الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جماليات الصورة الشعريّة في ديوان (مكابدات الحافي) للشاعر عبد الأمير خليل مراد.

غانم عمران المعموري

2021 / 9 / 8
الادب والفن


اهتم الشعراء المعاصرون اهتماماً كبيراً بالصورة الشعرية باعتبارها إحدى الملامح المُحددة لجماليات القصيدة من حيث الدلالات النفسية، وما يعْتمر في خلجات ومخيلة الشاعر من خلال انطباعاته وتصوراته ورؤاه الفلسفية والكونية التي تسهم بشكل فعال في تحفيز وإثارة التراكمات والانفعالات القابعة في نفس المتلقي، وقد بين حازم القرطاجني بقوله " فكل شيء له وجود خارج النفس فإنه إذا ما أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق ما أدرك منه, فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم " ( ).
رسم لنا الشاعر عبد الأمير خليل مراد صوراً شعريةً فنيةً تنطوي على رؤى إنسانية نابعة من رحم الواقع الذي يعيش فيه من خلال مجموعته الشعرية " مكابدات الحافي " إصدار الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق – بغداد لعام 2021 ..
يعد العنوان (مكابدات الحافي) المكوّن من كلمتين رسالة مُشفَّرة تحمل في طياتها أبعاداً فلسفية ورؤى إنسانية ولا تقتصر العنونة على معناها اللغوي في معاجم وقواميس اللغة العربية بأن (مكابدات) جمع لمفردة مكابدة والمأخوذة من المصدر كابَدَ وقد تأتي مُكَابَدَةُ الجوع: تَحَمُّل مَشَاقِّهِ، أما مُكَابَدَةُ السَّفَرِ: فتعني رُكوبُ أَهْوَالِهِ وصِعَابِهِ. وإنما أراد الشاعر من خلال تلك الكلمة أبعاد نفسية وفلسفية واجتماعية لَصيقة بالإنسان ومعاناته اليومية، ولاسيما جاءت الكلمة مضافاً إلى المُضاف إليه " الحافي " لتُحقق أعلى درجات الألم والمُعاناة عن التوأمة الروحية الّتي تنبعث من ثنائية العنونة المتْحدة فكرياً والمتناسقة عضوياً وما تشيّر إلى عُمق الأذى الّذي يلحق حافي القدمين نفسياً وجسدياً وذلك " بأنَّ العنوان رسالة لغوية تعرف بتلك الهوية وتحدّد مضمونها وتجذب القارئ إليها وتغريه بقراءتها وهو الظاهر الّذي يدلّ على باطن النّص ومحتواه "( )
تتضمن الوظيفية القصدية القائمة بين العنونة والشاعر أبعادا ذاتية وإيديولوجيا وانفعالات وأحاسيس نابعة من وجدان الشاعر بالإضافة إلى الوظيفة الشّعرية التي تضفي على العنونة قوة وقدرة عالية على الإيحاء حيث يهيمن من خلالها على كل فضاءات التأمل والتفكير والتأويل والقفز من مدلول إلى دال قادر على خرق المألوف، والمُعتاد من القول لذلك " عُنيَّ كثير من العاملين في حقل النّقد بسيميائية العنوان وبدوره في تقديم الخطاب وبتفاعله فيه باعتباره نصّا موازياً، فالعنوان طاقة حيوية مشفّرة قابلة لتأويلات عدّة قادرة على إنتاج الدلالة "( ).
وهذا ما عمد إليه الشاعر من خلال عنونة تُمثّل أولى الصور الشّعرية الرمزّية الّتي اتخذها قناعاً للتخفي والتحرّك من خلالها إلى فضاءات واسعة يستطيع أن يطلق العنان لأفكاره ورؤاه، ونقل مُعاناته الّتي جاست صفحات حياته في ظلّ واقع مُزيّف فاسد وكان قناع شخصية " بشر الحافي " زاهدُ بغداد ومتصوّفُها لتمرير معاناته وآلامه وطبيعة علاقته مع العالم الّذي يحيط به بصورٍ شعريةٍ، وربطها بطاقات اللغة من حيث المجاز والتجانس والثنائية التضادية والترادف, حيث ينطلق صوت الأنا بصورة شعرية تتَشَظَّى إلى صور وثيمات متعددة من خلال شخصيات استطاع الشاعر تحريّكها وفق تأملات إنسانية اتخذها رموزاً للتعبير عن ثورة التمرّد والرفض لكل مظاهر الفساد والقمع المجتمعي، فيتحد صوته تارةً مع تلك الشخصيات الّتي أوردها في نصوصه وتارةً يتقاطع معها وهي تقوم على رؤى وفلسفات مختلفة " تنقل الصورة للقارئ كشفاً لنظام متفوق ليس لديه أية إمكانية لمقاومته وإنها تغمر الأحاسيس كلها قبل أن تغمر بشكل أخص العين أو الأذن, إنها ترضي الفكر كله " ( ).
مما يُحقق بذلك أروع الصور المؤثرة في ذات المتلقي, كما جاءت لوحة الغلاف التجريدية للفنان محمد علي جمعة والّتي تُمثّل طابورا من الناس يظهر عليهم البؤس والحرمان بأزياء مختلفة تدل على تعدد الأصوات، واشتراكهم في همٍّ واحدٍ, وبذلك تكون لوحة الغلاف متناسقة وموحية مع العنونة و التي تعتبر إحدى العتبات المؤثرة في مخيلة القارئ وتدفعه دون شعور إلى التأمل والتفكير..
ابتعد الشاعر في الإهداء عن الأنا ومطامحها وميولها الشخصية إلى الصوت الجمعي بالنداءِ المتمرد على الظلم والفساد بكل أنواعه..
اعتمد الشاعر في نقل تجربته الإبداعية على المجاز والحقيقة بالهيئتين الحسيّة والشعورية عن طريق خلق صور شعرية بطاقات لغوية تُمكْنه من التعبير بأساليب قادرة على نقل أحاسيسه ومشاعره من خلال ربط الصورة الشعرية بطاقات اللغة تجسيداً لرؤيته وعلاقته بالعالم الّذي يُحيط به بتغييراته واضطراباته، حيث أن الصورة الشعرية تُمثّل " الشكل الفني الذي تتخذه الألفاظ بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بياني للتعبير عن جانب من التجربة الشعرية في النص مستخدماً طاقات اللغة في التركيب والإيقاع والمجاز والتضاد والمقابلة والتجانس وغيرها من رسائل التعبير الفني "( ).
إلا أن الشاعر عبد الأمير استطاع الانتقال من اللغة المباشرة الخطابية إلى اللغة الإنزياحية متخذاً من شخصيات تاريخية رموز بدلالاتها الإنسانية حافزاً ومنفذاً للتعبير عن المعاناة والحيرة والألم بعدة صور شعرية منها المتلاحقة كما في نصه :
أَنا رجلٌ يسْعَى منْ أَقْصَى
المِعْمُورةِ
والجُوْدِيُّ يُجاهِدُ كّيْ تَكْتمِلَ الصُّوْرةَ
وَحَمامةُ نُوْحٍ تَحْفُرُ باسمِ الله سُمُوّ
الأطيانْ
بِشْرٌ وجِيادٌ وخَلائِقُ شَتّى
والبَلَمُ الكَوْنِيُّ حياةٌ ومواتٌ بينَ المِشْعرِ
والجُدْرانْ
هذا لُطْفُكَ يا رَبّي
أَنْ مِيْدي يا أَرْضي وابْتَلِعِي
عَزْفَ التَّنُّورِ قُبيْلَ صُيَاحِ الدِّيْكِ
وَحَشْرجِةِ الأَبْدانْ ...( ).
لجأ الشاعر إلى التجديد في الصورة الشعرية وذلك من خلال قدرته على إخراجها من حدود المنطق والعقلانية فتبدو الصور ظاهرياً وكأنها مشتتة متباعدة لصور جزئية لكنها مرتبطة فيها داخل القصيدة الواحدة و " يشك القارئ للوهلة الأولى أن لا ربط يجمعها ليتضح بعد النظرة الكلية للسياق الذي يجمعها أنها خاضعة لرابط شعوري " ( ).
امتاز أسلوبه بخلق صور شعرية تراسل الحواس من خلال قدرته على الجمع بين عالم المحسوسات وعالم الأشياء المجردة بصورة تسمح للمعاني المجردة أن تخترق وتلامس الحسية ومخيلة المتلقي وذائقته للتعبير عن النفس حيث " يعجز العقل عن تفسيرها لخروجها عن المنطقية والمألوف " ( ).
وأن الجمع بين المحسوسات والمجردات واضح في " أيامٌ حُبلى/ مُقَل الانوار النّبويّةَ / يُغازلُ ظلّي/ وتَوكّأ آمالي الأَبديَّة/ ظَمآناً أكْرَعُ مِنْ صَدَفِ البُشْرى/ سأظَلُّ حَفيّا بشُجوْنيْ/ يا قِنديلاً يُوْقَدُ مِنْ لَحْمي/ وقميص المحْنةِ يا ربي مَقدُوداً / وألْتَقِطُ حَبَّةُ النَّدامةِ/ شيَّعنَا جُنُون الأمَسِ/ وغيرها من مقاطع تظهر فيها صور تراسل الحواس بأسلوب انزياحي خارج عن المألوف والمعتاد ..
كما اعتمد الشاعر عبد الأمير في ترميم صوره الشعرية وصقلها في أُطر حديثة على المصدر الديني وفهمه واستيعابه للنص القرآني للتعبير عن كل ما يُحيط به من واقع اجتماعي وسياسي ونفسي واقعي كما في نصه :
أَنَا بِشْرُ الحَافِيْ
أَتْلُوْ مَا بَيْنَ صَبَاحِيْ وَ مَسَائيْ
( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَلَهَا )
فَأُكَلّمُ عِيْسَى في المِهْدِ صَبِيًّا
وَأُخَاصِرُ مُوْسُى عِنْدَ تُخُومِ الطُّوْرِ ...( )؛.
وكذلك استوحى الشاعر قصة يوسف وتوظيفها بأسلوب فني إبداعي كما في :
قًذَفَتْني اللُّجَّةُ بَينَ الهَمَلايا
وأَراجِيحِ الثَّقَلَين
وَأرتْني يُوْسفَ وزُليخا كَفَّينِ
بِكَفَّينْ
وقَمِيصِ المِحْنَة يا ربي مَقْدُوداً
مِنْ أينَ ... وأينْ ... وأين ؟... ( ).
إن استثمار الشاعر التناص الذي أسهم في إثراء نصوصه ومنحه قدرة في الهدم والبناء من خلال لغة سليمة مُبتعداً عن الخطابة والمباشرة وخلق نص إبداعي حديث بدلالات وإشارات تُحقق الأهداف التي يُريد الناص إيصالها للمتلقي عن طريق بلورة صور شعرية تتسم بجمالية فنية، فالتناص "ترحال النص لنص سابق وتداخل نص في فضاء نص معين تتقاطع وتتنافى فيه ملفوظات عديدة مقتطعة من نصوص أخرى"( ). وهي تكمن في مواضع عديدة من المجموعة الشعرية منها تناص قرآني اقتباساً أو إشارة ومنها تناص مع قصص القرآن الكريم ( زَمَنٌ مِن عَهْدِ نُوح وَ السَّفِينة, ويُوشعَ وَ الخَضر, وَنُجَيمَات سُلَيمَان غِطَائي, وَسُلالاتٌ مِن آدَمِ كَابِيَة, إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا, فَأُكَلّمُ عِيْسَى في المِهْدِ صَبِيًّا, وَأرتْني يُوْسفَ وزُليخا, يُوشع والخضر, ...)..
استعانة الشاعر في بناء وتشكيل صوره الشعرية ببراعة وإبداع فني ومعانقة التراث التاريخي من خلال تجربته الفنية ومسيرته الطويلة وطبيعته النفسية والواقع الذي يعيش فيه وذّاته المُلتهبة والمتأزمة والرافضة لكل أشكال الزيّف والفساد والظلم والاضطهاد ليجعل من خلال التراث جسراً للعبور إلى العصر الراهن وهو بذلك يختلف عن مؤرخ التاريخ حيث " إن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بكون أحدهما يروي الأحداث شعراً والآخر نثراً ... وإنما يتميزان من حيث كون أحدهما يروي الأحداث التي وقعت فعلاً بينما الآخر يروي الأحداث التي يمكن أن تقع ولهذا كان الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمى مقاماً من التاريخ "( ).
اقتحم الشاعر عبد الأمير بأسلوبه وبلاغته التاريخ الإسلامي عِبْرَ شخصيات إسلامية وتاريخية والتلبس فيها من خلال الأقنعة المختلفة التي جاءت بصور متعددة واستطاع من خلالها أن يملي كل ما تنوء به ذّاته من أعباء وأحزان وآلام وطموحات تروم تحقيقها من خلال التحرك والتنقل في مفردات وتشكيلات لها دلالات ومغازٍ يقصدها الشاعر ويُريد إيصال رسالته إلى قارئ مهموم يستطيع تعقب أثر كل جديد، وقراءة ما بين السطور وتحليل كل شخصية لكي يصل إلى الفكرة الحقيقية التي يقصدها الكاتب ومن تلك الشخصيات التي لجأ إليها في مجموعته ( بِشْر الحَافي, غاندي, جيفارا, كاسترو, جواد سليم, السُّيوطيَّ, الأعشى, جلال الّدين الرُّومي, ابْنَ بُخارَى, المسْعُودي, نرسيس, مِيدُوزا, نابليون, الحَجَّاج, ...) ..
قصيدة الشاعر عبد الأمير (تَهجُّدات في حضرةِ الذّبيح):
لمْ أسألْ عن هذا القلْبِ المِجْروحِ
عَن سِبْطٍ يَمشي مَذبُوحاً
في يَدِهِ كَونٌ أبيضُ وحمامةُ
بَوحٍ وَ سَلامْ
تتبرّجُ في هذا العالمِ
وهي تُضوّي راياتٍ للعِشْقِ
وأُخْرَى تَتْويجاً لبَني الإِنسَانْ ... ( ).
تلك القصيدة الّتي ذكر فيها الشاعر رمز الإنسانية والعدالة الحسين بن علي (ع) بأبهى الصور الشعرية وهذه القصيدة تذكرني بقصيدة " المساومة " الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح الذي قال فيها :
-1-
إبنُ هند يساومني أن أبيع لساني
وصوت غدي
وجماجم جند الحسين,
ضع السيف حيث تريد
هنا في فمي
ههنا في دمي
أبغض الموت, لكنني أتعشقه
حين يغدو الخلاص لجمجمتي من رماد الخيانة.
-2-
قال لي:
ورماد الخيانة يحجب عينيه
والليل يسقط من شفتيه:
الموائد في الشام متخمة
وبساطُ " علي " من البلح الجاف
أي الطريقين تسلك يا صاحبي ؟
قلت: حيثُ يكون " علي " أكون, يظللني سيفه
وأصلي وراء سحابته
حيث أظمأ, صوت العدالة مائي
وإن جعتُ فالوجبةُ: التمرةُ اليابسة ( ).
كما أن الشاعر استثمر التراث الفولكلوري والأسطورة كمصدر مهم وثرّي في تشكيل الصورة الشعرية من خلال البحث والتنقيب في حكايات وأمثال وأساطير تحمل معاني محددة وصياغتها وعجنها في قوالب جديدة ببصمة خاصة به تحمل أيدلوجيات وأفكاراً إنسانية يقول أنس داود " نحن لا نُريد من شعرائنا أن يفتحوا كتاب الف ليلة وليلة – ثم ينظموا بعض حكاياته فما أفدح خسارتنا حينئذ في فقدان هذه اللغة الشعبية الأليفة .. نحن نريد استلهام هذه الحكايات ومنحها روح العصر"( ).
لقد امتازت قدرة الشاعر الإبداعية من خلال الربط الحي بين المحسوسات والمجردات ونسجها بصور شعرية متلاحقة ومتتابعة بحركيّة دون رتابة وبأسلوب الكر والفر فنراه مرة يكشف ويفضح المخفي وتارة يتواري من خلال شخصيات أختارها، كما أنه تمكن من النطق بصوت الحق عن طريق التجلي بشخصية (بشر الحافي) لتعرية الواقع المأساوي واستطاع من خلال تلك الشخصية مزاوجة الأحداث والأمكنة لمواكبة أوجاع العالم وأحزانه كي يعطي لنصوصه، وليعطي لنصوصه بعداً زمانياً ممتداً وهذا يخلق لدى المتلقي شعور الاندماج والانصهار مع الهم الإنساني الهادر في أعماق النفس البشرية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح