الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكوفية الفلسطينية

مهند طلال الاخرس

2021 / 9 / 6
القضية الفلسطينية


من وشاح أبيض وأسود يرتدى عادة حول الرقبة أو مع العقال على الرأس، أصبحت الكوفية الفلسطينية المرقطة رمزا وطنيا فلسطينيا ذو مدلول نضالي واسع وممتد، هذا عداك عن صيرورته كأحد الصور البصرية والمعالم الاساسية في تأكيد حضور الهوية الوطنية الفلسطينية وترسيخ وجودها. واصبحت تقوم مقام العلم الفلسطيني ان غاب ولم يحضر، حتى انها اصبحت تنافس العلم على تلك الرمزية في كثير من الاحوال. وهذا بالضبط ما حصل بعد حظر العلم الفلسطيني من قبل الاحتلال الاسرائيلي بعد حرب 1967 واحتلاله لبقية فلسطين.

انتقلت الكوفية من كونها غطاء تقليدي للرأس اشتهر به العرب منذ قديم الزمان ومن ارث اصيل ولباس تقليدي الى ضرورة وطنية وتعبير حي عن ثقافة ونضال الشعب العربي الفلسطيني، وبحيث تجاوز استخدامها المنطقة العربية واكتسبت شعبية عالمية، واصبحت راية عالمية ترمز للتضامن مع الشعب الفلسطيني في نضاله ضد الاحتلال الاسرائيلي.

وهنا بالذات تجلت التحولات الرمزية للكوفية ثقافيا وإنسانيا على مر السنين؛ فمن استخدامات الكوفية النابعة من طبيعية الظروف التي تفرضها طبيعة البيئة الحاضنة من تقلبات الطقس والمناخ إلى ظروف وجودية أكثر تعقيدا يتطلبها طبيعة الصراع على ارض فلسطين، كل ذلك بهدف مواجهة ثقافة الطمس والتغييب التي يمارسها اصحاب الخرافة وسارقي التاريخ -الاحتلال الاسرائيلي- في مواجهة اصحاب الارض والحق من الفلسطينيين.

كل تلك المقدمة شكلت مجموعة من الاسباب والمسببات التي نجحت بتحويل الكوفية الفلسطينية من غطاء رأس تقليدي إلى رمز سياسي ووطني بامتياز؛ اذ تحول ارتداء الكوفية من محض غطاء للرأس منتشر في المناطق الريفية والبدوية في المشرق العربي إلى رمز للمقاومة السياسية وتعبيراً حياً عن الهوية النضالية، وهذا مرده في الاساس الى ثورة فلسطين (1936 - 1939) والتي لعب فيها الريف الفلسطيني دورا مهما، فقرر زعماء الثورة الفلسطينية لأسباب رمزية سياسية واجتماعية وميدانية توحيد لباس الرأس عند الفلسطينيين، فنادوا بلبس الكوفية والعقال لرجال فلسطين حتى يتعذر على سلطات الانتداب تمييز الثوار واعتقالهم.

ففي 28/8/1938 بدأت الصحف الفلسطينية مستندة الى قرار قيادة الثورة الفلسطينية بالتعميم على الجماهير بإعتمار الكوفية وخلع الطربوش بشكل نهائي حتى شاع النداء القائل: "حطة وعقال بخمسة قروش.. والنذل لابس طربوش!"

في تلك الفترة تنبه الفلسطينيون في ذروة الثورة الكبرى أن قوات الانتداب البريطاني تميز بين سكان المدن وبين سكان القرى؛ فكان البوليس البريطاني يقوم باعتقال لابسي الكوفية القادمين من قرى الريف الفلسطيني، وذلك لمعرفته بحقيقتهم الثورية وبأنهم مقاومين، فيما كان يتجنب لابسي الطربوش وهم من المدنيين.

جريدة الجامعة الإسلامية كتبت يومها في 9 آذار 1936: "استمرار التفتيش واختصاص لابسي الكوفية" حيث توضح كيف يهاجم الجند المقاهي ويفتش لابسي الكوفية".

وفي أواخر شهر آب من عام 1938 جاءت الخطوة الثورية التي ستغير المعادلة، حيث أصدر بعض القادة العسكريين من سكان القرى وعلى رأسهم الشهيد يوسف أبو درة بيانات وزعت في المدن الفلسطينية تأمر بنزع الطربوش واعتمار الكوفية والعقال بدلاً منها، لخلق حالة من المساواة الاجتماعية والثورية بين الفلسطينيين، وللتعمية والتمويه على قوات الانتداب البريطاني.

وردا على مجابهة ومواجهة قرارات الثورة رد بعض الحكام العسكريين البريطانيين ببيانات أخرى تأمر بمنع اعتمار الكوفية، لكن الغلبة كانت للثورة الفلسطينية وقرار قيادتها، والذي ضمن الرصاص فصول بقائها واستمرارها كهوية وطنية وسياسية نجح الشعب الفلسطيني باكتشاف مفرداتها من بين ثنايا تراثه وسطور تاريخه، فكان انطلاق تلك الرصاصات من تلك الرؤوس الفلسطينية الحامية المتلثمة بالكوفية ايذانا ببدء عصر فلسطيني جديد له صوره وطرائقه ومراحله المتعددة في النضال.

كسابقاتها من رموز الهوية الفلسطينية (الزيتون والبرتقال والتطريز وشارة النصر والامثال والحكايات الشعبية وسير البطولة والاعراس وطقوسها والاغاني وتعدد انواعها وطرق ادائها من السامر الى الزجل الى الدحية الى التراويد... بالاضافة الى رموز ومعالم اخرى كثيرة مثل ادوات الزراعة والفلاحة والبندقية والفدائي والخيمة والنكبة..) ومع كل هذا الكم الغني من التعدد والتزاحم لرموز الهوية الفلسطينية نجحت الكوفية بشق طريقها نحو ضمان بقائها كرمز خالد باقتدار؛ وقد ساعدها في ذلك ظروف ذاتية وموضوعية ساهمت باعطائها تلك السمة لا سيما بعد ان اعتمرها ياسر عرفات ونجح باضفاء لمسته السحرية عليها، واكتملت سحرية المشهد حين سار على نهجه بقية الفدائيون، ومن يومها اصبحت الكوفية علامة فارقة يتميزون بها، حتى انها اصبحت تعويذة خاصة لا تصلح إلا لهم، وكأنها لم تخلق اساسا إلا لاجلهم. من يومها تمكنت الكوفية من التواجد والبقاء على اكتاف الفدائيين كرفيق درب وشريك فكرة، وكصورة حية لابرز معالم الهوية الناهضة من رماد النكبة الى جمرة المقاومة، وهكذا انتهى عصر الطربوش في فلسطين، وصارت الكوفية رمزا للثورة الفلسطينية.

لم تكن الصحافة الفلسطينية بعيدة عن هذا التحول والمعترك الرمزي؛ وسرعان ما نجحت بالتقاط تلك الرمزية وتوثيق مراحل صعودها وتكونها وتحولها من لباس تقليدي الى رمز شديد اللمعان، ويحتوي بدلالاته ومضامينه كل اسباب البقاء؛ حيث جاء في جريدة الصراط بتاريخ 28 أغسطس 1938 خبر يشير الى تقارير الهاغاناه إلى أنه في منتصف شهر آب 1938 ألصقت في شوارع يافا إعلانات تطالب سكان المدينة باستبدال لباس الرأس التقليدي الطربوش بالكوفية والعقال الملبوسة في القرى. في الأسبوع الرابع من ذلك الشهر بدأت الفصائل الثورية تفرض طلبها بالقوة.

وورد في صحيفة "بلستاين بوست" الصادرة في 2 أيلول 1938 أن ظاهرة لبس العقال والحطة ونزع الطربوش انتشرت كضوء البرق في حيفا ويافا وصفد ونابلس والناصرة ولدى جميع السكان العرب، وأن أحد التجار في القدس ربح مائة جنيه فلسطيني في أسبوع واحد من بيع الحطات والعقلة..

الرواية الصهيونية حاولت ضرب هذه الظاهرة بالتأكيد على أن الأمر بنزع الطربوش ولبس الكوفية والعقال صدر ليس فقط بدافع حماية الثوار من السلطات، وإنما ينم عن وجود صراع طبقي بين أهل القرى وأهل المدن، أو بمثابة ثورة اجتماعية، ثورة الطبقات الدنيا، الفلاحين والفقراء، ضد سكان المدن المتعلمين الذين امتصوا خيراتهم أعوامًا عديدة.

والكوفية الفلسطينية بهذه الرمزية فائقة الدلالة والتعبير لم تكن منقطعة عن تاريخها، فعند محاولة تتبع تاريخها وصيرورة النشأة والتكوين يجد الباحث والمهتم نفسه غارقا في بحر من التاريخ والحكايا وهي ميزة غنية امتازت بها كل رموز الحكاية الفلسطينية، وهذا بذاته نابع من اصالة هذا الهوية وقدرتها على التكيف والبقاء رغم كل موجات الغزو والمحو والتغييب والتغريب.

وهذا ما يجده الباحث والمهتم عند استعراض بعض الروايات المتعلقة بظروف ولادة الكوفية الفلسطينية وتتبع مآلاتها، حيث تشير إحدى الروايات واكثرها منطقية إلى أنها ظهرت في القرن السابع، أثناء معركة بين القوات العربية والفارسية بالقرب من الكوفة في العراق ولذلك سميت بالكوفية. وقيل إن العرب استخدموا الحبال المصنوعة من وبر الإبل لتأمين أغطية رؤوسهم وللتعرف على رفاقهم في خضم المعركة. وبعد الانتصار، احتفظ العرب بغطاء الرأس ذلك كتذكير بانتصارهم على الفرس.

ورغم سيل المرويات التاريخية في سيرة الكوفية ومعانيها، إلا ان المرويات الفلسطينية الحديثة الدارجة لم تكن لتستثني نفسها من وضع بصمتها الخاصة على تفسير تلك المعاني والدلالات المستنبطة من وحي خطوط الكوفية وتموجاتها والتي تذهب الى القول بان التموجات المترابطة والتي تحيط بجوانب الكوفية تشبه ورق الزيتون المتصل والممتد، والذي يدل بدوره على الصمود والمثابرة والقوة والخير والقدرة على التواصل، بينما شبكة الصيد تمثل العلاقة بين البحار الفلسطيني والبحر. أما الطريق فيمثل ملتقى القوافل التجارية والثقافات المختلفة عبر العصور والتي امتازت بها فلسطين.

ومنذ انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في 1/1/1965 اضفت الثورة ومريدوها على تلك المعاني مدلولات جديدة ونجحوا باستنباط معانيهم واشتقاق مفرداتهم الخاصة ذات المضامين الثورية والتي جائت منسجمة مع نهجهم وتفكيرهم... اذ ذهبوا للقول بأن تلك المربعات المتقاطعة والمعقودة والمترابطة عند منتصفها بما يشبه القنبلة، تشير الى تلك الحدود والاسلاك الشائكة التي تحيط بفلسطين وتفصل بين حدود كل الوطن العربي الكبير، وان اجتيازها لا يمكن إلا عبر رشقها بقنبلة، وهي وحدها(القنبلة) التي ستنجح بفك خيوط تلك العقدة(المؤامرة) التي تجمع المربعات(خيوط المؤامرة) وتربط بينها.

واما الخطوط المتعرجة والمتموجة فهي تمثل بوابة فلسطين من البحر، وهي ذات دلالة موجزة تحمل مفهومين، احدهما يشير الى ارتباط موج البحر بالغدر والخيانة وما اكثر ما تعرضت له فلسطين في هذا الجانب، والثاني يشير الى ان ركوب موج البحر امر لا بد منه لمن اراد العودة الى فلسطين، كناية عن حجم الصعاب والمعيقات التي تعترض سبيل تحرير فلسطين.

واما الخطوط المستقيمة العريضة والرفيعة فهي تشير الى تعدد الدروب والافكار الذاهبة صوب فلسطين، إلا ان اقصرها ذلك الذي ينجح بقطع الاسلاك الشائكة او ينجح بركوب البحر، وفي مروية اخرى: ان طريق الحق والمتمثل بفلسطين الوطن والحلم واضح وجلي وبأنه واسع وممتد ومفتوح على آخر المدى لمن اراد واهتدى، فلا عذر لمن عرف طريق المقاومة ولم يكلف نفسه عناء السير فيه.

في فلسطين، كان اللون التقليدي للكوفية الأبيض أو الأسود هو اللون الاوحد في الغالب حالها حال بقية بلاد المشرق العربي، ولاحقا انتشرت الكوفيات ذات الالوان الابيض المرقط بالاسود ومن ثم الاحمر، ولاحقا وعلى مدى سنوات وعقود تبع الاسود المرقط كل الوان قوس قزح في معركة تستهدف الوعي والهوية والهوية المضادة؟!

كوفية كهذه بالغة الرمزية كثيفة المعنى عظيمة الدلالة، لم تكن لتمر رمزيتها علىى الانتداب البريطاني واعوانه مرور الكرام، فعبثا حاول الانتداب قمعها، بنزعها تارة وبتجريم لبسها تارة اخرى، وبخلق الوان مغايرة ومناكفة وذات اهداف مضادة في احوال اخرى، كل هذا بهدف كي الوعي الفلسطيني وشطب تاريخه ومحو ذاكرته ان امكن.

لكن مع انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة في 1/1/1965 وحرص الزعيم الفلسطيني الخالد ياسر عرفات على الظهور بها في كل المحافل والميادين، أصبحت الكوفية مع محصلة التجارب والمعارك والصراعات التي خاضتها، جزءا من الذاكرة البصرية المرتبطة بنضال الشعب الفلسطيني وزمنه الفدائي الجميل، ذلك الزمن الذي ارتدى فيه الفدائيون الكوفية وساروا بها في وضح النهار وتحت جناح الليل، وعبروا بها النهر، وقطعوا كل انواع الحدود، ونجحوا بازالة كل انواع الاسلاك الشائكة بايديهم. كانت الكوفية رفيقة ليلهم وانيس وحدتهم، كانت وسادتهم حين يهجم عليهم التعب او تلاحقهم العيون، كانت مرهمهم، ودليلهم، وحاميهم رؤوسهم، وساتر وجوههم عن اعدائهم وخصومهم وكارهيهم من زائري الليل عديمي الشرف منزوعي الضمير، كانت الكوفية مطبخهم وحاضنة زادهم ورصاصهم، كانت اشارة النصر على صدورهم ودرعهم الحامي، كانت الكوفية عصبة راسهم ومشط رصاصهم، كانت تجبر كل عثراتهم وتشفي كل كسورهم، وتحمي ظهورهم، وتعينهم على حمل اغراضهم وشتى انواع احتياجاتهم، كان فيها كل شيء، وكانت تصلح لكل شيء، كانت علمهم وكفنهم وملاذهم الاخير، كان الزمن حين ذاك شيئا مختلفا، لم يكن كمثله شيء؛ اه نسيت شيئا واحدا مهما لم اخبركم به؛ لم تكن الكوفية تحمل هذا الاسم في حينه، كان اسمها "حطة"....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حسين بن محفوظ.. يصف المشاهير بكلمة ويصرح عن من الأنجح بنظره


.. ديربي: سوليفان يزور السعودية اليوم لإجراء مباحثات مع ولي الع




.. اعتداءات جديدة على قوافل المساعدات الإنسانية المتجهة لغزة عب


.. كتائب القسام تعلن قتل عشرين جنديا إسرائيليا في عمليتين شرقي




.. شهداء ومفقودون بقصف منزل في مخيم بربرة وسط مدينة رفح