الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحرية التي لم تأتِ

طارق قديس

2021 / 9 / 2
الادب والفن


الأسعار في البلاد تزداد ارتفاعاً: البنزين، الخضار والفواكه، السكر، الطحين، تعرفة المكالمات الهاتفية، كشف الطبيب، وأشياء أخرى كثيرة. لم يثر الناس. لم يخرجوا إلى الشوارع، ولم يحرقوا الإطارات. ولم يرفعوا لافتات جريئة تنال من هيبة بعض المسؤولين. فيما الناس في الحقيقة تتوق للحرية، فقد سئم المواطنون من الخنوع. ولطالما تمنوا أن يفرغوا ما في قلوبهم من احتقان، وألا يعكر سكينتهم الخوف من المتنفذين.

رغيد كان واحداً ممن فكَّر بالنزول إلى الشارع، ممن تمنى أن تُرفع القيود عن الصحافة، كي تُبعث فيها نسمة الحياة، تلك التي لطالما قال عنها في الغرف المغلقة إنّها "جثة ترقد في غرفة الإنعاش".

كثيراً ما نبتت في رأسه الفكرة بأن يثور، لكن لقمة العيش لطالما وقفت حائلاً ما بينه وبين الثورة. لطالما تأمل في وقع حياته حينما تُنهى خدماته ويُلقى فريسة للإفلاس. وجد نفسه أشبه بفأر محبوسٍ في غرفة مُفرغة من الأوكسجين، والموت يقترب منه رويداً رويداً. لطالما شعر بأنّ الخوف من الرقيب والمجهول ثابتٌ في خارطته الجينية.

كثيراً ما راودته أفكار مجنونة كأن يتعرى في وسط المدينة، فتتقاطر عليه كاميرات القنوات الفضائية لتغطية الحدث الفريد، وينفث من خلالها أمانيه الدفينة على عدساتها، أو أن يقف على حافة برج مرتفع ويلوح بيده للمارة مدلِّلاً على أنه مُقدم على السقوط، أو أن يعترض بسيارته أحد الشوارع المكتظة في ساعة الذروة كعلامة احتجاج على تكميم الأفواه.

كثيراً ما راودته هذه الأفكار وغيرها، إلا أنه ما انفك يعود مستسلماً للانضواء في كنف انكساره المُزمن.

كثيراً ما كان يفرُّ من جحيم ضعفه إلى لهيب غريزته فيحاول إفراغ حمم ثورته في جسد زوجته الأملس فوق السرير، لكنه وفي كلّ مرة يعود خائباً كالفارس المهزوم. كان يرى – من زاوية معينة - في عُلوِّ كعبه على الفراش منفذاً له لإثبات قدرته على البوح، وبأنه ما زال لديه نافذة للحرية، ما زال في متناوله أن ينطلق كالحصان الجامح فوق مرتفعاته ويحرّر نفسه من حالة الكساد التي تملكته بالكامل.

إنَّ جسدها في الوقت الراهن بالنسبة له هو الوجبة الوحيدة المتوفرة لسدّ شهية الجوع في جوفه، الجوع إلى حرية التعبير كما رأى، وليس له سوى أن يقامر على تعاقب الفصول، وأن تحمل له أملاً بالتغيير، والتحرر من أمراض المجتمع: الواسطة، الفساد، الترهل، غياب الضمير، الانتهازية .. الخ، وهو يعرف في قرارة نفسه أن التغيير محض معجزة، وأن الفاسدين في البلاد أكثر عددًا من طيور السماء.

مع مرور الأيام بدأت بذور التذمر الراقدة تحت التراب بالبزوغ. بدأ الناس بالتلاسن على مواقع الإنترنت، والحديث عن ضرورة ترسيخ الديمقراطية. وعد المسؤولون باتخاذ التدابير اللازمة لتأمين الراحة للمواطنين. مرّ يوم. مرّ شهر. مرّت سنة. لم يحدث شيء. ظلّت الأمور على حالها، وعادت الجماهير إلى السكوت وهي تعلق الآمال على وعد هزيل لا يغني ولا يسمن.

في مطلع العام تمّ الإعلان في الصحف الرسمية أنّه سيتمّ تخصيص يوم في السنة عيداً للحرية. سيُسمح فيه بأن يقول الناس لبعضهم ما يشاؤون، أن ينتقد المعارضون السلطة دون أن يُزجوا في السجون، أن يُصارح الرجل زوجته بأنه لم يحبها يوماً دون أن يخشى طلبها للطلاق، أن تصارح المرأة زوجها بأن شخيره في الليل يَبعث الحياة في الموتى من القبور دون أن يؤدي هذا إلى النيل من رجولته، أن تطلب الجارة من جارتها الكفّ عن النميمة دون أن تتوقع حدوث قطيعة لعلاقتهما الدبلوماسية، أنْ يشارك الصبي أباه في سيجارة ساعة "العصرونية" دون أن تطرحه على الأرض صفعة مدوية لم تخطر له ببال، أن تكشف الفتاة أوراقها السرية أمام عائلتها وهي متأكدة أنّ الأمور لن تنتهي بإدراج اسمها في صفحة الوفيات.. وذلك دون أنْ تكون المحكمة فصلاً بين الأطراف. فلن يُسمح بمُقاضاة أحد، ولن يُسمع تذمر من أحد، وستكون المصارحة مكفولة من قبل القانون.

أسعد الخبر المواطنين كافة. وصار الكل ينتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر. صمت الجميع. لم يعترض أحد. دخلوا في سُبات الأمل المنشود. ومع اقتراب ذلك اليوم الموعود بدأ كلّ واحد يدوِّن على ورقة أو مفكرة أو في هاتفه الذكي الملاحظات التي سوف يتلوها على مسمع غريمه في يوم الحرية.

توثَّب رغيد لخَطِّ أفكاره الكامنة في رأسه. أخذت تتدفق ما بين السطور تدفق الينابيع ما بين صخور الجبال. ملأ المئات من الأوراق. علقها على الجدران في غرفته حتى يدمغها في عقله وعينيه، في صحوه ومنامه، ولا تنسيه أنّ هنالك يوماً قريباً ستدق فيه الحرية أبواب بيته.

أصبح حضور الحرية ظلاً يرافقه أينما ذهب، ومُكوِّناً رئيسياً لأحلامه، وفاتحاً للشهية يُشاركه مائدة الطعام. لقد أنقذه الحلم الوردي باستنشاق الأوكسجين الخالي من الفساد من موت سريري محتم لروحه، والسير بأسئلته الوجودية فوق خيط رفيع من الحرير. لقد غدا أكثر شباباً وخِفَّة، أكثر سعادة ودماثة، أكثر إقبالاً على الحياة التي تخففت من أسمالها الداكنة الممزقة وارتدت أحدث الأزياء في الفتارين. حتى إنّه أحسّ بأنّ الحصان منكس الرأس قد عاد إلى سابق جموحه، بل إنّه أمسى أكثر فتكاً على فراش الزوجية، فذاكرته المثقوبة لم تُعِنه على استذكار أي يومٍ على مدار خمسة عشر عاماً من الزواج كانت فيه فحولته أكثر اكتمالاً مما هي عليه الآن. إنّه لا يذكر أنّه تمكن من احتواء فريسته بين يديه بهذا الإحكام، والنيل من مفاتنها جذباً وتقبيلاً إلى حدّ الإنهاك. لقد أذهلته رجولته، وأذهله مفعول الأمل الذي دبَّ في أعماقه وجعله أكثر اندفاعاً وتفاعلاً مع الجمال.

ومع اقتراب عداد الزمن من اليوم المشهود حدث ما لم يكن في الحسبان، إنه فيروس صغير دبَّ الرعب في العالم، فيروس اسمه "كوفيد 19" ودرجنا على مناداته كورونا. بدأ في الشرق. لم يأبه به أحد، ثم بدأ في التفشي بين الدول شيئاً فشيئاً. هبت كلّ دولة للدفاع عن نفسها. منها من تبنت سياسة ثقافة القطيع فرأت أنّ العدوى ستكسب الشعب مناعة ضد المرض، ومنها من فضل سياسة الحظر الكلي وتطويق المرض قبل أن يتكاثر بين الناس.

أصبحت دعايات التحذير طقوساً يومية في نشرات الأخبار، انتهجتها الحكومات تباعاً لتوعية المواطنين. أصبح الكلّ يدور في مصفوفة الكورونا وأعراضها: السعال، الحمى، الصداع، ضيق التنفس، الفشل الكلوي، ووسائل الوقاية منها: لبس الكمامة، استخدام المعقّمات، غسل اليدين، عدم ملامسة الأسطح، وأشياء أخرى.

ساد لغط في البلاد، هل المرض هذا هو مجرد إنفلونزا أم لا؟ غدت الحيادية سيدة المواقف، خاصة وأنّه لم يعلن عن هذا المرض أنّه "جائحة" بعد.

في صباح يوم الحرية، تسمَّر رغيد أمام التفاز بانتظار إشهار العمل بعيد الحرية، والحماس يجذبه إلى شريط الأخبار. في غضون دقائق خرجت قامات البلاد على الملأ لتُعلن خبر إعلان الحجر الصحي في أرجاء القطر للمواطنين. على الكلّ أنْ يحاول التزام بيته، وألا يغادره إلا لشراء الاحتياجات الأساسية في أضيق الحدود بعد أنْ يلتزم بلبس الكمامة، والقفاز، وتعليمات السلامة العامة.

دخل الجميع في حالة من الفصام. كلّ شيء تغيّر. لم يعد السلام باليد عادة مأمونة. ولا اللقاءات بالأقارب والأصدقاء تحمل طابعاً حميماً. أصبح التلاقي بالأحضان أمراً مثيراً للريبة، ودمغ القُبَل على الخدَّين ضرباً من إلقاء النفس إلى التهلكة، وارتياد المتاجر أشبه بانتحار مؤكد.

أمسى الوسواس عند اللمس غريزة مستجدة في طبيعة البشر، وتعقيم الأكياس، والعلب، والخضروات عند دخولها البيوت روتيناً لا بدَّ منه.


أصبح التزام المنازل أمراً محتوماً، والتباعد الاجتماعي بين الأفراد مطلباً أمنيّاً للحدّ من انتشار هذا الفيروس الماكر. حتى الصلاة في دور العبادة لم تعد متاحة، وغدت الصلاة في البيوت هي النافذة الوحيدة إلى السماء كما صرَّح أحد علماء الدين في القناة الرسمية.

لم يعد هاجس الشعب أنْ يتكوم في السينما عند نهاية الأسبوع، أو التنفيس عن غلِّه بالأراجيل في أروقة المقاهي، ولا طموحه بأنْ يسافر إلى الأماكن السياحية الرخصية، وإنَّما غدا أكثر ما حُبِّب له من الأشياء هو سماع آخر الأخبار عن تطورات مكافحة الكورونا في البلاد، والسفر ما بين غرفة النوم والجلوس.

للمرة الأولى تحققت أمنية قديمة لطالما ردَّدها والد رغيد، أنْ ترى عيناه الشعب يقف في الطابور بانتظام كما الدول المتقدمة، وقد كان له ما أراد ولو أنه بأمر من القانون.

أمّا رغيد فقد حلّ الاكتئاب محلّ الفرح في قلبه، وقد بدا في الرمق الأخير من التشاؤم، لقد استبدّ به اليأس، وما عاد يُمني النفس بالبحث عن باب جديد من أبواب الحرية المغدورة في ظلّ استيطان الفيروس المستجد لكوكب الأرض.

لم يستطع أنْ يتأقلم مع واقعه الغريب، مع إقامته الجبرية في المنزل. لم يعد يحتمل ارتداء الكمامة كلّما خرج وعاد، فقد اكتفى في الماضي من تكميم الأفواه.
لم يعد يستسيغ استقبال زوجته له بالمعقمات كلما رجع من الدُكّان مُحمَّلاً بالأكياس، أو تحاشيها الاقتراب منه في الفراش بدعوى الحيطة والحذر.

إنّه لم يقوَ على تجاوز ذلك اليوم العصيب، حينما شعر بأنَّ السخونة التي صاحبته على ثلاثة أيام بدأت بالغليان، والسعال الجاف لا ينقطع، بالإضافة إلى ذلك الصداع العنيف الذي لم يهدأ ولم يوقفه شريط كامل من الحبوب المسكنة. ذلك اليوم الذي حاول فيه أنْ يرمم شكيمته، ويروض حزنه بالانغماس في نحر زوجته، في شفتيها، في جبينها. حاول أنْ ينشب أنياب شبقه الجنسي المتهالك في نهديها، ويمتص منهما النشوة حتى تصل إلى منتهاها، لكن زوجته قابلته بالرفض بحجّة حرصها على "التباعد الاجتماعي"، ونأت عنه بعيداً إلى حافة السرير، وتركته في الطرف الآخر كخرقة بالية عفَّ عنها صاحبها بعد أنْ ملأتها الشقوق.

أحسّ حينها أنَّ الواقع يصفعه بعنف، والأرض تَدُور من حوله، وبأنَّ أُواراً يشتعل في صدره، وأنَّ سكّيناً ينغرس في قلبه، فزاد ذلك من الهمّ في نفسه.

ما عاد في الغرفة أوكسجين يُجاري نبضاته المتسارعة، هذا ما أحسَّه. تلمَّس ذلك في داخله. أحاط عنقه بيده والعرق يبرعم على جبينه بكثافة. خطا نحو الحمام رويداً رويداً. قلَّب وجهه في المرآة، أدرك أنّه مُقبلٌ على نفقٍ مظلم.

في صباح اليوم التالي، استقيظ باكراً مع بدء سريان الناس إلى التسوق. تفحص زوجته بحسرة. اقترب منها. شرع برسم قبلة على خدّها، إلا أنّ خاطراً طارئاً في باله منعه من تلك القبلة الباردة.

لبس الكمامة بتثاقل، وخرج مُدبراً هرعاً نحو المشفى الحكومي على مشارف الحي. فور وصوله شرح لموظف الطوارئ ما يريد. نسج طلبه الرعب على ملامح الموظف الذي رفع السماعة والرعشة تتلبس يده، واستدعى الطبيب المختص الذي أتى مفزوعاً ليصطحبه إلى غرفة الفحص.
لم تمض خمس ساعات على أخذ المسحة من حلقه، حتى سارع الطبيب بإبلاغه أنَّ النتيجة أتت إيجابية ليُثَبِّت مخاوفه بالدليل القاطع. لقد نال الوباء منهُ. إنه مُصابٌ بذلك الفيروس الذي لم تفلح الشبابيك المغلقة، وأبواب الأمان، والعبوات المليئة بالمعقمات، ولا الواقيات، ولا القفازات، في منعه من التغلغل بين خلاياه.

تقرر عزله في غرفة للحجر الصحي. وجد نفسه أسير سرير طبي، وجهاز التنفس، وخدر يَسْري في يده من وخز الإبر وتدفق الأدوية فيها. هاجمته رؤيا مشوشة المعالم. رأى فيها نفسه وقد صعد إلى سطح مبنى مرتفع . فتح الباب ومضى إلى البقعة الفارغة من صهاريج المياه. بتوازن وقف على حافة السور. نظر إلى الشوارع الخالية من المارة في عتمة المساء وسكونه. أشرع رئتيه للهواء الطلق بعد أن أخذ شهيقاً طويلاً وقد أغمض عينيه. مدّ ذراعيه على طولهما. اتسع فمه عن ابتسامة راضية. أحسّ خلالها أنّه طائر تحرر من القفص، وأطلق جناحيه في السماء للطيران. لم ينتهِ من شعوره بالحرية حتى أختنق في أنفاسه، وانتابته شَرْقة حادة لم يتمالك معها توازنه، فهوى بجسده ملوِّحاً بالهواء، فيما عقله ما يزال يحلق بأحلامه في فضاء الحرية.

كلّ هذا مرّ أمام عينيه في ثوان، رفع معها يده إلى الأعلى وكأنه يريد أن يمسك بتلك الحرية التي لم تأتِ، تلك الحرية التي تضاءلت مساحتها في حياته حتى أصبح رهين المرض. سرى فوق خديه جدولان صغيران من الدموع، وقد مال برأسه إلى اليمين، مستسلماً لذبول عينيه، وشعوره بالخدر والنعاس.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. دياب في ندوة اليوم السابع :دوري في فيلم السرب من أكثر الشخص


.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض




.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب


.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع




.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة