الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة الفندق الكوني والاقتراض من المستقبل

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 9 / 8
مواضيع وابحاث سياسية


كان نموذج سيرة حياة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب متمركزاً حول أطروحة مفادها أن النجاح المهني والوظيفي مقاساً بكم الثروة المراكمة سواء كان ذلك بشكل أخلاقي أو غيره لا بد أن ينطلق من مسلمة ذرائعية تنظر إلى أن كل الوسائل بغض النظر عن وحشيتها أو قذارتها «حلال زلال» حينما يكون لا بد من الاتكاء عليها لإدراك غاية ما.
وقد يكون أهم «الوسائل القذرة» التي تبناها دونالد ترامب، بصفته «ناطقاً صريحاً» دون تنميق أو تزويق باسم الرأسمالية الوحشية المعولمة بشكلها الليبرالي التلفيقي المستحدث، تتمثل في اعتبار كوكب الأرض بمثابة مصدر لا متناه لاستخراج الثروات الباطنية من جوفه، بغض النظر عن عقابيل صحية أو بيئية قد تترتب على ذلك، ومقلباً لا قعر له لإلقاء النفايات فيه، حتى لو عنى ذلك تحول مياه البحار والمحيطات إلى مستنقع آسن من المواد السُمية التي تقود آلاف الأجناس الحية إلى الانقراض، وتحول أجزاء كبيرة منها إلى «مناطق ميتة» لا حياة فيها لأي من كان يبحر في لجها في سالف الأيام؛ وحتى لو أدى ذلك إلى تحول الغلاف الجوي لكوكب الأرض إلى كتلة من الغازات السُمية المحملة بمختلف أشكال السموم البيئية التي لا بد أن تحيل حيوات بني البشر إلى صراع سرمدي للهروب من أهوال التخلف العقلي عند الأطفال، والإصابة بمختلف أشكال السرطانات، والاعتلالات العصبية والقلبية الوعائية.
وقد يكون التوصيف الأكثر دقة بمنظار الرأسمالية الوحشية المعولمة إلى كوكب الأرض بأنه «فندق كوني» مفتوح «للنهابين من الأثرياء الأقوياء» ليعيثوا فساداً وإفساداً ومجوناً وتلويثاً وعربدة في فضائه وردهاته وأروقته وغرفه، ليتركوه بعد «قضاء حاجتهم به» ملطخاً بكل تلاوين «دنسهم ورجسهم» لتتولى الأجيال القادمة مسؤولية «كنس» تلك القاذورات من ذلك «الفندق الكوني المستباح» ومحاولة «إعادة تأهيله» بعدما تعرض له من «استغلال وعسف همجيين» عله يعود صالحاً للعيش فيه بعد تلك المهمة «الكأداء» وشبه المستحيلة. ولكن واحسرتاه فإن ما قد يسري من منطق على الفنادق والنزل لا يستقيم سحبه على كوكب الأرض الذي يعمل توازنه البيئي الحيوي كفرقة أوركسترالية لا بد لكل جزء منها من أداء لحنه في وقته الملائم وعتبته الصوتية الصحيحة، وإلا تحولت الموسيقى إلى نشاز لا يطاق. وبمعنى آخر فإن آلية عمل المنظومات البيولوجية والبيئية في كوكب الأرض لا تحتمل ولا يمكنها أن تطيق ذلك النموذج الوحشي من التعامل معها، والذي لا بد أن يؤدي إلى انهيارها وتفكك توازنها المرهف فيما بينها، منتجة حطاماً بيئياً يستحيل على القدرة العقلية لبني البشر مجتمعين استنباط حل قابل للتطبيق بقدرات بني البشر المحدودة حقاُ لتصحيح ذلك الخلل المهول في بنيان التوازن البيئي الرهيف لكوكب الأرض، إن أن العدد المهول للعناصر التي تدخل في تركيب ذلك «التوازن الرهيف» يقع خارج قدرة كل طاقات بني البشر على استيعابها من الناحية الرياضية الفيزيائية البحتة كحد أدنى، وهو ما يتجلى في الإخفاق شبه المطلق لكل «نماذج التنبؤ البيئي» التي اختطها العلماء هنا وهناك في غير موضع من أصقاع المعمورة للتنبؤ بمستقبل التغيرات المناخية في المستقبلين القريب والمنظور، لاستقراء عمق الكارثة البيئية التي أدخل نمط الرأسمالية الوحشية المعولمة الكوكب الأرضي فيها عبر تحويله إلى «مطية لا حق ولا دية على قاتلها» وإلى «فندق كوني» مشرع الأبواب لكل الأفاقين المنافقين والفاسدين المفسدين.
وفيما يرتبط بثقافة «الاقتراض من المستقبل» فهي تتجلى بشكل جلي في نمط الإنتاج الرأسمالي الوحشي المعولم الذي لا يرى من الأهداف سوى هدف واحد هو «تعظيم الأرباح بأقصر الآجال»، وبغض النظر عن أي خسائر جانبية حتى لو كانت «حيوات بشر من لحم ودم» كثيرين كانوا أو قليلين، وهو نمط الإنتاج الذي يعمد إلى الاستخراج الجائر من كوكب الأرض لكل ما قد «يزيد من حجم ثروة الأثرياء» بغض النظر عن تلاؤم ذلك النهج مع قدرة التوازن البيئي الحيوي على تصحيح نفسه وتعويض ما يتم استخراجه من موارد ثمينة «غير متجددة» و«محدودة» بنفس الوقت، وتمثل «حقاً طبيعياً» للأجيال القادمة للاستفادة منها من أجل تمكينهم من العيش بمستوى لا يتنكس ويتهاوى عن مستوى الحياة الذي عاش فيه أسلافهم. وقد يكون المثال الأكثر حضوراً في ذلك السياق الأخير بؤس الاستخدام الجائر لمصادر المياه العذبة المحدودة في كوكب الأرض والتي لا تتجاوز في أحسن التقديرات 1% من مجمل الكتلة المائية الموجودة في كوكب الأرض، بشكل بربري منفلت من كل عقال أخلاقي يتسق مع حق الأجيال القادمة في استهلاك وشرب «مياه نظيفة» غير ملوثة أو ناضبة. وبشكل أكثر تدقيقاً فإن استهلاك «مجتمعات الأغنياء الأثرياء» في شمال وغرب الكرة الأرضية في شهر واحد يتجاوز الحصة المتاحة لأبناء الأرض الراهنين كلهم من المياه العذبة لاستهلاكها في سنة كاملة، إذا كان ذلك الاستهلاك مرشداً وممنهجاً بشكل يتسق مع قدرة كوكب الأرض ونظامه الحيوي البيئي على تجديد مصادر المياه العذبة فيه. وفي بلدان أخرى مهددة بالعطش القتَّال خلال بضعة عقود، مثل باكستان، جراء تفاقم مفاعيل ظاهرة الاحتباس الحراري وتسخن كوكب الأرض، يتم استخراج المياه الجوفية، والتي تمثل «حصة الأجيال القادمة من المياه العذبة في بواطن أوطانهم»، بشكل منفلت من كل عقال علمي أو أخلاقي من أجل زراعة مختلف أنواع الأرز الفاخر، وهي من أكثر الزراعات استهلاكاً للماء، ليس بغرض إطعام أفواه الملايين من المفقرين المنهوبين المظلومين الذين يزرعون و يحصدون نتاج ذلك الزرع، فهم لا يحلمون بحبة من ذلك الأرز، الذي يتم زراعته وحصده وتعبئته ومن ثم تصديره إلى «اقتصادات مجتمعات الأثرياء الأقوياء» ليملؤوا «كروشهم السمان» بها في الشمال والغرب في عملية «سرقة مواربة» و«تضييع وهدر عامدين» لحقوق الأجيال القادمة في الحياة وعدم الموت عطشاً وتجففاً.
وفي نفس سياق الحديث عن «تضييع» حقوق الأجيال القادمة في استهلاك مياه عذبة نظيفة، يمكن الإشارة إلى النهج المتوحش للشركات العابرة للقارات المالك الفعلي لمفاتيح الحل والعقد على المستوى الكوني في السعي لاستخراج كل أشكال الوقود الأحفوري غير التقليدية مثل «النفط الصخري»، أو استخراج الغاز الطبيعي بتقنية «التكسير المائي» والتي تستهلك كميات كبيرة من المياه العذبة حقناً في باطن الأرض لاستخراج «آخر قطرة» من الغاز الطبيعي في باطن الأرض، دون الالتفات إلى مخاطر تهشيم جيوب المياه الجوفية خلال تلك العملية وتضييع مصادر مهمة للأجيال القادمة، بالإضافة إلى مخاطر تلويث مصادر المياه الجوفية، والمياه السطحية بما يخرج من مياه ملوثة من استخدام أكداس هائلة من المياه العذبة في عمليات الاستخراج الجائر لمصادر الوقود الأحفوري الغائرة في أعماق الأرض، والتي يقتضي العقل والمنطق عدم المساس بها وإبقائها في مكانها في باطن الأرض، نظراً لما تسببه من آثار مرعبة تسهم في زيادة حدة تسخن كوكب الأرض، بالإضافة إلى الأكلاف البيئية الهائلة تلوثاً وتضييعاً للمصادر الحيوية التي تعتبر حقاً للأجيال القادمة في المستقبل لتعتاش منها وبها.
وهو نفس نهج الاقتراض البربري من المستقبل يسري بشكل أكثر جلاءً في نهج إدارة المجتمعات اقتصادياً في عموم أرجاء الأرضين، وبشكل أكثر بروزاً في مجتمعات المفقرين المنهوبين المظلومين في دول الجنوب حيث يعمل الأثرياء الأقوياء من خلال ممثليهم الذين يمولون حملاتهم الانتخابية ويسوقونهم إعلامياً لتصدر «حلبة مسرحيات الديموقراطيات الشكلية» في المجتمعات الصناعية، أو من خلال نواطيرهم المفوضين بإدارة مصالحهم في دول الجنوب المفقر المنهوب، الذين يدعمونهم بكل احتياجاتهم من أدوات القمع والحديد والنار والدعم السياسي للحفاظ على دورهم الوظيفي ذاك، ليقوموا مجتمعين بعملية «استدانة مهولة» بإصدار هذياني «لسندات الخزائن و الديون السيادية» للإنفاق على عمليات اقتصادية جلها غير تنموي، ويذهب معظمها إلى جيوب الشركات العابرة للقارات ومجمعات الدول الصناعية المتقدمة العسكرية الصناعية التقانية في عقود شراء «لا ينقطع صبيبها» لشراء «أكداس هائلة من الأسلحة» تجعل من خيار «احتراب الأشقاء وقمع الأبناء» خياراً سهلاً دائماً، ما دامت «وسائل القمع حاضرة في أيادي الجلادين» وأجهزة فسادهم وإفسادهم، للقيام بدورهم التخريبي المرحلي خلال وجودهم العابر على سطح البسيطة ليتركوا للأجيال القادمة عبء تحمل أكلاف الخراب الذي تركوه اجتماعياً وبيئياً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات الهدنة: -حماس تريد التزاما مكتوبا من إسرائيل بوقف لإ


.. أردوغان: كان ممكنا تحسين العلاقة مع إسرائيل لكن نتنياهو اختا




.. سرايا الأشتر.. ذراع إيراني جديد يظهر على الساحة


.. -لتفادي القيود الإماراتية-... أميركا تنقل طائراتها الحربية إ




.. قراءة عسكرية.. القسام تقصف تجمعات للاحتلال الإسرائيلي بالقرب