الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بعض جوانب دراسة التاريخ الاجتماعي (السيكولوجيا الاجتماعية التاريخية)

مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)

2021 / 9 / 7
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


كاتب المقال: آرون ياكوفليفيتش غورفيتش*

ترجمة مالك أبوعليا

(تستند هذه المقالة على ورقة طرحها المؤلف في قسم تاريخ القرون الوسطى في معهد التاريخ التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية، نيسان عام 1964).

ان السيكولوجيا الاجتماعية هو أحد التخصصات العلمية، الذي من شأن دراسة منهجه وموضوعه أن تُقدّم لنا، في رأينا، آفاقاً مُثمرة للغاية للبحث التاريخي. ان موضوع السيكولوجيا الاجتماعية مزدوج. في المقام الأول، تشمل مهامها دراسة تكيّف عقلية الفرد من خلال عضويته في مجتمع أو طبقة أو مجموعة اجتماعية. تهتم السيكولوجيا الاجتماعية بجوانب العقلية والسلوك العاطفي للانسان التي تتشكل نتيجة حياته ونشاطه في المجموعة. في المقام الثاني، تدرس السيكولوجيا الاجتماعية معايير سلوك الجماعات والمُجتمعات، وردود الفعل النفسية للجماهير. نحن نعلم أن السلوك العاطفي للمجموعة ليس مجرّد مجموع مشاعر الأفراد المُكونين لها. من ناحية أُخرى، فان عقل الفرد وتمظهراته في المجموعة ليست متماثلة للحياة الفكرية للفرد المعزول. دائماً ما تكون الحياة العقلية للفرد داخل المجموعة عرضةً للتغيير الى حدٍ ما تحت تأثير هذه الأخيرة. من ناحية أُخرى، توجد أشكال التفاعلات الذهنية التي تُميّز في المقام الأول أو حصراً الجماعات أو المجموعات أو الجمهور- على سبيل المثال، مثل البطولة الثورية الجماهيرية،ـ أو الصفات الرجعية، مثل الهستيريا القومية والتعصب.
في أي مجموعة بشرية، من أصغرها وأكثرها بدائيةً (دعونا نقول الأسرة مثلاً) الى أكبرها (الطبقة، الشعب، الأمة)، يشمل نظام التفاعلات الاجتماعية التشارك الفكري، والذي يُحدد بدرجة كبيرة العوامل النفسية الداخلية للمجموعة وتؤثر على درجة استقرارها وحيويتها وفعاليتها وطبيعة علاقاتها مع المجموعات الأُخرى.
ان النفسية الاجتماعية هي عامل مُهم في حياة المُجتمع. لن تكون العديد من الظواهر مفهومة ان لم تؤخذ النفسية الاجتماعية في الاعتبار. نحن نعلم أنه حتى لو توافرت جميع المُتطلبات الموضوعية والشروط الضرورية لانتصار ثورة، فانها لن تنجح ان لم يكن الشعب المُشارك في الثورة عازماً ويحوز الحماس الثوري. من ناحيةٍ أُخرى، يُمكن أن يؤدي اضعاف معنويات الثوار والتغير في مزاج الجماهير الى تدمير حركة ثورية كانت من قبل جاهزة بالكامل. وبطبيعة الحال، فان هذا الحماس بحد ذاته، هو، الى حدٍ كبير، مظهر ليس فقط للنفسية، ولكن قبل كل شيء، للآيديولوجيا. عادةً ما تنبع الشجاعة والتفاني لقضية الثورة من فهم أهداف التحرّك والأفكار التي تُلهمه. لكن الشعارات والنداءات التي تصوغ الأفكار المنتشرة بين الجماهير يجب أن تتطابق مع أرضية نفسية مواتية وتجد توسطاً نفسياً مُناسباً عند شرائح وطبقات مُعينة في المُجتمع. لذلك يسعى القادة الثوريون دائماً الى أخذ جميع العوامل التي تقود الى نجاح الانتفاضة أو الثورة بما في ذلك النفسية الاجتماعية ومزاج الجماهير والاستفادة من وضعية نشاطهم من أجل توجيهه نحو الاتجاه المناسب.
يتجلّى عامل النفسية الاجتماعية بشكلٍ أكثر وضوحاً في الحروب. ان الروح القتالية للجيش هي تشابك للعوامل الايديولوجية والاجتماعية-النفسية. لا تتحدد فقط من خلال الايديولوجيا التي يُقاتل الجيش تحت رايتها، ولكن أيضاً، بدرجةٍ كبيرة، من خلال الحالة المزاجية السائدة بين القوات في هذه اللحظة. عبّر تولستوي عن هذا بدقةٍ كبيرة في روايته (الحرب والسلام): "معنوية الجنود، أي زيادة الرغبة في القتال وفي التعرض للخطر أو نقصانها، التي يُمكن أن تجيش في صدور كل الجود الذين يُشكلون جيشاً، وذلك على نحوٍ مُستقل كل الاستقلال عن مسألة معرفة ما اذا كانوا يُقاتلون تحت امرة عباقرة على ثلاثة خطوط أو على خطين، وبالهراوات أو البنادق التي تطلق 30 طلقة في الدقيقة. ان الرجال الذين فيهم رغبة كبرى في القتال، يقيّمون أنفسهم دائماً من تلقاء أنفسهم في المراكز الأكثر قابلية للقتال"(1). هنا مرةً أُخرى نواجه مسألة درجة تناسب الحالة الأخلاقية والنفسية للجماهير، وروح ايديولوجيتها الاجتماعية. كان حب الوطن والوطنية الذين الهمتا الشعب الروسي في النضال ضد الغزو الأجنبي مُكون من مجموعة من العوامل الايديولوجية والاجتماعية-النفسية.
ان النفسية الاجتماعية للناس لها أهمية كبيرة أيضاً في وقت السلم. يكفي أن نتذكر ظواهر مثل تلك التي تنطوي على حماس الناس للعمل، مثل أيام السبت الشيوعية غير مدفوعة الأجر وحركة العمل في الخطة الخُمسية الأولى، وحركة ستاخانوف الثانية، وافتتاح الأرض البكر ومشاركة الشباب في مشاريع البناء في سيبيريا والشرق الأقصى، وحركة فِرَق العمل الشيوعي، ونحن نرى الى جانب العوامل الايديولوجية المفهومة تماماً عوامل اجتماعية-نفسية. تُصبح المُثُل العليا، بعد أن تدخل عالم المشاعر الانسانية، قوةً تُحفّز المزاج والحماس الموافق لها.
تتطلب مسألة العلاقة المتبادلة بين الايديولوجيا والنفسية الاجتماعية كجانبين من جوانب الحياة الفكرية للمجتمع، اهتماماً خاصاً. عند الحديث عن هذا باختصار، يجب التأكيد على أن هذين مجالين، او مستويين مُختلفين من الوعي الاجتماعي. يشمل المجال الايديولوجي كامل مجموعة الأفكار والآراء الاجتماعية المُنظمنة الى حدٍ ما. تعبّر الآيديولوجيا قبل كل شيء عن المصالح الطبقية الأساسية وهي مستوىً من الوعي الاجتماعي. لكن هذا لا يستنفد الوعي الاجتماعي على الاطلاق. انه (اي الوعي الاجتماعي) يشمل المستوى الثاني الأدنى من المستوى الايديولوجي، وهو المُستوى الاجتماعي-النفسي. يشمل مفهوم "النفسية الاجتماعية" ظواهر متنوعة وغير متجانسة، يُمكن تمييز مجموعتين رئيسيتين من بينها. أولاً، لدينا العادات الاجتماعية والعادات والتقاليد وتُشكّل معاً المجموعة الذهنية للمجموعة الاجتماعية. هذه المجموعة الأولى مُستقرة نسبياً ولا تتغير الا تدريجياً. ثانياً، ان لدى النفسية الاجتماعية جانباً أكثر تغيراً، وهو الجانب العاطفي حيث نجد المزاج الاجتماعي والمشاعر المُرتبطة بشكلٍ مُباشر بمصالح واحتياجات المجموعة الاجتماعية. لا يشمل المستوى الايديولوجي للنفسية الاجتماعية العوامل الواعية فقط، بل اللاواعية، على عكس مستوى الحياة الفكرية.
يجب أن نلاحظ، الى جانب الاختلافات في مُحتوى الايديولوجيا والنفسية الاجتماعية، من الضروري أيضاً التأكيد على ترابطها وتشابكها. تفترض الايديولوجيا، التي تنشأ على أساس ادراك المصالح والاحتياجات الاجتماعية، مشاعر وأمزجة مُحددة مرتبطة بهذه الاحتياجات الاجتماعية. انها ترتبط ليس فقط بعقول البشر بل ومشاعرهم كذلك، وتُمارس تأثير قوي على الجانب العاطفي من حياتهم. تحتوي النفسية الاجتماعية دائماً على عوامل ايديولوجية. يتبع تطورها الى حدٍ كبير بالأفكار التي تحياها الطبقات الاجتماعية. لكن في الوقت نفسه، فان العلاقة المُتبادلة بين الايديولوجيا والنفسية الاجتماعية معقدة ومتناقضة.
غالباً ما تظل العادات والتقاليد الاجتماعية مستقرة، بسبب طابعها المُحافظ الذي يُميزها، حتى عندما تتغير ايديولوجية المُجتمع أو الطبقة المعنية. ومن ناحية أُخرى، يُمكن للحالة المزاجية الاجتماعية أن تتغير بسرعة تبعاً لتسلسل الأحداث، دون تغيّر المستوى الايديولوجي الأعلى منه. وبالتالي فان الخط الذي يفصل بين مجالات الايديولوجيا والنفسية الاجتماعية هو خط غير ثابت، الى حدٍ كبير. ترتكز الثقافة الانسانية على كلا هذين الجانبين وتستمد محتواها منهما. ومع ذلك، فان تجاهل النفسية الاجتماعية، كما يحدث في البحث التاريخي في كثيرٍ من الأحيان هو أمر غير مُبرر. يجب أن لا يفشل المرء في أن يأخذ في الاعتبار الاختلاف النوعي بين مستويي الحياة الفكرية للمُجتمع المُرتبط بالعلاقة بين العفوية والوعي في تطور المُجتمع.
لا يُمكن للمرء أن يشك بأهمية دراسة علم النفس الاجتماعي الحديث. يُتابع العلماء السوفييت هذه الدراسة في السنوات الأخيرة(2)، والتي انقطعت في بداية الثلاثينيات، وعلى الرغم من أنه لم يمر وقت طويل على هذا الاستئناف، الا أنه يُمكننا بالفعل رؤية مجموعة من المسائل المطروحة للدراسة. ولكن، نادراً ما تمت دراسة أحد جوانب علم النفس الاجتماعي المُتعلق بجانبه التاريخي. لا شك في أن دراسة التطور الذهني للشعوب في العهود الماضية لا تقل أهميةً عن دراسة النفسية الاجتماعية للمُجتمع المعاصر. يجب أن يشمل التاريخ الاجتماعي، وهو العمود الفقري للبحث التاريخي- كلاً من الحياة المادية والفكرية. لا يعني المفهوم المادي للتاريخ على الاطلاق أنه يجب اختزال كل ثروة مُحتوى العملية التاريخية في تحليل التغيرات في عمليات الانتاج والنظام الاجتماعي-السياسي. لا يُمكن اختزال تاريخ الانسانية في مُجرّد تطور وسائل انتاج السلع المادية. يجب على جميع جوانب حياة الانسان والمُجتمع أن تدخل في نظاق اهتمام المؤرخين. من الضروري التغلّب على الرأي القائل بأن الحياة الفكرية للمُجتمع هي أمر ثانوي وشيء "يُزخرف" البنية الاجتماعية-الاقتصادية(4).
ان نظرنا الى الكتب المدرسة وكُتب التاريخ الشائعة (بما في ذلك Vsemirnaia istoriia) فسنجد أن المقالات أو الفصول المتعلقة بتاريخ الثقافة الفكرية تكون في أفضل الأحوال عبارة عن ملاحق للنص الأساسي، وليست مرتبطة بها عضوياً. وهذه الملاحق ليست موجودة في الكتب المدرسية عن التاريخ الحديث والمُعاصر. هذه أيضاً مُشكلة يواجهها تدريس التاريخ ودورات التاريخ المُتقدمة في مؤسسات التعليم العالي. تقوم مناهج التاريخ، وفي حالات غير قليلة، باستبعاد الفن والأدب وغيرهما من مظاهر الحياة الفكرية للمُجتمع من سيرورة تاريخ العالم.
ان العلاقة المُتبادلة بين مُختَلَف أشكال ومستويات الوعي الاجتماعي، وعناصر الوعي والعفوية، لا تبقى ثابتةً في مستويات مُختلفة من التطور التاريخي. يُمكن للمرء أن يتفق، في الشكل الأكثر عموميةً، مع الفكر القائلة بأن دور الايديولوجيا في الوعي الاجتماعي يزداد على مدار التطور التاريخي، وأن النفسية الاجتماعية، على الرغم من عدم تقلّص أهميتها في حياة المُجتمع تخضع بشكلٍ مُتزايدٍ للايديولوجيا(4).
أشار ماركس وانجلز ولينين مراراً وتكراراً، في تطويرهم للفهم المادي للتاريخ، الى أن هذه العملية لا تحدث بدون مُشاركة الكائنات الانسانية وأفكارهم ومشاعرهم وقناعاتهم. تحتوي كتابات مؤسسي الماركسية اللينينة على أمثلة عديدة على استخدام الوصف السيكولوجي لتحليل الواقع الاجتماعي. انطلاقاً من هذه الأمثلة، يجب على المؤرخين الماركسيين أن يدرسوا بشكلٍ نقدي تجربة وخبرات علماء الماضي البرجوازيين في تطوير علم النفس الاجتماعي التاريخي (ألكسيس دو توكفيل Alexis de Tocqueville، كارل لامبريخت Lamprecht Karl ، ماكس فيبر، فيرديناند تونيز، جورج زيميل، فيرنر سومبارت Werner Sombart، ليف كارسافين Karsavin Lev Platonovich، اولغا روجديستفينسكايا Olga Rozhdestvenskaya وغيرهم ممن كانوا مُهتمين بهذه المسائل)، حتى يتسنى،، بعد التخلص من جميع الطروحات المثالية والذاتية التي تكثر في أدبياتهم، ايجاد عناصرها العقلانية وتطويرها بشكلٍ ابداعي.
من الواضح أن علم النفس الاجتماعي الماركسي، باعتباره أحد جوانب البحث التاريخي، مبني على أُسس مُختلفة اختلافاً جوهرياً عن علم النفس الاجتماعي البرجوازي. يُظهر المؤرخون الماركسيون ويفسرون التفاعل المُعقد بين مُختلف جوانب حياة المُجتمع، دون فصل الجانب الفكري وخصوصاً النفسي، عن الجانب الاجتماعي، ودون اضفاء صفة الاطلاق عليه. ليس لدى المؤرخين الماركسيين أي شيء مُشترك مع ما يُسمى الاتجاه السيكولوجي في السوسيولوجيا البرجوازية، التي تسعى الى اختزال العملية التاريخية بأكملها في المشاعر والأمزجة البشرية. ليست "الغرائز المُظلمة" ولا العوامل "اللاواعية"، والتي يُحب السوسيولوجيون والمؤرخون البرجوازيون التحدث عنها في وقتنا الحاضر، هي الدافع الأساسي لنشاط الناس في التاريخ. يوضّح البحث في الحياة الاجتماعية-النفسية والايديولوجية للمُجتمع أنها مشروطة بالوجود المادي.
ان الدراسات التاريخية، باعتبارها مُتميزة عن السوسيولوجيا، لا تُعالج القوانين التي تعمل على مسار التاريخ، ولكن، في المقام الأول، تُعالج تمظهراتها العيانية التي تتوافق مع القوانين في مجتمع وفترة معينة. نظراً لأن فعل هذا مستحيل دون النظر الى الثراء الكامل لمحتوى العملية التاريخية، فان علم النفس الاجتماعي التاريخي يكتسب أهمية الوسيلة التي نوسع من خلالها معرفتنا بواقعٍ تاريخيٍ مُعطى. ان المؤرخ الذي يكشف عن المُحدد المادي لأفعال وسلوكات الفئات والطبقات الاجتماعية وانتاج تفسيراً لها وفقاً لمخطط "تفاقم الاستغلال (تملّك العبيد، الاقطاعية، الرأسمالية) يؤدي الى رد فعل الجماهير الكادحة (صراع طبقي أكثر حدة، هروب العبيد والفلاحين، تمردات شعبية، اضرابات، الخ)، هو مُذنب بأنه يُبسّط الحقائق، ويُفسرها بطريقة صحيحة، ولكن غير كافية. يُحاول الكثير من المؤرخين أن يكتفوا بتفسير الصراع الاجتماعي المُعطى من خلال الأسباب الاقتصادية وحدها دون محاولة الكشف عن العوامل الأُخرى التي قد لا تكون بحد ذاتها قد أدّت الى ظهور الحدث المُراد وصفه، لكنها أثّرت في طابعه، وسرّعت من وتيرة حدوثه. توضَع هذه العوامل عادةً في قائمة "المصادفات" و"المُحفزات المُباشرة"، كقائمة ليس لها علاقة بالأسباب العميقة للحدث أو الحركة.
يكتسب علم النفس الاجتماعي التاريخي، المنظور اليه من وجهة نظر السببية، أهميةً جديدةً بالنسبة لنا. لا يتعلق الأمر فقط بالعوامل الموضوعية، أي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والايديولوجية التي تُحدد الحدث التاريخي المعني، والعلاقة بينها. من الضروري توضيح الآلية التي تُساعد في جعل هذه العوامل الموضوعية قوةً دافعةً للبشر. ان السبب المادي، وفعله، المُعبّر عنه في أفعال البشر، مُترابطان، ولكن ليس ميكانيكياً وليس بشكلٍ مُباشر. ان مجموعة الظروف برمتها، التي يُشير اليها المؤرخ كمفهوم سبب حدث معين، لا تؤثر على الناس كمجرد حافز خارجي. الأفراد والجماهير ليست مجرد أجساد مادية ولا مواضيع سلبية تتفاعل تلقائياً مع حوافز خارجية. انهم شخوص الفعل التاريخي وذواته وفاعلوه. لذلك يجب على الباحث الذي يسعى الى فهم الديناميكيات الفعلية للعملية التاريخية أن يقوم، في كل حالة ملموسة، بدراسة كيف تنعكس الحياة الاجتماعية في عقول البشر مُتشكلةً عندهم في مفاهيم وتخيلات وعواطف، وكيف تُحدد هذه العوامل الخاضعة للتحول الذاتي، أفعال البشر، وكيف تُلهم أفراداً وجماعاتٍ اجتماعية وجماهير للانخراط في أحداث وأعمال مُعينة. بعبارةٍ أُخرى، توجد علاقة معقدة ومتناقضة بين الواقع الاجتماعي الذي يُسبب فعلاً تاريخياً، وهذا الفعل نفسه. تصبح الظروف الموضوعية سبب أفعال البشر من خلال عملية عبورها في عقولهم ومشاعرهم وتصبح موضوعاً لحياتهم الاجتماعية-النفسية. هذه بدورها تتشكل، من ناحية، في ظروف تاريخية ملموسة للوجود الاجتماعي، وهي نفسها، تكتسب، من ناحيةٍ أُخرى، قيمة عاملٍ ضروري لأفعال البشر الاجتماعية. من المستحيل، بدون دراسة علم النفس الاجتماعي التاريخي، فهم العملية التاريخية بعمقٍ وشمول، لأن هذه العملية لا تجري بعيداً عن البشر، بل من خلالهم. يجب على المؤرّخ أن يُفسّر الظاهرة التي يصفها. وبالتالي، حتى بدون اجراء دراسة خاصة للنفسية الاجتماعية في الفترة المُعطاة (اذا كانت هذه المهمة ليست من صلب متطلبات بحثه)، فان عليه أن يأخذها في الاعتبار ان كان يريد الكشف عن أسباب الظواهر التي يُحللها. نظراً لأن العملية التاريخية هي النتيجة الموضوعية لنشاط الأجيال التي تسعى الى تحقيق أهدافٍ مُعينة (بالرغم من اختلافها-اختلاف الأهداف- عن الرغبات التي تسعى اليها بشكلٍ شخصي)، فلا يُمكن للدراسة التاريخية أن تنأى بنفسها عن بحث الانسان كذات، وتحصيل المعارف حول نفسية حياة البشر وجماعاتهم وطبقات المجتمع. هذه هي المهمة الأولى لعلم النفس الاجتماعي التاريخي، والتي ترتبط بأكثر مشكلة منهجية للمعرفة التاريخية.
مسألة أُخرى في علم النفس الاجتماعي التاريخي تتعلق بالتحليل البنيوي للمجتمع. يفترض علم النفس الاجتماعي التاريخي وجود مجموعات من الناس يُشكلون حاملاً لمصفوفة ذهنية وعادات اجتماعية وحالات مزاجية ومشاعر. تنطوي دراسة علم النفس الاجتماعي دون ربطه بمجموعة اجتماعية مُعينة على خطر استبدال التحليل الاجتماعي بالسكلجة المُجرّدة والذاتية. هنا بالتحديد، يجب أن نبحث، في المقام الأول، عن الحد الفاصل بين الدراسات في السيكولوجيا الاجتماعية المُجراة من وجهة نظر الماركسية، وبحوث علماء السيكولوجيا الاجتماعية والسوسيولوجيين والمؤرخين البرجوازيين، الذين، يفصلون النفسية، وكذلك الحياة الفكرية بشكلٍ عام، بطريقةٍ أو بأُخرى، عن الحياة المادية للمجتمع ويرفضون أن يروا في الحياة الفكرية للبشر انعكاساً لوجودهم الاجتماعي، وهم، يتعاملون مع حشود غير متجانسة (مثلما كان الحال مع المدرسة السيكولوجية الفرنسية القديمة)، أو "المجموعات الصغيرة" والتي ليس لها أي أهمية حقيقية في البُنية الطبقية للمُجتمع (المدرسة الأمريكية)، أو "الروح الشعبية أو روح الشعب" المُجردة أو العقل الجمعي مثل (المدرسة الألمانية)، بدلاً من المجموعات الاجتماعية الحقيقية مثل الطبقات والفئات. يسعى المؤرخ الماركسي الى اجراء تحليل شامل للعلاقات الاجتماعية للعصر الذي يدرسه من أجل الكشف عن ديناميتها والكشف عن طابع وبُنية المجموعات الاجتماعية الموجودة بالفعل في المُجتمع قيد الدراسة. ان تلك المجموعة الاجتماعية ذات الأهمية المركزية، سواءاً بالنسبة للعملية التاريخية أو في التحليل العلمي، هي الطبقة. تكشف لنا دراسة التركيب الطبقي للمُجتمع وتكوين كل طبقة جوهر هذا المُجتمع. بالنسبة لأي عضوٍ في المُجتمع، فان العضوية في طبقة مُعينة، هي، في التحليل الأخير، العامل الذي يُحدد مجموع الأفكار التي يتوجه سلوكه وعقله من خلالها. بطبيعة الحال، لا تُغطي النفسية الطبقية جميع أشكال النفسية الاجتماعية في حياة المُجتمع. يتميز كل شعبٍ أو أُمة بطابعٍ مُعينٍ من التكوين النفسي والثقافة الوطنية والتقاليد التاريخية الراسخة نسبياً والتي تتجلى في حياة جميع أفراد المُجتمع المُعيّن الفكرية، ويترك هذا الطابع المذكور بصمته على نفسية الطبقة من طبقاته.
يتضمن البحث في البُنية الطبقية تحديد الفئات الاجتماعية التي تُشكّل الطبقات، أي الفئات التي التي يُبرزها البحث التاريخي القائمة على المعايير المُلكية والقانونية في المقام الأول. ان أردنا أن نتحدث عن مُجتمع القرون الوسطى وطبقاته الأساسية على سبيل المثال، فان مؤرخي القرون الوسطى يجدون من بين طبقة الفلاحين، شرائح خاضعين لدرجاتٍ مُختلفةٍ من التبعية وأشكال الايجار وتوافر الأرض. في الطبقة الحاكمة، يعتمد التمايز على معيار مقاييس مُلكية الأرض (اللوردات الاقطاعيين الكبار والمتوسطين والصغار) أو المكان الذي يشغلونه في التسلسل الهرمي الاقطاعي. ليست المصالح المادية لأعضاء كُلٍ من هذه الشرائح والفئات مُتطابقة، وانعكس ذلك في سلوكهم الاجتماعي وغالباً في تكوينهم النفسي. لكن هذه الفئات الاجتماعية وما يُشابهها، والتي من الواضح أنه يجب تحليلها، كانت موجودةً في الحياة الحقيقية لمُجتمع العصور الوسطى بطريقة متفرقة. لم يكونوا يُشكلوا أجساماً اجتماعية حقيقية، على الرغم من أن الأفراد الذين انتموا لها غالباً ما وحّدتهم مجموعة من المصالح وكانوا يُشاركون في النزاعات الاجتماعية والسياسية المُختلفة كتجمعات مُنظمة الى حدٍ ما. من خلال الاستفادة من المفهوم الذي ظهر الى حيز الوجود في العلوم الطبيعية، يُمكننا القول أنه ضمن "البُنية الكبيرة" Macrostructure للمُجتمع (تكوينه الطبقي) يوجد هناك "بُنيته الصغيرة" Microstructure. يُقصَد بالأخيرة تلك النوى الاجتماعية الأولية أو مجموعات التكوين العضوي، التي تشمل الطبقات في التحليل النهائي. كتب ماركس: "وكلما مضينا أبعد في التاريخ، بدا لنا الفرد، وبالتالي الفرد المُنتج، أكثر تبعيةً باعتباره مُنتمياً الى كُلٍ أكبر، بطريقةٍ لا تزال طبيعية تماماً الى العائلة ومن ثم العائلة المُتسعة الى عشيرة وفيما بعد الى أشكال مُختلفة من المُجتمع المشاعي الناشئ عن نقض والتحام العشائر. في القرن الثامن عشر فقط، وفي "المُجتمع المدني" تجابه الأشكال المُختلفة للارتباط الاجتماعي الفرد باعتبارها مجرد وسائل لتحقيق أغراضه الخاصة، كضرورة خارجية"(5). من حيث العصور الوسطى، يُمكن ترتيب هذه الوحدات الاجتماعية ذات التركيب العضوي، على أساس أصلها وطريقة تمظهرها. ظل أُناس العصور الوسطى أعضاءاً في هذه المجموعات الاجتماعية طوال حياتهم، وغالباً ما ولدوا لأناس ينتمون لها أصلاً. لكن يبدو هنا أنه من الضروري التمييز بين المجموعات الاجتماعية الأساسية والتجمعات الاجتماعية الأوسع الى حدٍ ما التي كانت هذه المجموعات الأساسية جزء منها، أي أنه من الضروري تمييز "الذرات" و"الأنوية" الاجتماعية في اطار الطبقة والمُجتمع. يجب تضمين العائلة في التركيب الذري للمُجتمع الاقطاعي. بالطبع، العائلة ليست شيئاً يختص به العصر الاقطاعي وحده، لكنها، في هذا المُجتمع القائم على الانتاج الصغير، هي التي تُعتَبَر الوحدة المُنتجة الرئيسية. يجب دراسة العائلة، باعتبارها أساساً للانتاج، في علاقاتها الاجتماعية المُختلفة بشكلٍ شامل، والتي تميزت حينها باستقرار وثبات استثنائي. تقتصر دراساتنا في المقام الأول على تلك الجوانب من حياة العائلة التي لها علاقة بدورها الانتاجي وعلاقات المُلكية. ومع ان البُنية الداخلية للعائلة والعلاقات المُتبادلة بين أفرادها وأخلاق الأسرة والجو الفكري الذي تعيش فيه هي عناصر تطبع سلوك الانسان في العصور الوسطى بطابعها، الا أنه تبقى هذه المسائل خارج اطار الدراسة في كثيرٍ من الأحيان. من الواضح أن تحليل علاقات المُلكية والانتاج فقط غير كافٍ لوحده من أجل الحصول على معرفة دقيقة فيما يخص العائلة.
ومع ذلك لم يتم استبعاد العائلة من الجسم الاجتماعي الأوسع. يجب تضمينها لمجموعات العضوية مثل كوميون القرية في فئة "البُنية الجُزيئية" لمُجتمع القرون الوسطى. في هذه الحالة أيضاً، يقصر المؤرخ تحليله في العادة على أشكال المُلكية ونشاط الانتاج والوضع القانوني للكوميونة، أي علاقات كوميون القرية مع اللوردات الاقطاعيين أو الحكومة. ألا ينبغي التعمق أكثر من هذا؟ الكوميون هو عبارة عن مجموعة من العائلات الكبيرة أو الصغيرة. ما الذي كانه نمط التفاعل بينهم؟ السؤال لا يُستَنفَد من خلال معرفة طبيعة حيازة الأرض واستخدماتها، والتمايز بين الممتلكات والعواقب الاجتماعية المُترتبة على ذلك. ظل الكوميون، خلال تاريخ المُجتمع بأكلمه تقريباً هو الشكل الذي استمرت فيه حياة الغالبية العُظمى من الناس.
دعونا ننظر الى كلمة مير Mir (كوميونة، سلام، عالم( كما يفهمها الفلاح الروسي. ان محتواها ثريٌ جداً. ان القرية التي يعيش فيها الفلاح هي كل العالم بالنسبة له. ان الحدود التي تنتهي عنده ممتلكات كوميونته هي حدود الأفق الفكري للانسان. ان هذا العالم المُصغّر هو في نفس الوقت العالم الوحيد الذي يُمكن للفلاح أن يتخيله. ستكون معرفتنا بانسان العصور الوسطى والمُجتمع الاقطاعي أكثر واقعيةً لو أخذنا في الاعتبار جميع جوانب القرية القروسطية من حيث هي كيان من وجهة نظر حياته الداخلية وتفاعله مع العالم الخارجي ومع القوى الاجتماعية التي تؤثر على المُجتمع من الخارج. سنتمكن، نتيجةً لمثل هذه الدراسة من تحديد القوى التي تفعل فعلها في الكوميون ونكتشف ليس فقط الوسائل المادية (المتعلقة بالانتاج والمُلكية) ولكن أيضاً الوسائل السيكولوجية الموجودة للحفاظ على الروابط التقليدية واعادة انتاجها.
يُعتَبَر المدينة "جُزيء" آخر في المُجتمع الاقطاعي. تتميز المدينة ببنية أكثر تعقيداً من مجتمع كوميونة القرية على الرغم من نجد في تكوين المدينة أشكال "وسيطة" من التنظيم الاجتماعي مثل النقابات Guilds والأخويات الأُخرى التي تتألف بدورها من العائلات. هنا، مرةً أُخرى، من المُستحيل أن يقتصر المرء على دراسة بُنية انتاج النقابات وتحديد المُلكية والتدرجات القانونية بين سكان المُدن. كانت النقابات، مثل غيرها من جمعيات المواطنين، الركيزة الأساسية لحياة المدينة. لقد شكّلَت طابع ساكن المدينة القروسطية. اختلفت الرجمعيات المدنية عن الكوميونات الريفية في أصلها وقدرتها على دمج أعضاء جُدد. وُلِدَ الفلاح كعضو في احدى الكوميونات، بينما كان على الشخص المدني أن يتم ضمه الى نقابة مُعينة. لذلك فان الاجابة على السؤال المُتعلق بالعلاقة الأسرة والجماعة أو الجمعية في المدينة، تختلف عن الاجابة حول علاقة العائلة ومكانها في بُنية الكوميون في القرية.
يُمكن للمرء أيضاً تسمية مجموعات أٌخرى في المُجتمع والتي تختلف اختلافاً كبيراً في الأدوار التي لعبتها في حياة المُجتمع والانسان. من الواضع تماماً أن دراستها تتطلب نظاماً من التصنيف. لا شك أنه يجب النظر الى المجموعات ذات الطابع الانتاجي والتي كان لها أهمية حاسمة، بشكلٍ مُستقل. لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نتجاهل الجماعات الأُخرى التي كان وجودها، على المدى القصير أو الطويل، قائماً على مجموعة من العوامل الأُخرى مثل المشاركة في النشاط السياسي أو المصالح المُشتركة القائمة على نظام فكري أو ديني صرف. تتطلب دراسة كل مجموعة من هذه المجموعات نهجاً مُتميزاً. من المُهم تحديد تأثير هذه المجموعات على بُنية الطبقات. من الضروري أن نضع في اعتبارنا أنه كانت المجموعات من هذا النوع مُتمايزةً بشكلٍ أوضح عن بعضها في المجتمع القديم والعصور الوسطى عن المُجتمع الرأسمالي بسبب وسائل التبادل غير المتطورة و"تحركها Mobility" الاجتماعي الضعيف. ولم يكن لهذا الا أن يؤثر على طبيعة بُنيتها الطبقية. من شأن تحليل "البُنية الميكروية" للمجتمع أن يفتح آفاقاً جديدة للعلم. في الوقت نفسه ستصبح مفاهيمنا عن البُنية الطبقية للمُجتمع أكثر واقعية. ومن المحتم أن تنشأ أيضاً مسائل مهمة مثل العلاقة بين الالبُنية الماكروية والميكروية وانعكاس الصراعات الطبقية وغيرها من الصراعات الاجتماعية على حياة هذه الوحدات الضيقة.
تُشكل مجموعة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والطبيعية والثقافية والايديولوجية والتقاليد التاريخية الفاعلة في حقبة معينة الأساس الذي يقف عليه المناخ الاجتماعي النفسي والبيئة العاطفية التي بدورها تُحدد النمط النفسي للفرد في المُجموعة والطبقة والمُجتمع المُعطى. وبطبيعة الحال، البشر ليسوا أبداً مُتطابقين نفسياً، ولكن على الرغم من كل التنوع الحتمي للنفسية الفردية والطبقية والقومية، فان هناك مناخاً نفسياً واحداً يُميز المُجتمع بأسره. يُصبح من المُمكن فهم آلية عمل المعايير الأخلاقية المُميزة لذلك المُجتمع وتقبّل أعضائه للأفكار المُختلفة على أساس دراسة نوع النفسية السائدة في مُجتمعٍ مُعيّن. بمعنىً آخر، من المستحيل الوصول الى تحليل سليم للنظام الاجتماعي-الاقتصادي وتوضيح وتفسير ايديولوجيته دون النظر الى الجو الاجتماعي-النفسي لذلك المُجتمع.
لم تتم دراسة الحياة الذهنية للناس في الماضي بما يكفي. تم التركيز على الأفكار التي كانت سائدة في ذلك المُجتمع فقط. ما هو المناخ الفكري لمُجتمع القرون الوسطى، على سبيل المثال؟ بكل صدق، سيكون من الصعب علينا اعطاء اجابة على هذا السؤال، لأننا لم ندرس الأمر بما يكفي. سيكون من الطبيعي أن نفترض أنه على الرغم من البطئ النسبي للتغيرات في المُجتمع الاقطاعي والسمات التقليدية التي تُميّز جميع جوانب حياته، فان ذهنية الانسان في العصور الوسطى قد تغيّرت بالفعل. ولكن هذا التغيّر لم يحدث خلال فترات مُختلفة من العصور الوسطى وحسب، ولكن أيضاً في بلدانٍ مُختلفة بسبب الاختلافات في الطبيعة الجغرافية ومستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ودرجة تأثير الكنسية والظروف الملموسة التي لا حصر لها، وقد ادى هذا كله الى عدم تطابق النفسية الاجتماعية. بالطبع لا يُمكن وضع سيكولوجيا الاقطاعي والقن، والمواطن الغني وصبي المهنة والفرسان والأساقفة والرهبان والهراطقة في قالبٍ واحد. ومع ذلك، فمن الواضح أن هناك عوامل أثرت في نفسية المُجتمع ككل. كانت بعض السمات التي تُميّز شخصية انسان العصور الوسطى شائعةً في كل تلك الحقبة، وكانت موجودةً، بهذه الدرجة أو تلك، في الغرب وبيزنطة والدول الاسكندنافية وروسيا، بقدر ما كان هناك نوع مُحدد من العلاقات العائلية والانتاجية موجوداً في العصور الوسطى. كان هناك ايديولوجيا دينية مُشتركة وكان هناك أسلوب واحد لانتاج السلع المادية يقوم عليه المُجتمع.
في الوقت نفسه، من الضروري أن نُلاحظ خاصية أُخرى موجودة بدرجة أو بأُخرى في جميع المُجتمعات ما قبل الرأسمالية، وهي التمايز الضعيف للحياة الاجتماعية. في حين أن جوانب الحياة المُختلفة في المُجتمع الرأسمالي، مثل الانتاج والعلم والفلسفة والنشاط الايديولوجي والابداع الفني وما شابه تختلف عن بعضها البعض وتظهر بصورة ساطعة على أنها اشكال مُختلفة من النشاط الانساني وتجد أساساً في التقسيم الاجتماعي التفصيلي للعمل، فانه لم تكن هناك خطوط تفصل بينها بشكلٍ حاد في العصور الوسطى والمُجتمع القديم. بالاضافة الى ذلك، فهي عادةً ما تتاخم بعضها وتتداخل بطريقة غير ملحوظة لأفراد هذه المُجتمعات المذكورة أخيراً. يقوم المؤرّخ، بفصلها عن بعضها لأغراض التحليل، لكن يجب أن لا ينسى أن المُجتمع الذي يدرسه لم يعتبر مجالات النشاط المُختلفة هذه مُنفردة واعتبروها-ليس فقط على الصعيد الذهني بل على الصعيد العملي كذلك- كشيء موحّد بشكل أساسي ولا ينفصل.
على سبيل المثال، كانت عملية الانتاج مرتبطة بمجموعة معقدة من المفاهيم والمؤسسات التي لا تتعلق بالمجال الاقتصادي في حد ذاته. فمن ناحية، انطوى الانتاج على معتقدات وطقوس دينية (عبادة قوى الطبيعة، الخصوبة أو سحر الصيد، القرابين، الأعياد الموسمية وما شابه). كانت الطقوس والأفعال السحرية بالنسبة الى انسان هذا المُجتمع ذات أهمية قصوى من أجل قطف المحصول والحصول على مواليد الحيوانات أو صنع مُنتَج من الحرفة، بقدر أهمية الانتاج ذاته. من ناحية كان الانتاج متشابكاً بشكلٍ وثيق مع الفن (الموقف من الحرفة كما هو الموقف من الفن وعدم الانفصال بين الانتاج الفني والاقتصادي). أخيراً، لم يكن النشاط الاقتصادي يخضع للتنظيم القانوني فقط (وهذا يحدث في أي مُجتمع) بل وأيضاً للتنظيم الأخلاقي (على سبيل المثال، مفهوم السعر "العادل"). بدوره، لم يكن القانون موجوداً بمعزلٍ عن الدين وكان يحمل طابعاً مُقدساً. أخذت المعايير الأخلاقية نفس أهمية الدين. كان الفن يخضع للطقوس واعتُبِرَ أداةً من أدوات السحر. كانت الفلسفة في العصور الوسطى، مثل كل المعارف، خادمةً للاهوت. كانت السياسة أيضاً تعتمد جزئياً على الدين. باختصار، ظهرت جميع العلاقات الاجتماعية وأشكال النشاط في هذا النوع من المُجتمع على أنها مجموعة غير قابلة للتجزئة وقِبِلَها مُعاصروها على هذا النحو.
كل هذا معروف جيداً ، لكن المؤرخين لا ينظرون دائماً الى هذا الارتباط العضوي للنشاط الاجتماعي الذي تحدثنا عنه. انهم لا يُوضحون الموقف الذي يتخذه أعضاء المُجتمع قيد الدراسة تجاه نشاطاتهم (يتحدد موقفهم الى حد كبير من خلال طبيعة هذا النشاط). ان الفرضية القائلة بأنه فقط في مُجتمع "ما قبل التاريخ" بين القبائل البدائية تكون جوانب الحياة الاجتماعية مثل العمل والسحر والقانون والأخلاق والدين والفن والعبادة والتاريخ والأسطورة والكلمة والفعل غير مفصولة عن بعضها، ان هذه الفرضية من دون أساس. نحن نواجه ظواهر متطابقة في كلا مُجتمعي القرون الوسطى والقديم على حدٍ سواء، بين كل من شعوب أوروبا وافريقيا وآسيا (مُختلفة في الشكل لكن مُتاشبهة في الجوهر) أدّت الى نشوء ترميز ووظائف المُجتمع ووضعها في اطار طقوسي. ان تجاهلنا سمة الوجود الاجتماعي هذه، والتي ميّزت جزءاً كبيراً من تاريخ البشرية الى حدٍ كبير، فاننا حينها نقوم بسحب التاريخ الحديث على التاريخ القديم بشكلٍ لاارادي. ان لم نولي الاعتبار الكامل لمجموع نظرة الانسان الى العالم وسلوكه فاننا بالكاد نستطيع أن نفهم بشكلٍ صحيح القوى الدافعة العاملة في المُجتمع. ان الحاجة الى تكييف تقنيات مُعينة للبحث الانثروبولوجي لدراسة التاريخ تُصبح اليوم أكثر الحاحاً. لا يُمكن أن يكون هناك شك في أن الأعراف والتقاليد والطقوس والرموز في ظل الظروف الراكدة للاقتصاد المعيشي للتشكيلات ما قبل الرأسمالية، تشمل وتتقاطع مع أكثر مجالات النشاط الانساني تنوعاً. لكننا نادراً ما نتحرى عن هذه الظواهر ووظائفها الاجتماعية وأهميتها (باستثناء ان بحث المرء حول الدور المُعترف به عالمياً للعرف في الحفاظ على مستوى الاستغلال الاقطاعي، كما أشار ماركس). ومع ذلك، فاننا لا نتعامل هنا مع بعض الخصائص الخارجية الثانوية التي قد يتم تجاهلها باعتبارها ميكروية. بشكلٍ عام، من الضروري، قبل حل مسألة ما اذا كانت ظاهرة تاريخية ما تستحق الدراسة من قِبَل المؤرخين، تفسير الوظيفة والحالة التي تُعبّر عنها في حياة المُجتمع. كانت التقاليد والطقوس والرموز والاجراءات المُقدسة والظواهر الأُخرى المُشابهة التي تغلغلت في المُجتمع خلال هذه الفترات وسيلةً أساسيةً للعلاقات الاجتماعية وآلية تنظيم اجتماعي تُلزم كل عضو (غالباً بدون وعيٍ منه) بأشكالٍ الزامية من السلوك تُسيطر على معاييره الاجتماعية. وبالتالي، فان أهميتها الاجتماعية هائلة جداً. تُمكّن دراسة هذه الأعراف المؤرخ من فهم نظام العلاقات الاجتماعية بشكلٍ أعمق. يُمكن ايجاد الرموز التي تُعبّر عن الأنظمة النمطية والمُتكررة للصور والمفاهيم المُهمة اجتماعياً في أكثر أشكال الآثار المتنوعة لدراسة الايديولوجيا: في المصادر المكتوبة، في جميع أنواع الصيغ المُقدسة والقانونية وغيرها، في كتابات القوانين والعادات، في المصطلحات والنقوش والصور والمواضيع الدينية والأعمال الفنية والحِرَف اليدوية والهندسة المعمارية والموسيقى والتراكيب اللغوية والأساطير والفلكلور والرموز الرياضية. ما يتبقى هو ببساطة تحديد طابع ومقاييس تأثير هذه الصور النمطية على البُنية الاجتماعية وتفسيرها في سياق الشروط الحقيقية للوجود الاجتماعي(6).
اليوم، تواجه المسائل التالية العلم باصرار أكثر فأكثر: الى أي درجة وبأي طريقة تُحدد العملية التاريخية حياة الناس النفسية؟ ان الاجابات التي تقول أن الوعي ثانوي بالنسبة للوجود وأن الذهنية تحكمها البيئة، غير كافية هنا. من المستحيل أيضاً الاكتفاء بالفرضية الدقيقة للغاية القائلة بأن الأفكار تصبح قوةً ماديةً عندما تستحوذ على الجماهير. ان صحة هذه الافتراضات التي لا شك فيها، لا تجعل منها اطروحات مُكتملة تماماً من وجهة نظر البحث العياني التاريخي. يجب على الايديولوجيا، من أجل أن تستحوذ على الجماهير وتصير ملكاً لهم، أن تتخذ شكلاً مُعيناً يُمكنها التأثير عليهم من خلاله. مثل هذه المفاهيم يجب ان تنعكس في موشور نفسية الناس ويجب أن تُلامس عواطفهم. ترتبط نشأة الأفكار الاجتماعية ارتباطاً وثيقاً بالنفسية الاجتماعية. تُشكّل الأفكار التي صاغها المفكرين المختلفين- في نظامٍ من المفاهيم- التعبير عن المشاعر والآمال والعواطف والظواهر العاطفية الأُخرى السائدة في مُجتمعٍ أو طبقة مُعيّنة(7).
برأينا، فان الصعوبات الناشئة في مسار البحث في تاريخ الثقافة مرتبطة بالاستهانة بالنفسية الاجتماعية والميل الى اختزالها الى ايديولوجيا. من الاستثناءات الجيدة في هذا الصدد مقالة ل.مـ. باتكين L. M. Batkin حول جيوفاني موريلي (مساهمة في الجذور الاجتماعية لعصر النهضة الايطالي) (8). يسعى مؤلّف المقالة، بدراسة آراء وأذواق بوبولو غراسو Popolo Grasso في النصف الثاني من القرن الرابع عشر والنصف الأول من القرن الخامس عشر، الى الكشف عن خصائص ومصادر سيكولوجيا البرجوازية الفلورنسية في تلك الفترة. انه يصوّر العالم الداخلي وحالات التجّار المزاجية وطابع شخصياتهم وأخلاقهم ومفاهيمهم الدينية وممارستهم الفعلية في الحياة والتي تقوّض الآراء والمعايير التقليدية القديمة بشكلٍ لا هوادة فيه. ولاثبات أن المُثُل الانسانية كانت "انعكاساً مُصعّداً لاحتياجات بوبولو غراسو،، يجد باتكين تبايناً بينهما، ويخلص الى الاستنتاج بأنه "على الرغم من أن ثقافة عصر النهضة هي نتاج بيئة تجارية وصناعية، الا أنها كانت كذلك أكثر من هذا بما لا يُقاس". فيما يتعلق بمسألة عدم التطابق بين البناء التحتي والثقافة خلال عصر النهضة، يُعرب باتكين عن وجهة نظر مفادها أنه "كان لا بُدّ للعلاقات الاقتصادية الناشئة لتوها أن تُطوّر مناخاً مُستقراً من النفسية الاجتماعية قبل أن تُمارس تأثيرها غير المُباشر على الفن والعلوم. لقد استغرق الأمر عدة أجيال من التجار الفلورنسيين وأصحاب المانيفاكتورات لتحقيق ذلك"(9). لم يتم تقديم أي حل للمسألة هنا، ولكن تم توضيح طريقة مُعالجتها. يبدو لنا أن مسألة عدم التطابق بين مستوى الثقافة والشرط المادي والسياسي للمُجتمع التي غالباً ما يواجهها المؤرخون (تذكروا عصر النهضة الاسبانية أو الثقافة الروسية في فترة الرجعية تحت حكم نيكولاي الأول) لا يُمكن أن يتم حلها بشكلٍ صحيح دون دراسة مناخ النفسية الاجتماعية. تظل جميع تفسيرات عدم الطابق هذا ميكانيكيةً وسطحيةً في غياب مثل هذه الدراسة.
نحن على دراية بكلمات ماركس بأنه "بالطبع فان استخلاص النواة الأرضية من التصورات الدينية الضبابية عن طريق التحليل أسهل بكثير من أن نستخلص، على العكس، الأشكال المُقدسة القائمة من علاقات الحياة الفعلية. لكن هذا الأخير هو المنهج المادي الوحيد، وبالتالي المنهج العلمي الوحيد"(10). تحتوي هذه المُلاحظة على دعوة الى عدم وجوب اختزال البناء الفوقي الى القاعدة، وعدم وجوب النظر الى المفاهيم الدينية أو الأعمال الفنية كـ"انعكاس" بسيط للواقع. تتطلب الطريقة المادية والعلمية في البحث أن ننتقل من العلاقات القائمة في البناء التحتي الى الأشكال الأعلى من الحياة الفكرية للانسان مروراً بسلسلة من الروابط الوسيطة وأهمها النفسية الاجتماعية. لن يحصل المرء الذي يسعى الى تجاوز النفسية الاجتماعية في دراسته للفن أو الأدب أو الدين أو الأخلاق أو القانون ، على النتائج المُرتجاة. على حد تعبير هرتزن فان النفسية الاجتماعية هي "الدم القرمزي المتدفق في شرايين التاريخ".
عند النظر في المجالات المُمكنة لتطبيق البحث في النفسية الاجتماعية، لا يُمكننا أن نتجاهل مسألة تطور وتشكّل الشعوب والأُمم. حتى الآن لا يُمكننا أن نقول أننا حققنا انجازات كبيرة في دراسة هذه المسألة. ان تعريف ستالين للأمة على أنها مُجتمع مؤسس تاريخياً يتميز بأربع معايير: الحياة الاقتصادية، الأرض، اللغة والنفسية التي تتجلى في الثقافة، غير كافٍ بالمرة. هناك على وجه الخصوص، أهمية المُجتمع السياسي، والذي يؤدي فقدانه الى اضمحلال الوحدة الاثنية. من ناحيةٍ أُخرى، فان العضوية في دولة واحدة تجعل من المُمكن خلط واستيعاب الكيانات العرقية المُتنوعة(11). كل هذا مؤكد تماماً. نحن نعلم أنه حتى بعد تشكّل الأمة، فان وجود مجتمع من كيانات عرقية مُختلفة حتى داخل حدود دولة واحدة باقتصاد موحّد واقليم ولغة مشتركة لا يؤدي (أو لا يؤدي دائماً) الى نشوء أُمة أساسية. ودون السعي في التوسع في هذه المسألة، نود أن نُلاحظ أنه سيكون من غير الصحيح تجاهل التكوين النفسي القومي أو اختزاله الى "الثقافة" دون توسيع تعريفه. لسوء الحظ فان هذا الجانب هو أقل جانب تم البحث فيه. حقيقة الأمر هي أن مسألة النفسية القومية هي مسألة قد استلمها التأريخ البرجوازي الذي أعطاها تفسيراً مثالياً. يُمكن للمرء أن يفهم جيداً الحذر الذي تعامل به المؤرخون الماركسيون مع المفاهيم المبتذلة المُستخدمة في الدراسات البرجوازية مثل "روح الشعب" Volksgeist أو "روح العصر" Zeitgeist وما الى ذلك. ولكن هل يعني هذا انه من غير اللائق مناقشة "روح الشعب" أو "روح العصر" على الاطلاق وانكار النفسية الاثنية ووضعها على أساس علمي؟
تفترض دراسة النفسية الاجتماعية-التاريخية تطوير تكنيك وحل مسألة المصادر. هل مثل هذا البحث ممكن فيما يتعلق بالفترات التاريخية البعيدة عنا؟ ان الصعوبات التي ينطوي عليها حل المسائل التي تتجسد في مثل هذه الدراسات كبيرة بشكلٍ استثنائي. على أية حال، ان أحد أهم تقنيات البحث الاجتماعي اليوم هو الاستبيان. يلجأ السوسيولوجيين والسيكولوجيين الاجتماعيين الى الأفراد والى فئات ومجموعات بأكملها. من الواضح أن المؤرخ أيضاً يجب أن يصوغ أسئلته بطريقة تُسلّط الضوء على سلوك الناس ودوافعهم وانجازاتهم وحالاتهم المزاجية وآرائهم والعوامل التي تؤثر عليها في الماضي، وما الى ذلك. لكن أُناس الماضي قدموا-أو لم يقدموا- اجاباتهم للمؤرخ قبل أن يطرح أسئلته بوقتٍ طويل. قد يتم اكتشاف هذه الأجوبة ولكن يبدو أنه من المستحيل الحصول على اجوبة جديدة. أخيراً، يفتقر المؤرخ الى أي وسيلة للتحقق من بيانات تحليله من خلال التحقيق مع مجموعة أُخرى من الأشخاص. باختصار، هناك صعوبات كبيرة والنتائج التي يُمكن توقعها ستكون دائماً غير كاملة وغير مُرضية. ستُصبح الصعوبات أكثر وأقل قابلية لحلها كلما ذهبنا بهذه الأسئلة الى أماكن أكثر عمقاً في التاريخ.
هل هذا يعني أن المؤرخين بشكلٍ عام لا يُمكنهم،، من حيث المبدأ، أن يفلحوا في تحصيل نتائج ما دامت تقنيات علم النفس الاجتماعي التاريخي صعبة؟ أعتقد أنه ليس هذا هو الحال. نظراً لأن النفسية الاجتماعية والايديولوجيا متشابكان بشكلٍ وثيق، فسيترتب على ذلك أنه يُمكن ويجب استخدام جميع المصادر التي يستخدمها المؤرخون في دراسة الأفكار، لدراسة ظواهر النفسية الاجتماعية. ولكن لا يُمكن استخدام مصادر تاريخ الوعي الاجتماعي والأعمال الأدبية والفلسفية وما شابه ذلك فقط. يُمكن أيضاً، الاستعانة بكل ما لمسه الانسان وكل ما ترك عليه بصمات نشاطه من أجل الكشف عن تفكيره وعقليته ووجهات نظره وعاداته ومزاجه الموافق لمُجتمعه في تلك الأيام. على سبيل المثال، يجب أن نستخدم، في دراسة ذهنية انسان العصور الوسطى، الآثار المتعلقة بقوانين البرابرة والقواعد التي تحكم الفلاحين وسجلات المحاكم. تحظى أعمال الفنون التشكيلية في العصور الوسطى باهتمامٍ استثنائيٍ في هذا الصدد. ولكن يجب أن لا ننسى أن أي مصدر تاريخي لا يوفّر فقط معلومات فيما يتعلق بالظواهر التي يدرسها المؤرخون، بل أيضاً فيما يتعلق بصانعها سواءاً كان كاتباً أو مُفكراً أو مؤرخاً أو مُشرّعاً أو حِرَفياً أو احصائياً أو رساماً أو نحّاتاً. يكشف تحليل هذا الجانب من الموضوع المدروس تحديداً عن سيكولوجيا كلٍ من مُنشئ الموضوع المعني، وبيئته وعصره من جهة أُخرى. بالنظر الى مثل هذه المُقاربة، لا يأخذ الباحث في الاعتبار المُحتوى فحسب، بل أيضاً شكل الاتصال. بمعنى آخر، يتم توجيه الانتباه الى تلك العوامل (التعبيرات وطبيعة الفكر والموقف تجاه المعلومة المنقولة واختيارها ونظام الوسسائل التصويرية وما الى ذلك) التي انعكست في الأداة، على الأغلب، بالرغم من وعي وارادة مُنشئها.
لسوء الحظ، لم تمنحنا الأبحاث بعد، وفرةً من الأمثلة على مثل هذه الدراسات. من بين الأعمال القليلة التي قد تبدو مُفيدة، هناك، على وجه الخصوص، عمل بوريس الكساندروفيتش رومانوف Boris Aleksandrovich Romanov 1889-1957 المُثير المُعنون (شعوب وعادات روسيا القديمة) لعام 1947. سعى مؤلفه، ينجاحٍ كبير، الى رسم أنماط اجتماعية وخصائصها النفسية الفردية والاجتماعية ونظرتها على أساس الآثار غير المُكتملة والمُجزأة التي بقيت من فترة العصور الوسطى المبكرة في روسيا، مثل وثيقة (صلاة دانيال المُحاصر) Supplication of Daniel the Exile، وآداب "تعليمية" أُخرى، وسِيَر القديسين والسجلات وأخيراً القانون الروسي. العامل الأكثر أهميةً، كما يشهد كتاب رومانوف، هو القدرة والرغبة على قراءة نقدية لمصادر معروفة جيداً استخدمها العديد من المؤرخين لأغراض أُخرى، دون تفسيرها بشكلٍ تعسفي، واستخدامها بطريقة مُلائمة بدقة من أجل أغراض بحثية في علم النفس الاجتماعي. كانت مهمة المؤلف هي الكشف عن انعكاس عملية تشكّل الطبقات في الحياة اليومية وعقلية مُمثلي طبقات مُختلف سكان روسيا في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر: "كيف عاش الناس... وما الذي كانوا يعيشون لأجله، فيما يتعلق بموقعهم الاجتماعي...". لقد نظر الى حياتهم النفسية "من منظور الانسان المُعاصر وكأنه على صلة وثيقة بهم". استخدم هذا الباحث منهجية التحليل الأدبي، أي طريقة "اعادة تصميم الظرف، من خلال تحليل عمل أدبي مُعيّن، وشخصية القارئ الذي كان ذاك العمل موجهاً له وصاحب المصلحة فيه". وبهذه الطريقة، تم انشاء نمط بشري تاريخي لثقافة معينة، والذي استخدمه رومانوف لاحقاً كمعيار يُمكن على أساسه دراسة الوثائق الأُخرى. نتيجةً لذلك، صار التصور حول المُجتمع الروسي القديم الذي تجري فيه عملية بناء الاقطاعية أكثر عيانيةً وواقعيةً وحيويةً: يظهر الناس فيه أحياءاً كأنهم يعيشون معنا.
دعونا نذكر أيضاً كتاباً من تأليف ايلينا ميخايلوفنا شتيرمان Elena Mikhailovna Shtaerman (أخلاق وديانة الطبقات المظلومة في مُجتمع الامبراطورية الرومانية) 1962. تتبع المؤلفة، على أساس العديد من الآثار والنقوش والأعمال الفنية والأطروحات الأخلاقية والفلسفية، تحولات تفكير ومفاهيم الحياة والآلهة التي حدثت بين الطبقات الدنيا وفئات المُجتمع العبودي خلال فترة أزمته. يُذكرنا عمل شتيرمان بالحقيقة المُهمة المتمثلة في أن موت نظام اجتماعي-اقتصادي لا ينعكس فقط في الايديولوجيا، بل وفي نفسية جميع طبقات المُجتمع، ويمر في أفكار البشر الذين يعيشونه باعتباره "انقطاعاً في الزمن". أخيراً، تصوّر كتابات بوريس فيودوروفيتش بورشنيف Boris Fyodorovich Porshnev حول جان ميسلير العلاقة بين سيكولوجيا الفلاحين في المُجتمع لاقطاعي ومقاومتهم للقمع، والأفكار الثورية التي صاغها ميسلير.
يتم ايلاء الكثير من الاهتمام لمسائل علم النفس الاجتماعي التاريخي في كتابات المؤرخين الغربيين المُعاصرين، وخاصةً الفرنسيين.
يبدو أنه يُمكن للمرء أن يتحدث عن عددٍ من الاتجاهات في التأريخ الفرنسي في العقود العديدة الماضية الموجهة الى حدٍ ما لمسائل البحث في علم النفس الاجتماعي. من المُثير القول أن مدرسة الفرنسيين التقدميين التي انخرطت في دراسة مسائل الثورة الفرنسية في مهاية القرن الثامن عشر والتي جعلت من المسائل الاجتماعية مركزيةً في كتاباتهم بحدة خاصة، هي المدرسة التي قدمت أكبر مساهمة في معالجة الجوانب الاجتماعية-النفسية للثورة.
بالعودة الى كتاب (الخوف الكبير) La Grande Peur للمؤرخ جورج لوفيفر، المُكرّس لدراسة الاضطرابات الفلاحية في فرنسا عام 1789،كانت دراسة حركة الفلاحين مُرتبطة بتوضيح نفسية وحالة المشاركين في الانتفاضات والنبلاء الذين كانت موجهةً ضدهم(12). تعامل لوفيفر أيضاً مع مسائل النفسية الجماهيرية في الثورة في نةهاية القرن الثامن عشر في دراسته لـ"الحشود الثورية"(13). اتّبَعَ تلميذه نفس الخط. أحد الأخصائيين المعاصرين الأكثر أهميةً في دراسة تاريخ الثورة الفرنسية هو ألبيرت ماريوس سوبول Albert Marius Soboul مؤلف عدد من الكُتب الجادة وأهمها (سانس كولوتيس الباريسيون) Les sans-culottes parisiens en l an II والذي ناقش ليس فقط التكوين الاجتماعي للسانس كولوتيس (وهم أبناء المدن الأكثر فقراً) ومطالبهم وبُنية وأقسامهم الباريسية ونشاط هؤلاء الأخيرين وعلاقتهم بالحكومة الثورية ودورهم في الأيام الحاسمة للثورة، ولكنه طَرَحَ أيضاً مسائل سيكولوجيا السانس كولوتيس وآفاقهم الاجتماعية والثقافية وسلوكهم وأذواقهم وسعى للعثور على العوامل المؤدية الى تصاعد طاقة الباريسيين الثورية وتراجعها خلال فترات معينة(14). يربط سوبول بشكلٍ وثيق المسائل المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية الاجتماعية بسمات بُنية نفسية السانس كولوتيس الاجتماعية، والذين كانوا منتجين صغاراً بسيكولوجيا أصحاب الأملاك الصغيرة(15).
يسعى أحد أتباع لوفيفر المؤرخ الانجليزي جورج رود George Rudé في كتابه (الحشد في الثورة الفرنسية) الى الكشف عن التركيب الاجتماعي للمشاركين في التظاهرات الشعبية في المدن وعلى رأسها باريس خلال سنوات الثورة وتحديد أسبابها، وتحديد الأسباب التي دفعت الى مشاركة مُختلف الجماعات والأفراد في الاضطرابات الثورية وأشكال التعبير عن الاستياء الشعبي والسمات المُميزة لنفسية الجماعات والعلاقة بين أفعال الأشخاص الذين نزلوا الى الشوارع وشعارات الأحزاب التي قالت أنها استلمت دفة القيادة(16). في كتابات مؤرخي هذا الاتجاه، يتوقف الناس عن كونهم كُتلة غير مُشخّصة ويظهرون ليس فقط على أنهم مُحددون اجتماعياً ومتميزين من الناحية التاريخية الملموسة، بل يكتسبون طابعهم الخاص. نجح رود وسوبول في فرز الأفراد الأحياء من بين الحشود المُتظاهرة في الشوارع ومجموعات الباريسيين في اجتماعاتهم الفردية، وفي نفس الوقت تصنيفهم في أنماط مُحددة. يجب الاعتراف بأن لدى هؤلاء الباحثين مصادر واسعة ومخزون هائل من مصادر المعلومات تحت تصرفهم. ان لديهم محاضر وعرائض وتصريحات وصحف وتقارير بوليسية حول مزاج الجماهير وتُراقب السانس كولوتيس اللذين كانت السلطات ترتاب منهم وقتها. أخيراً، هناك سجلات المحاكم. هذه المصادر، المعروفة منذ زمن للمؤرخين، ولم يتم توظيفها من قبل في هذا الجانب. ليس فقط وجود المصادر هو المهم، بل وجهة تظر المؤرخ، وهي ربما حتى أكثر أهميةً.
هناك اتجاه آخر في علم التأريخ، يركز أنصاره اهتمامهم على مسائل علم نفس المجموعة، وهو مرتبط بمدرسة الحوليات ومجموعة الكتب التاريخية (تطور البشرية) The Evolution of Mankind والتي أوجدها أ. بير. من بين كُتّاب هذه المدرسة يُمكن للمرء الاستشهاد بـ ل. لوفيفر وروبرت ماندارو Robert Mandrou وجاكس ليغوف Jacques Le Goff والفونس دوبرونت Alphonse Dupront وجورجوس دوبي Georges Duby. ومن بين مؤسسي هذه المدرسة بالاضافة الى لوسيان فيفير Lucien Febvre، رئيسها الرسمي مارك ليوبولد بلوخ Marc Léopold Benjamin Bloch وبول دانيال الفيندري Paul Daniel Alphandéry.
اكد فيفير أن دراسة كُلٍ من سيكولوجيا المجموعة وسيكولوجيا الفرد ضروري لفهم التاريخ الاجتماعي للمجتمع. كان فيفير يُريد، على عكس بعض السيكولوجيين الذين عالجوا مسائل السيكولوجيا من وجهة نظر مثالية بحتة، أن يوضح الظروف الموضوعية التي تتشكل من خلالها السمات المُميزة لذهنية الأشخاص في التاريخ. ان البيئة المادية والاجتماعية هي المسؤولة بشكلٍ رئيسي عن تشكيل التركيب الفكري والبُنية النفسية للانسان في الماضي. رأى فيفير الطريق لفهم سيكولوجيا الفرد والجماعات في استخدام المؤرخين لبيانات وتقنيات العلوم الأُخرى مثل السيكولوجيا والاثنوغرافيا والانثروبولوجيا واللغويات والنقد الأدبي ودراسات الفلكلور والفن والتاريخ والجغرافيا(17).
كانت أفكار فيفير متوافقة الى حدٍ كبير مع ملاحظات المؤرخ الهولندي المرموق جوهان هايزينغا Johan Huizinga مؤلف كتاب (انحلال العصور الوسطى) Le Déclin du Moyen-Âge(18). قام هذا الأخير بدراسة سيكولوجيا الفرنسيين، وخاصةً البورغونديين Burgundians خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر.
لقد لاحظَ "الحياة المحمومة" لشخصيات الناس في بيئة وصفها بأنها "ذابلة" وبأنها "خريف" مُجتمع القرون الوسطى. انه يكتب عن "خليط رائحة الدم والورود". كان الخوف من الجحيم، بالاضافة الى حب الحياة الغزير السخيف متشابكين بشكلٍ وثيق في أذهان أُناس ذلك الوقت لدرجة أنهم كانوا يخلطون بينهما. كانت القسوة والتقوى، الانتقام والنبل والحب والكراهية تستبدل بعضها البعض في تتابعٍ سريع. فيما يتعلق بالمرأة، يُمكن أن يشهد المرء التحول من شهوانية شرسة تجاهها الى أمثَلِة Idealisation غير محدودة لها. كانت هناك تناقضات عميقة في الفن كما في الحياة الدينية. سادت الألوان العنيفة في الرسم والثياب. تأرجَحَ الانسان بين أقصى جانبين من السلوك: "الكمال" والحقارة. يجد المرء، في المستوى الأدنى للنفسية، دلائل على الميول والرغبات المنبوذة التي قمعها المُجتمع القائم بأخلاقه الصارمة. بقيت القناعات العُليا مثل الفضائل المسيحية المسموح بها والموافَق عليها من قِبَل الأخلاق، في المستوى الأعلى من النفسية. ان الانقسام بين مستويي الذهنية والتوتر الشديد الناشئ بينهما هو مصدر استثارة كل مُستوى لآخر والتبدل المُستمر لموقعيهما. في مثل هذا المُجتمع من الصعب للغاية تحقيق سلوكٍ متوازن ومدروس بعناية. كانت التناقضات الحادة في التركيب النفسي للانسان وعدم استقرار سلوكه العاطفي هي علامات على انحدار القرون الوسطى وانحلالها، واختفاء مُجتمع الفُرسان في رأي هايزينغا. الأكثر اثارةً للفضول هو ملاحظته أن انتعاش مُثُل الفرسان والاتيكيتات الموافقة لها، ووصول المعايير والطقوس الأخلاقية الى مُنتهىً مُتقن، قد حَدَثَ في ظل أقسى الظروف الاقتصادية والاجتماعية وحشيةً وفي ظل أزمة النبالة. كان أعضاء هذا المُجتمع على ما يبدو يسعون للخلاص من واقع الحياة القاسي باللجوء الى المُثُل الدينية والمُجاملات المُهذبة. يجب القول أن صورة هايزينغا للمُجتمع هذه قد عُرِضت بطريقة مُضخمة من أجل خلق صورة فنية عنه (عن المُجتمع) الى حدٍ ما. ومع ذلك، فان منهجية البحث الخاصة به والتي تُشبه منهجية فيفير كثيراً، مُهمة للغاية. ان لدينا معلومات تُشير الى استخدامه للأعمال الفنية والأدبية للكشف عن سيكولوجيا المُجتمع وطريقة ادراكه للحياة والعالم ونظام المعايير الأخلاقية، من خلال تحليله للقِيَم الجمالية السائدة. اهتم كُلٌ من فيفير وهايزينغا بأعمال الكُتّاب والشعراء والمفكرين واللاهوتيين والمؤرخين في أواخر العصور الوسطى، ليس فقط-وربما ليس كثيراً- بما كانوا يرغبون أن يقولوا، بل أيضاً بما كانوا يقولونه ضد ارادتهم وبشكلٍ غير مقصود. يبدو أن هذه وسيلة يُمكن من خلالها التغلغل في العالم الداخلي للبشر في الماضي بشكلٍ أعمق ودراسة ليس فقط آراء وأمزجة كُتّاب ومُمثلي ذلك لمُجتمع البارزين، ولكن أيضاً الجو العاطفي والفكري المُسيطر فيه. يوجه هايزينغا الانتباه الى الطقوس والرموز والعادات التي تمتلك فيماً جمالية وأخلاقية في لمُجتمع. يسمع البحث في الرمزية والطقوس الفاعلة في المُجتمع، بالاضافة الى اكتشاف اللغة، الى الكشف عن أهم خصائص النفسية الاجتماعية.
تم وضع ملاحظات هايزينغا وفيفير في منظورٍ أوسع في كتاب لروبرت ماندارو (مقدمة حول فرنسا الحديثة 1500-1640. مقالة حول السيكولوجيا التاريخية) Introduction à la France moderne (1500-1640). Essai de Psychologie historique. يعتبر ماندارو أنه من الخطأ فصل النفسية التاريخية، عن التاريخ، لأنه جزء لا يتجزأ منه. ان دراستها هي "مطلب منهجي يتواجد في كل لحظة من البحث". ويؤكد أن "النفسية التاريخية كلها وكل تاريخ الحياة الفكرية هي تاريخ اجتماعي، ولكنها أيضاً تاريخ الثقافة"(19). هناك كتاب أيضاً لزيفيدي باربو zevedei barbu مُخصص أيضاً لمسائل علم النفس التاريخي. تتركز اهتماماته الخاصة في بناء الشخصية الفردية في اليونان القديمة وبناء الشخصية القومية الانجليزية في القرنين السادس عشر والسابع عشر. علاوةً على ذلك، فهو يبذل جهد كبير لربط هذه الظواهر بالحياة الاجتماعية لذلك العصر(20).
عَرَضَ المؤرخ الفرنسي دوبرونت، في المؤتمر الثالث للمؤرخين، ورقةً بعنوان (مسائل ومناهج علم النفس الجماعي) Problèmes et méthodes d une histoire de la psychologie collective، مُحدداً هدفه تحديد أشكال "تفكير المجموعة" وروحها من خلال تحليل أنظمة القِيَم والأفكار والمفاهيم والصور الفنية والأساطير والظواهر الأُخرى التي تحدث بشكلٍ دوري، والتي تتجلى فيها "ايقاعات" الفكر الانساني. يتجاهل دوبرونت المكون لأساسي لعلم النفس الجماعي ولا يقول شيئاً عن البحث في نفسية الطبقات(21). يتم اخفاء الذاتية والمثالية بشكلٍ بارع في هذا النوع من الصياغة(22). قد يُقدّم كتاب المؤرخ الأمريكي نورمان كون Norman Cohn (السعي للألفية) مثالاً على المُعالجة المشوهة وغير العلمية لمسائل علم النفس الاجتماعي التاريخي(23). ان طائفة الألفيين-وهي طائفة عصبوية في القرون الوسطى كانوا ينتظرون انشاء "مملكة الرب على الأرض"- قد عالجها كوهن من حيث علم النفس المرضي والبارانويا والفصام الجماهيري. كما لم يتوانى المؤلف عن شن الهجمات الشرسة ضد المشاركين في الحركة الشيوعية المُعاصرة، والذين يشتبه كون بأنهم مُصابين بالذهان الوبائي.
بطبيعة الحال، فان تشويه المسائل العلمية من قِبَل بعض المؤلفين لا يُلغي السؤال حول ما اذا كانت هذه المسائل ذات أهمية موضوعية. يُمكن للمرء أن يذكر عدداً من الأعمال الجادة للعلماء البرجوازيين المعاصرين المُكرّسة لدراسة النفسية الاجتماعية في الماضي. يجب الانتباه بشكلٍ خاص الى مدرسة علماء النفس الفرنسيين برئاسة اي. ميرسون الذين قاموا بدراسة النفسية الاجتماعية في تطورها التاريخي وتحديدها الاجتماعي(24).
توجد اختلافات كبيرة بين الاتجاهات المُختلفة في علم التأريخ الغربي الحديث في تفسير مشاكل علم النفس الاجتماعي. يَعتَبر المؤرخون الماركسيون مثل سوبول ورود هذا الفرع من البحث مكوناً لا ينفصم من علم التأريخ الاجتماعي. بعض العلماء الفرنسيين مثل ماندارو ودوبي لديهم وجهة نظر مماثلة. ومع ذلك، فان المدرسة التي أسسها هويزينغا وفيفر تميل بدلاً من ذلك الى رؤية مستقبل علم النفس الاجتماعي التاريخي على أنه مجال من مجالات علم تاريخ الثقافة. أخيراً، يميل الكُتّاب من نوع دوبرونت الى التعامل مع علم النفس التاريخي باعتباره مُختلفاً عن البحث الاجتماعي. لكن علم النفس التاريخي اليوم لا يشغل بال المؤرخين وحدهم. يهتم علماء النفس ونُقّاد الفن واللغويون وممثلو العلوم الانسانية الأُخرى بجوانبها المُتنوعة. توجد أسباب وجيهة للتأكيد على أن علم النفس الاجتماعي التاريخي صار المحور الذي تلتقي فيه الدراسات الأكثر تنوعاً حول الانسان(25).
ان الانتقال من نظام العلاقات المُتضمن في البناء التحتي الى نظام البُنية الفوقية شديد التنوع ومتعددة الأشكال، بما في ذلك أعلى أشكال الحياة الايديولوجية للمُجتمع، أمر مُستحيل ان لم نعتبر فرع دراسة حياة الانسان الفكرية والنفسية الاجتماعية مُهمة جداً. ان علم النفس الاجتماعي، كما نؤكد مرةً أُخرى، ليس هو الحياة الايديولوجية للمُجتمع، ولكن بعد أن تولد وتتشكل من خلال الظروف المادية والايديولوجية، فانها تُمارس تأثيراً هائلاً عليها (على الحياة الايديولوجية). بالنسبة للمؤرخ،، فان النفسية الاجتماعية التاريخية هي موضوع للدراسة وأحد تلك العناصر الأساسية التي بدون اعادة بناءها لن تكون صورة الماضي التاريخي عندها كاملة. في الوقت نفسه، يخدم علم النفس الاجتماعي التاريخي المؤرخ كأحد أدوات البحث، ومكوّن من عناصر التحليل البنيوي والتفسير السببي. عند الحديث عن هذه الوظيفة الأخيرة لعلم النفس الاجتماعي، فاننا لا نقصد أن نربط أنفسنا على الاطلاق بأعضاء المدرسة السيكولوجية البرجوازية مؤيدي "التفسير التحفيزي" للتاريخ، والذين يختزلون كل أسباب الأحداث التاريخية بالأسباب السيكولوجية وحدها. ولكن، فنحن أيضاً غير قادرين على الاتفاق مع اولئك الذين يرفضون تماماً هذا الشكل من التحليل برفض النفسية الاجتماعية كأحد مكونات التفسير السببي.
يشهد الاستقصاء السريع وغير الكامل للأدبيات على حقيقة أن ما تم انجازه حتى الآن في هذا الاتجاه، لا يتجاوز حدود البحث البسيط وبالكاد يُنظر اليه على أنه مثال يُحتذى به. لكن بعض تقنيات البحث المنهجية التي يستخدمها بعض المؤرخين تستحق الدراسة. بطبيعة الحال، لا يُمكن حل مشاكل تقنيات البحث واختيار المصادر والمسائل الأُخرى الا في عملية البحث الملموس لمُختلف الموضوعات.
لا توجد هناك عوائق موضوعية أما تطوير أُسس علم النفس الاجتماعي التاريخي الماركسي، والتي لا تُشكّل فقط فرعاً من علم النفس بل عُنصراً من عناصر البحث التاريخي كذلك. يجب أن يُصبح علم النفس الاجتماعي جانباً هاماً من جوانب البحث التاريخي.

*آرون ياكوفليفيتش غورفيتش
1924-2006 مؤرخ ماركسي سوفييتي وعالم ثقافة.
كان عضواً في الكومسومول اللينيني عام 1940. عمِلَ في مصنعٍ عسكري حتى عام 1944. وفي الوقت نفسه درس في قسم المراسلات في كلية التاريخ التابعة جامعة موسكو الحكومية وتخرّج من قسم تاريخ العصور الوسطى عام 1946. تخرّج من دورة الدراسات العُليا في معهد التاريخ التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية حيث درَسَ فيها من الأعوام 1947-1950. ألقى مُحاضرات عن تاريخ العصور الوسطى في قسم المراسلات في معهد كالوغا عام 1950، وفي نفس العام تم تعيينه في معهد كالينين التربوي في كلية التاريخ: كان مُساعداً في الأعوام 1950-1953، ومُحاضر أول في الأعوام 1953-1957 وأُستاذ مُشارك 1957-1963، وبروفسور في الأعوام 1963-1966. في الأعوام 1966-1969 كان باحثاً أول في قسم الثقافة التابع لمعهد الفلسفة في أكاديمية العلوم. عَمِلَ منذ عام 1969 في معهد التاريخ العام التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية، وترأسَ منذ عام 1987 مركز الأنثروبولوجيا التاريخية والثقافية التابع لمركز الدراسات الشرقية في أكاديمية العلوم. درّسَ تاريخ الاقطاعية في جامعة موسكو الحكومية في الأعوام 1975-1977. كانت اطروحته كمرشّح في العلوم التاريخية عام 1950 بعنوان "فلاحو جنوب غرب انجلترا في الفترة ما قبل النورماندية"، ودكتوراة في العلوم التاريخية عام 1962 بأطروحة عنوانها "مقالات عن التاريخ الاجتماعي للنرويج في القرنين التاسع-الثاني عشر". ألّفَ عدد من فصول الكُتب المدرسية حول تاريخ العصور الوسطى للمعاهد التربوية، ونُشِرَت بالفرنسية والبرتغالية. ومؤلّف فصل عن تاريخ شمال أوروبا في الكُتب المدرسة لكلية التاريخ في جامعة موسكو الحكومية (1968، 1977، 1990) بالاضافة الى عددٍ من المقالات في العمل المُشترك "تاريخ الفلاحين في أوروبا" 1985-1986.
كان نشاط غورفيتش العلمي يتمحور حول تاريخ الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، والتأريخ الحديث، ونظرية الثقافة ومنهجية البحث التاريخي، وتاريخ الدول الاسكندنافية في العصور الوسطى والانثروبولوجيا الثقافية. وهو مؤلف أكثر من 500 ورقة علمية.
من كُتبه: (حملات الفايكينغ) 1966، وتُرجِمَ للبولندية والاستونية. (الفلاحين الأحرار في النرويج الاقطاعية) 1967. (مسائل نشوء الاقطاعية في أوروبا الغربية) 1970 نُشِرَ باللغة السويدية والايطالية. (أنماط الثقافة القروسطية) 1984، نُشِرَ بالألمانية والرومانية والبولندية والتشيكية والاسبانية والفرنسية والانجليزية والليتوانية والبرتغالية واليابانية. وغيرها الكثير من الكُتب.

1- الحرب والسلام، ليو تولستوي، الجزء الرابع، مكتبة مدبولي 1996، ص210
2- See articles in Voprosy psikhologii, 1962, nos. 2, 5, and 1963, nos. 1, 3, 5 Kommunist, 1963, No. 8 Voprosy filosofii. 1962, No. 5, and 1963, nos. 11, 12 Voprosy marksistskoi psikhologii, Leningrad, 1962 Vestnik LGU, 1959, No. 11 Tezisy dokladov na 11 s ezde obshchestva psikhologov, No. 3, Moscow, 1963.
4- Goriacheva, op. cit., pp. 59-60, 64
5- الغروندريسة- أسس نقد الاقتصاد السياسي، كارل ماركس، ترجمة عصام الخفاجي، دار ابن خلدون 1984، ص104
6- استمرت هذه الخصائص المُستقرة والمُحافظة نسبياً للنفسية في هذه الأشكال النمطية. يجب تمييز هذه الخصائص المستقرة والمحافظة عن الحالة المزاجية الجماعية والجماهيرية المتغيرة ذات الطبيعة المؤقتة التي تعبّر عن التغيرات التي تظهر عادةً نتيجةً لأحداث واضطرابات اجتماعية معينة.
7- For the correlation between popular and, in particular, peasant psychology, and social ideas and on the transition from the former to the latter, see B. F. Porshnev, “Zhan Mel’e i narodnye istoki ego mirovozzreniia,” Desiatyi 8) For the correlation between popular and, mezhdunarodnyi kongress istorikov v Rime, Sentiabr’ 1955. Doklady sovetskoi delegatsii, Moscow, 1956, pp. 602-606 same author, Feodalizm i narodnye massy, Moscow, 1964, p. 309 ff same author, Mel’e, Moscow, 1964.
8- Voprosy istorii, 1962, No. 12
9- Ibid., p. 106.
10- رأس المال-المُجلّد الأول، كارل ماركس، ترجمة فالح عبد الجبار، دار الفارابي 2013، ص467
11- See N. F. Kolesnitskii, “Ob etnicheskom p. 378, fn. 89. i gosudarstvennom razvitii srednevekovoi Germanii (VI-XIV w.),” Srednie veka, 1963, No. 23.
12- G. Lefebvre, La Grande Peur de 1789, Paris, 1932.
13- G. Lefebvre, “ Foules revolutionnaires,” Etudes sur la Rbvolution franqaise, Paris, 1954, pp. 271 ff R. Baehrel, “Epidemie et terreur: histoire et sociolotiie. Annales historiaues - de la R6volution fransaise, 1951, No. 122.
14- A. Souboul, Les sans-culottes parisiens en l’an II, Paris, 1958.
15- A. Sobul’, Iz istorii Velikoi Frantsuzskoi burzhuaznoi revoliutsii 1789-1794 i revoliutsii 1848 g. vo Frantsii, Moscow, 1960
16- The Crowd in the French Revolution, Oxford, 1960. George Rude
كتب رود أيضاً عدة أمور عن انتفاضات سكان المدن البريطانية في القرن الثامن عشر حيث بحث أيضاً تكوين المشاركين في الحركات وتنظيمهم ودوافعهم وسلوكهم. توصّل رود الى استنتاج مفاده أن "الحشد" يظهر أنه أقل عشوائيةً وأنه ليس بلا هدف بأيِ حالٍ من الأحوال كما صوره المؤرخون البرجوازيون. يُمكن للمرء أن يرى، في سلوك الناس الذين تظاهروا في شوارع لندن وباريس في القرن الثامن عشر، مزيجاً مُعقداً من الدوافع: ارتفاع تكلفة المواد الغذائية والأجور المنخفضة والمطالب السياسية والتعاطف والنفور الشخصيين. ان توحّد كل هذه العوامل هي التي ساهمت بظهور الاحتجاج الاجتماعي الذي ظهرت فيه الأسس الطبقية للحركة بوضوح. على عكس السانس كولوتيس عام 1789 في باريس والسنوات اللاحقة، رأى رود أنه كانت نسبة العمال المأجورين بين المتمردين اللندنيين أكبر، وبالتالي كانت العناصر البرجوازية الصغيرة أقل. في كلتا الحالتين، تفجرت الأسطورة الشائعة في التأريخ البرجوازي عن "الرُعاع المُجرمين" الذين فجروا الأحداث المُحتدمة في شوارع العواصم الأوروبية خلال السنوات الثورية.
‘The Gordon Riots,” Transactions of the Royal Historical Society, 1956 ejusd., ‘The London ‘Mob’ of the Eighteenth Century,” Historical Journal, 1959 Vol. TI, No. 1 ejusd., Wilkes and Liberty, Oxford, 1961
17- L. Febvre, Combats pour I’histoire, Paris, 1953, p. 428 ejusd., Pour une histoire a part entiere, Paris, 1962, p. 820 ff ejusd., Le mobl8me de l’incrovance au XVIe sikcle. La religion de Rabelais, Paris, 1947 (6dition revue).
18- J. Huizinga, Le Declin du Moyen Age, Paris, 1948 (Ie ed. - 1932).
19- R. Mandrou, Introduction h la France Moderne (1500-1640). Essai de Psychologie historique, Paris, 1961, pp. 353, 366 ejusd. ‘Le baroque europeen: Mentalite pathetique et revoltion sociale" Annales (E.S.C.), 1960, 15e annee, NO. 5.
20- Z. Barbu, Problems of Historical Pszchology, New York, 1960.
21- A. Dupront Problèmes et méthodes d une histoire de la psychologie collective, Annales, 1961, 16e annee, No. 1
22- See B. Geremek, Wmyslowosc i psychologia zbiorowa w historii,” Przeglad historyczny, 1962, LIII, Na. 4. For a comment on ~~ the Geremek article see Voprosy istorii, 1963, No. 10, pp. 183-185. Compare B. F. Porshnev, ‘Sostoianie pogranichnykh problem biologicheskikh i obshchestvenno -istoriche skikh nauk, ” Voprosy filosofii, 1962, No. 5, p. 117
23- N. Cohn, The Pursuit of the Millennium, Fairlawn, New Jersey, 1957
24- See 0. M. Tutundzhian, ‘Progressivnye tendentsii v istoricheskoi psikhologii In’iasa Meiersona,” Voprosy psikhologii, 1963, No. 3.
25- Compare J. P. Vernant, ‘Sur les recherches de psychologie comparative historique,” Journal de Psychologie, 1960, 57e annke, No. 4.

ترجمة لمقالة:
A. Ia. Gurevich (1965) Certain Aspects of the Study of Social History (Historical Social Psychology), Soviet Studies in History, 3:4, 17-33








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين في باريس خلال عيد العمال.. وفلس


.. على خلفية احتجاجات داعمة لفلسطين.. مواجهات بين الشرطة وطلاب




.. الاحتجاجات ضد -القانون الروسي-.. بوريل ينتقد عنف الشرطة ضد ا


.. قصة مبنى هاميلتون التاريخي الذي سيطر عليه الطلبة المحتجون في




.. الشرطة تمنع متظاهرين من الوصول إلى تقسيم في تركيا.. ما القصة