لعمله كمحامي, وقد أخبرني أنه إرتاح وأراح بعد أن كهرب قفصه, لكني رأيت أن نصيحته سوف تؤدي إلى إنقراضنا قبل أن ينقرض اللصوص فمن سيضمن لي أن أطفالي لن يكونوا ضحايا للكهربة, ثم أن ضمان وجود التغذية الكهربائية لم يعد سهلا وبإمكان اللصوص أن يحفظوا جيدا مواعيد القطع الكهربائي على إختلاف المناطق.
المهم أن الذي حذرني منه الصديق قد حدث فلقد عاد اللصوص إلى سرقة داري بعد أن إستعملوا تكنيك الإسفنج المضغوط ورفع قطعة التسليح الحديدي لأحد النوافذ برافعة السيارة وبالحجم الذي يكفي لإخراج الغنائم.
في الغزالية حيث كنت أعيش حدثتني سيدة صديقة كانت تسكن على مقربة من داري أنها وبعد أن تعرضت إلى غزوة لصوصية من النوع الثقيل بعد أن أفاقت من النوم هي وزوجها وأولادها لتجد اللصوص يقفون على مقربة من رؤوسهم شاهرين أسلحتهم طلبا لما خف وزنه وغلا ثمنه, أخبرتني أنها قررت, وسيرا على المثل الذي يقول يا روح ما بعدك روح, وألف جبان ولا الله يرحمك, أن لا تتشاطر على اللصوص وأن تضع ما تبقى لها من الذهب والدولار في مكان بارز لكي لا تتعرض عائلتها إلى خطر الإفناء في أثناء البحث عن الغنائم وذلك كما حصل مع عائلتين على الأقل إلى الجوار منا ومنهم.
وفي الأخير فأنا كنت إقتنعتُ بحكاية الكلب لأنه على الأقل سيكون عنصر تنبيه إن لم يكن عنصر فَتْك, وقد تفضل صديقي بجلبه من مدرسة الشرطة في بعقوبة وسلمه لي وهو لم يزل في شهره الأول, وقد إكتشفت أن الكلب بحاجة إلى عناية لم أكن قادرا على توفيرها دون أن أجهد نفسي كثيرا.
ولما كانت ثقافة الكلاب في مجتمعنا العراقي ما زالت في بدايتها فإن أحدا من التجار لم يتكفل بإستيراد طعام الكلاب المعلب خاصة وهو يدري أن رفض مشروعه لو تقدم به سترافقه سخرية أكيدة, ففي دولة صارت بالكاد توفر وجبة الطعام لمواطنيها يصير من المضحك حقا أن يتجرأ أحدهم بالتفكير بمشروع كهذا, ولهذا بات على أن أطعم الكلب بنفسي وصار الأمر يقتضي مني أن أداوم يوميا وبعد عودتي المسائية من العيادة إلى زيارة أحد القصابين في الشارع الرئيس لمنطقة الغزالية لشراء وجبة الفشافيش التي صارت وجبة الكلب اليومية السهلة على الطبخ. ورغم أن الكلب كان سعيدا رغم أنفه بهذه الوجبة اليومية إلا إنني لم أكن كذلك لأن رائحة البيت صارت كلها فشافيش في فشافيش.
رغم كل ذلك فقد ملأ الكلب بيتنا بالمتعة وسوف أكذب لو قلت إنني لم أتعلق به, والكلب نفسه فنان في كسب محبة أهل الدار نتيجة حركاته الودية وإظهاره لعواطفه باللعب أو المسكنة اللطيفة. وفي النهاية ورغم تعب تربيته ومتابعة حالته الصحية وضمان نظافة جسمه من الأمراض وجلده من البراغيث, ورغم رائحة الفشافيش التي كانت تصل إلى سابع جار والتي صارت عنوانا لمن يسأل عنا في المنطقة فيقال له : إتبع رائحة الفشافيش ونباح كلب بوليسي شرس فإنك ستصل إلى قصدك أو حتفك ! ورغم أن الكلب قد ساهم في البداية بحماية الدار لكنه صار أيضا سببا بإنفضاض أصدقاء المنطقة من حولنا فمن الذي كان يجازف بزيارة دار فيها كلب بوليسي مفترس, هذا إذا ما وضعنا جانبا رائحة الفشافيش التي كان ممكنا أن تكون سببا لزيارتنا من قبل لجان التفتيش الدولية بإعتبارها نوعا من الأسلحة الكيمياوية التي يتم تصنيعها في البيوت بالتعاقد مع هيئة التصنيع العسكري.
وبسبب ذلك فقد قررت حبس الكلب في سطح الدار بداية كل نهار لآتي به إلى حديقة الدار ليلا حتى أضمن تشغيله على الأقل كجرس إنذار إن لم يكن كعنصر قتال. وربما راح الكلب ينبح في كل أوقات حبسه سطحا وذلك إحتجاجا على إضطهاده بهذه الطريقة وكأنه يصيح أما أنا في الدار وأما أصدقائكم.
في الأشهر الأولى وبعد أن كبر كلبي الحباب الجميل المفترس بدأت أحس بالإرتياح معتقدا أنني وفرت جميع سبل الحماية من السياج العالي وأسلاكه الشائكة وصولا إلى الكلب ورائح الفشافيش المسلوق, وحمدت الله لأن لجان التفتيش على الأسلحة الفتاكة لم تعتقلني شكاً منها بوجود أسلحة كيمياوية عمادها رائحة الفشافيش.
لكن الفرحة لم تدم ففي ذات يوم لم يعد نباح الكلب كعادته قويا مخيفا مرعبا. لقد صار بالكاد مسموعا ومصحوبا ببحة وحشرجة, ثم شيئا فشيئا راح يعاني من الهزال حتى بانت سلسلة ظهره, وصار ينظر إلى أهل الدار نظرة البائس المسكين. وحينما إصحبته إلى جارتي الطبيبة البيطرية أخبرتني أن أحدا قام بتسميمه, وقد صار صعبا المراهنة على إمكانية شفائه, ثم عرضت علي أن تنقل الكلب إلى جهة بيطرية تتكفل له بموتٍ رحيم ثم تقوم بدفنه, ولذلك طلبت مني أن أودعه الوداع الأخير.
مات كلبي إذن مسموما, وبعده لم تتأخر السرقة الثالثة لداري كثيرا حتى شعرت أن هناك صلة بين السرقة وجريمة تسميم الكلب. كانت زوجتي قد رحلت لفترة حيث تقيم إبنتنا الطبيبة وخرجت أنا وأولادي في مهمة قررنا أن نعود بعدها سريعا إلى الدار لكي لا يكون عرضة للسرقة, غير أنا إكتشفنا أن الدار قد أنتهكت مرة أخرى بعد موت الكلب بأيام فعشنا في حالة غم شديد.
بعد فترة ليست بالطويلة تعرفت على من سمم الكلب ومن سرق داري. أحد شياب المنطقة زارني في عيادتي لأول مرة فظننت أنه جاء بنية معالجة أسنانه. ما لاحظته عليه أنه كان يكثر التلفت وكأنما يخشى من إنفضاح أمره, ولم ينتظر كالعادة في غرفة الإستقبال بإنتظار أن يأتي دوره بل تسلل سريعا إلى غرفة العلاج وأغلق الباب عليه, ثم قال بصوت خافت : عمو الدكتور لا أريد لأحد أن يكتشف زيارتي لك وأرجو منك أن تعدني بالإحتفاظ بما سأحكية لك سراً بيننا. فلما وعدته بذلك راح يتحدث لي بقصة أراد لها أن تكون قصيرة وسريعة بما يكفل له مغادرة العيادة بأقصى سرعة ضمانا في السرية : أنتم ناس طيبون وقد تعودتم أن تساعدوا جيرانكم بكل ما تقدرون عليه, ورغم رائحة الفشافيش التي كانت تزعجنا إلا أن محبة أهل المنطقة لكم بقيت غير مفشفشة.
قلت في نفسي إذا خليت قُلِبت والحمد لله أن الحصار لم يقضِ على أخلاق العراقيين جميعا فلقد ظل البعض محافظا على أصله وأصالته. قال لي الشاب إبن أحد الجيران المحب لي رغم أنف الفشافيش أن إبن جيراننا الجدد القادمين من خارج بغداد هو الذي قام بتسميم الكلب وهو الذي قام بسرقة الدار.
إذن ليس أهل مدينة الثورة من قاموا لوحدهم بتغيير طباع بغداد. الواقع أن دَوْرَهم كان مؤثرا على عدة مستويات, لكن مسؤولية السرقة يجب أن يتم الوقوف أمامها بكل جدية وموضوعية وأيضا بأخلاق بعيدة عن العنصرية أو الطائفية. فالسرقة لم تكن إتسعت إلا بعد سقوط النماذج الآتية بشكل أساس من (العوجة) لحماية إبنهم البار صدام حسين الذي لم يكن يبخل عليهم بالغنائم الباذخة, وقد لوحظ أن عدد لا يستهان به من السرقات قد تم على يد ناس ميسورين, بعضهم كانوا من أجهزة الدولة وخاصة الأمنية. وهؤلاء كانوا تدربوا على القتل بدم بارد نتيجة الحروب أو لطول عملهم في دوائر الأمن.
الدار التي لا تبعد عن داري أكثر من مائة متر, والمفصولة عني ببناية جامع (سأروي قصته في قسم قادم من سياج بيتي). هذه الدار تم قتل جميع أصحابها, ,الأب والأم خنقا, أما بناتهم الثلاث فقد شُنقن بحبال على المراوح السقفية للغرف. بعيدا قليلا عن بيتي وقريبا من جامع الحمزة تم قتل عائلة بكاملها, ورحنا نسمع بقصص متشابهة في كل بغداد.
الفقير الجائع إذا سرق! فهو يسرق على قدر لقمة الخبز, أما هؤلاء الذين تعودوا على المتعة والبحبوبحة والتي قلَّ في يدهم الدولار فكانوا يبحثون عنه وعن الأصفر اللماع في بيوت الناس. حرامي بيتي الأول كان إبن شيخ قبيلة ميسور, وكانت له دوافع متفرقة للسرقة لم يكن بينها البحث عن رغيف خبز, ولم أتعرف على حرامي بيتي الثاني لكن الثالث عرَّفني عليه جاري الشاب الذي زارني في عيادتي: أتعرف يا عمي ذلك الشاب الذي يعيش على جواركم إلى اليمين والقادم من خارج بغداد هو وأهله حديثا, إنه هو الذي قام بتسميم الكلب وهو الذي سرق داركم .
وفيما بعد حينما إنتقلت الراية من أبو عدي إلى أبو عمار " الحكيم وليس عرفات") فقد إنتشرت اللصوصية, وإنما كان الفرق هو في طريقة التنفيذ. مع نظام صدام كانت السرقات تتم عن طريق سرقة المال من قاصات البيوت, أما في زمن ما بعد الإحتلال فقد صارت السرقة تتم من خلال الإستيلاء على قاصات الدولة.
قبل مغادرته العيادة أفشى الجار سر السرقة التي ظهر أن وراءها قصة حب أكثر من قصة عوز, فالشاب إلى اليمين كان قد أحب إبنة الجار إلى اليسار, وهي أيضا كانت قد تعلقت به, ولا عجب في ذلك ولا مانع إلا إذا كان ذلك قد تم على حساب الكلب المسكين. وقد ظهر أنهما كانا يلتقيان على سطح دار الحبيبة بعد أن يتسلق روميو السياج الواطئ الفاصل بين داري وصولا إلى السياج الآخر, ولما كنت قد أبديت إهتماما ببناء وتسليح السياج الأرضي فقد أغفلت سياجيْ السطح اللذان يفصلان داري عن دارَيْ الجيران لأني لم أتصور مطلقا أن الحرامي سيكون هو إبنهم وأن العشق هو الذي سيقوده إلى السرقة, وإن كلبي المسكين سيكون هو الضحية, فبعد أن أتم العاشق زيارته اليومية لحبيبته وتيقن من فراغ الدار من أهلها فقد تمكن بطريقة ما من فتح باب السطح والولوج إلى داخل الدار وإنجاز السرقة بكفاءة عالية ثم العودة إلى السطح والقفز على السياج الواطئ, ومن الطبيعي إنه لم يكن يتمكن على ذلك بحضور الكلب الذي كان سيفضحه عواءه فقام بتسميمه من خلال دس السم في قطعة لحم كان الكلب على إستعداد لإبتلاعها دفعة واحدة بعد أن تعبت معدته ونفسيته من أكلة الفشافيش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*القسم الثالث من (سياج بيتي)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - السيد جعفر ارجو تغيير عنوان مقالك
منير كريم ( 2021 / 9 / 1 - 15:29 )
تحية
هذه الكلمة كريهة جدا في العديد من الدول العربية
وفي العراق تعني اكلة
شكرا لك


2 - تغيير العنوان
جعفر المظفر ( 2021 / 9 / 1 - 18:03 )

لم أدرِ بذلك سيدي الكريم لأن الذي أدريه وتعودت عليه أن هذه هي إحدى الأكلات المفضلة عراقيا ومفردة الفشافيش تستعمل بشكل يومي ومعتاد في العراق فأرجو أن يغفر لي القارئ الكريم وتغفر لي أنت لبقاء العنوان على حاله.
في الثمانينات زرت أخي في بولونيا التي كان قد قضى سنوات وهو يدرس للحصول على شهادة عليا وحينما ركبنا باص المصلحة صار مكانه في الخلف من الباص فناديته على طريقتنا العراقية (أين أنت يا ... أخويا) فسمعته يصيح بصوت عالي أنا هنا, وأرجوك لا تكرر الكلمة مرة أخرى.
لقد ظهر أن كلمة أخونا تعني (ذَكَر) الرجل, فكانت فضيحة ضحك عليها أهل الباص جيمعا.
مطلوب الآن أن نغير كلمة (خويا) العراقية إلى مفردة أخرى لا علاقة لها بمعناها البولوني أو أن يستحدث البولونيون مرادفا آخر للكلمة.
لذلك أسجل إعتذاري أولا لكم مع شكري بطبيعة الحال على التنبيه.
وإني على ثقة بأن القارئ غير العراقي سوف يفهم القصد من الكلمة فيعفيني من كلمة الإعتذار ومن طلب تغيير العنوان.


3 - إعتذار لبولونيا أيضا
جعفر المظفر ( 2021 / 9 / 1 - 18:52 )
ثم لأسئلك يا عزيزي : ماذا سيتبقى من المقالة لو أني حذفت كلمة (فشافيش) منها لأن بوسعك أن تلاحظ بكل سهوله أنها تتكرر في الكثير من المواقع وحتى أن رائحة المقالة قد تكون بنكهة الفشافيش نفسها. عفوا فأنا هنا سأكتفي بكلمة الإعتذار لك أولا ولبقية الشعب العربي على مختلف الأقطار التي تستعمل الكلمة في غير معناها العراقي . ولن أنسى بطبيعة الحال الإعتذار للشعب .
البولوني أيضا لإستعماله كلمة تخدش الحياء مقابل كلمة (يا خويا) العراقية اللطيفة المعنى
والنغمة
محبتي وتقديري

اخر الافلام

.. قيادي بحماس: لن نقبل بهدنة لا تحقق هذا المطلب


.. انتهاء جولة المفاوضات في القاهرة السبت من دون تقدم




.. مظاهرة في جامعة تورنتو الكندية تطالب بوقف حرب غزة ودعما للطل


.. فيضانات مدمرة اجتاحت جنوبي البرازيل وخلفت عشرات القتلى




.. إدارة بايدن وإيران.. استمرار التساهل وتقديم التنازلات | #غرف