الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المأزق....... قصة

أحمد جدعان الشايب

2021 / 9 / 8
الادب والفن


لم يذهب سدى ما بذلته من جهود.. إضافة إلى كفاءاتي ومواهبي وخبراتي.. لقد وصلت وحصلت.. صرت أتحكم في مصائر العباد وشأن البلاد.. ويوم كنت ضعيفا فقيرا مهملا.. كنت أتردد في مد يدي ألف مرة.. لأستل جناح دجاجة في وليمة صغيرة على مستوى الحي في البلدة.. ثم عرفت كيف أهيئ نفسي لألتقط كتف خروف أو عجل.. وتقام الولائم الفخمة لي في كل مكان من البلاد.. وعلى شرفي يمكن أن يوجد بعض التابعين والحاشية المتزلفين والمنافقين.
يزعجني كثيرا حسد الحاسدين.. رغم أنه لم يؤثر فيّ أبدا.. لكني أحسه في عيونهم وإشاراتهم المستمرة.. يحسدونني على أملاكي وأرزاقي.. وعلى جاهي وسلطتي.. ورغم كل ما فعلته في تاريخ حياتي حتى صرت واليا.. لم أفكر يوما أن أكون سلطان البلاد.. مثلما يسعى معتمد الديوان لتنحيتي.. وأنا ولي نعمته.. لأن السلبية المتفردة التي يبديها اليوم نحوي.. أزاحت ستارا يغطي نواياه ويغلف أسلحته السامة.
سأواجهه.. لأن ما حدث اليوم لم يعد يَحتًمَلُ التروي والصبر والحكمة.. ولا يمكن الحوار مع أمثاله.
أستدعيته إلى مكتبي.. وبخته وهددته.. فأنا بخبرتي الطويلة.. أعلم أنكم تمقتون التروي والمناقشة.. وتمجدون القوة والعنف.. والجرأة والحزم في كل أمر من الأمور.. ولكي لا تتزعزع محبتكم لي.. أو يخبو بريق نجوميتي.. وحتى لا تظلموني.. سأروي لكم ما جرى.
ما إن ظهر في الباب.. حتى رشقته بمجموعة من الجمل الساخرة.. وباتهام واضح قلت له.
- لم يبق لنا هيبة أين فرت سلطتك؟.. تحرك.. تصرف.. لماذا جئت بك معتمدا للديوان؟.. هل لأن الكحل في عينيك يعجبني؟.. أم أنك من بقية أهلي وأقاربي؟.. أم فرضك علينا جناب السلطان؟.
قد تحدِّث نفسك بما تشاء فتقول.. الديوان من حقي.. وأنا أهلٌ له.. وفي يوم قريب.. قد يستبدل السلطان هذا الوالي بي فأكون واليا بديلا لا يشق له غبار.. ألا تعلم أني اخترتك لأنك تتميز عن غيرك بشيء من الفطنة.. تحسب لكل أمر حسابا دقيقا.. وتراعي مصلحتك قبل كل شيء.. ألا تعلم أين تكمن مصلحتك؟.
لقد سمعت عن قدرتك وسرعتك في إيجاد الحلول لأية قضية.. فلماذا لا تتصرف في هذه القضية دون أن آمرك؟.. على الأقل لتبعد عني وجع الرأس والمشاكل.. ألا تعرف ما يجري حولك؟.. ماذا دهاك؟.. ما كنت أتـوقع ضعف شخصيتك إلى هذا الحد.. كأنك لا تفهم كيف تقدر الأمور.. ولا كيف تدير الشؤون.
ثم فاجأته بنبرتي العريضة ورفعتها أكثر.. وأسرعت في إطلاق تحذيري.
- اسمع وانتبه جيدا.. إذا لم يخرج المرافقان من السجن هذا اليوم.. فاعلم أني بحاجة لمعتمد ديوان غيرك.
تلعثم وارتبك وارتجف.. كضَرسِ يربوع يواجه سنورا.. حاول أن يقسم ويحلف.. مدّعيا أنه لم يعلم بما حدث.. وعن ماذا أتكلم.. فنهرته وأسكته قائلا له.
- هل خربت الدنيا وانهدت السماء على الأرض؟.. من تكون هذه الفتاة؟.. ابنة من هي حتى يهتم بها قاضي القضاة؟.. هل هي أهم من حراسي وأنا والي البلاد؟.. وما الذي نقص منها؟.. هل فقئت عينها؟.. أم قطع لسانها؟.. قل لي ماذا حدث؟.
- سيدي.....................................................................
........................
- اسكت لا تتكلم .. اسمعني حتى أنهي كلامي.. ستقول لي لم أعلم بما حدث.. ولا عمّ تتكلم يا سيدي.. أليس كذلك؟.
- سيدي..............................................................................
........................
- اسمع .. لا تقل شيئا.. فقط اسمع ثم تصرف.. وسأعد هذا امتحانا لك اليوم.. ما حدث لهذه الفتاة.. أن اثنين من حراسي ساعداها لتتخلص مما يعيقها.. ما هذا القضاء؟ الذي نشهده هذه الأيام؟.. كـأنه لا يقيم وزنا لأحد.. إني في غاية العجب.. لينظر قاضي القضاة في أمور مهمة.. في قضايا ذات قيمة.. وليترك هذه الأمور التافهة.. ما حدث للفتاة.. سيحدث اليوم أو غدا.. عليه أن يفكر في شؤون ترفع من مكانته ومركزه.. وأن يترفّع عن هذه السفاسف والتفاهات.. هذا سخف وقصر نظر.. فلا تكون مثله قصير نظر.. اسمع.. إن كرامة مرافقَيَّ من كرامتي.. كأن قاضي القضاة لم يؤدبه أحد.. وهذا من اختصاصك أنت.. سأنتظر وأرى كيف ستؤدبه اليوم.. انتبه.. اليوم وليس غدا.. اليوم قبل الغروب يُخلى سبيل الاثنين.. أنا مشغول.. عندي أعمال مهمة تصدع رأسي.. خاصة هذا اليوم.. سأحضر حفل المهرجان.. تابع أنت الموضوع بسرعة.. وأعلمني بما وصلت إليه.. اتصل بي قبل بدء الحفل وأخبرني.. مع السلامة.
استدار ساكناً.. متخاذلا ومطأطئا رأسه.. جيوش الذل تحاصر كيانه.. وسحب الهوان تجتاحه.. ومعارك آلام تصدع دماغه.. وهو يدعدع في مشيته نحو الباب.
فرحت كثيرا وأنا أراقب انهياره واستسلامه.. وبسرعة خاطفة.. خلعت من ذاتي جزءا وأرسلته خلفه ليراقبه.. وتحوّلَ الجزء إلى إبليس يرى ويسمع .. ويدخل في الضمائر والصدور والذاكرة.
كثيرا ما أحسد إبليسي هذا على معرفته لكل صغيرة وكبيرة.. حتى النوايا يعلمها.. وقد يدخل في الأعصاب ويسيطر على التفكير واللسان.. وقد يشترك في كل ما يجري.
رمى معتمد الديوان بجثته على كرسي مكتبه الفخم.. كأنه ألقى بثقل هد جذعه.. ضغط رأسه بأصابعه.. دار في كرسيّه دورتين.. مسح ببصره جوانب المكتب.. الستائر.. الثريات.. اللوحات الجدارية.. ثم استدار خلفا.. رمى بنظره من النافذة نحو الشارع.. نفخ.. استدار بعصبية.. ضرب بجمع كفه سطح المكتب.
ما حدث له بعيد عن التوقع.. هو يعلم بسلاطة لساني.. ويعرف أني لا أقيم وزنا إلا للسلطان.. لكنه لم يهيء نفسه لمثل هذا الموقف.. وغير مستعد لألوكه بعيني ولساني وأبصقه.
فرت الأفكار من مخيلته.. وتبعثرت الكلمات في صدره.. ولم يسعفه أي تصور لحل يركن إليه.. يفضل ألف مرة أن ينهض بحزم ليكون في مواجهتي متمردا مستعيدا كرامته قائلا.
( هذه استقالتي.. تدبر الأمور بما تشاء.. وسأخلّص نفسي من قمعك وقذارة تفكيرك ولسانك).
لكن الجرأة كثيرا ما تخون الشجاع.. حشر إبليسي نفسه في فمه واستقر في تلافيف دماغه.. نخسه.. فأسرع يرسم صورة لحالته خارج الديوان.. يمشي على قدميه إلى بيته.. وفي السوق المزدحم.. يتدافع الناس حوله.. يصطدمون به دون قصد.. ولا أحد يتعرف عليه.. وراح يقارن وضعه بمن سبقه.. أو بأمثاله من كبار المسؤولين.. أحس بطامة كبرى نزلت على رأسه.. عليه أن يتصرف قبل فوات الوقت.. تذكر أنه تسلم منصب معتمد الديوان منذ ثلاثة أشهر فقط.. تمنى لو كانت هذه القضية بعد ثلاث سنوات أو ثلاثين سنة.. كان سيطيح بهذا الوالي.. ويحاسبه على أفعاله وأمواله وطغيانه وظلمه وجبروته.. أحس أنه لا يستحق كل تلك الإهانات المندفعة كمعول يهدم كرامته.. تذكر أنه لو استقال من منصبه .. سيخسر كل شيء.
لم يؤمن له منزلا فخما لو تمرد.. عليه أن يستمر ليثبّت أقدامه أولا.. سيمد يده بعد ذلك في كل اتجاه.. عليه الآن أن يقرر ويتصرف.. تبددت أحلامه في المزرعة والفيلا.. إنه خالي الوفاض من رصيد يسند ظهره.. ويعزز مركزه.. تاه منه القرار.. خشي النتيجة.. ماموقعه في البلاد؟ سيعود رجلا عاديا ومجهولا.. وتعيسا.. قد لا يكفيه معاشه ثمن طعام.. وسيضيع اسمه بين الأسماء المتشابهة.. ستنظر إليه زوجته نظرة استخفاف وضعة.. صمت معتمد الديوان مدة وقد سيطر عليه مستنقع الصغر.. وراح يداور القضية في رأسه من جديد.
( قضيتي أنا أولا.. فهل أنصاع لأوامر الوالي وأخسر كرامتي وسمعتي؟.. كيف لي أن أعرف سبب هيجان الوالي وإصراره على إخراج الحارسين من السجن؟.. وماذا فعلا؟.. إنه لم يسمح لي بالتحدث أو السؤال.. كان فقط يسبني ويشتمني ويصرخ في وجهي.. إني أعلم أين يكمن الحق.. قاضي القضاة رجل له سمعة طيبة بين الناس في داخل البلاد وخارجها.. إلا هذا الوالي.. لا يعجبه قاض عادل.. ولا يطيق العدل.
قاضي القضاة اليوم صديقي بعد أن كان أستاذي.. وفضله كبير على جميع القضاة في البلاد.. لقد تعلمنا العدل منه.
كأني أستحق كل ما يحدث لي.. لو بقيت في عملي قاض يهتم بالحق والعدل.. لما كنت في هذا الموقف الضبابي.. مع أنه واضح جلي لو أردت.. ماذا أفعل الآن؟.
إن مركز معتمد الديوان رفيع.. أرفع بكثير من عمل قاضي.. بل هو مسؤول عن جميع القضاة.. ولكن ماذا أفعل؟.
علي أن أتصرف قبل انقضاء النهار.. أجارنا الله من هذا الوالي الوقح.. إن غضب من أحد أو على أحد.. يفعل به ما يريد.. ولا يحاسبه أحد.. أهون عليه من شربة ماء على عطش.. ولكن عليّ أن أقرر أخيرا.. أقرر ماذا؟.. وهل حفظ الكرامة يحتاج إلى احتمالات في القرار؟.. العدل.. أنا مع العدل.. أميل مع قاضي القضاة.. لأني أقدّره لصدقه وصراحته وعدله وشجاعته.. لكن لو.. لو أطاعني هذه المرة فقط.. وأخرج الحارثين ابني الكلاب من السجن.. لن يخسر شيئا.. ويبقى كل شيء في مكانه دون أي تغيير.. ليس أمامي حل إلا أن أطلبه وأعرف منه ما حصل.. وسأعرض عليه إخلاء سبيليهما .. فقط هذه المرة.. وبعدها سيرى مني ما يرى من رد مناسب للوالي.. ومقارعته ومحاسبته.
لا أستطيع أن أعامل قاضي القضاة بما عاملني به الوالي.. تربيتي وذوقي وحسن سلوكي ومعاملتي لا تسمح بالنزول إلى هذا المستوى الرخيص .. أسلوبي غير أسلوب الوالي.
سأجرب أفضل الطرق السلمية.. سأرجوه.. فهو أهل للثناء والكبر.. متواضع وعادل وطيب النفس والخلق.).
مدّ يده إلى الهاتف علي يمينه.. فرن الهاتف على يساره.. أخذ السماعة.
- ألو نعم.. أهلا وسهلا بهم.. وساطة!!؟. وهل هذا وقت مناسب؟.. متى جاؤوا؟.
طيب .. طيب.. ماذا قلت؟.. لم أسمع.. تقزلين لا يحل مشكلتهم إلا الوالي!؟.
إني في مأزق.. أنا في ورطة.
حضّري الغداء من المطعم المجاور.. اكرميهم حتى أعود.
لا يمكنني حل أي موضوع عند الوالي إلا بعد أن أنهي ما بيدي من أعمال.. عليهم أن ينتظروا.. مع السلامة.
نخسه إبليسي.. ثم جذبه باتجاهي.. فأسرع إلى سماعة الهاتف على يمينه.
- ألو.. قاضي القضاة.. معك معتمد الديوان.. اسمعني يا قاضي القضاة.. اسمع اسمع.. لديك اثنان من حراس السيد الوالي.. اخلِ سبيليهما الآن وفورا.. ومهما كان الأمر عظيما.
لالا لا لا تؤخرهما أبدا.. لا.. لا.. ولا تشرح لي شيئا الآن.. اسمع ما قلته لك.. لا تناقش .. السيد الوالي ينتظرهما.. لديه أعمال مهمة.. يحتاجهما لحراسته وهو يحضر حفل المهرجان اليوم.
- .....................................................................................
..................
أبعد السماعة عن أذنه.. قطّب حاجبيه فتجعّدت جبهته.. وتصرّم فمه.. هزته المفاجأة.. دُهش.. هجوم القاضي كان صريحا وجريئا وهو يدافع عن موقفه وعن الحق والعدل.. والأمن.
مطرُ الخيبة ينسكب في جلده.. ونار الغضب تتأجّج في صدره.. ولسعات الانتقام تعبث في نفسه.
نخسه إبليسي.. وجّهه ليحمي كرامته التي خدشها قاضي القضاة.. فقرر تأديبه فورا.. وسيعاقبه بحزم.
تغيرت هيئته.. صار آمرا منفعلا.. عليه أن يتصرف الآن.. رمى بالسماعة وهجس في داخله بغضب.
( ماذا أقول للوالي ؟.. وكيف أذكر له ما سمعته الآن؟.. لابد أن أتصرف بعد هذا الرد وهذا الرفض غير المهذب؟).
أخذ سماعة الهاتف على يمينه.. افتعل الهدوء والاتزان.. رقّق صوته ليداري سمعي على الطرف الآخر من خط الهاتف.
- ألو.. تحياتي سيدنا جناب الوالي.. اتصلت بقاضي القضاة وأمرته بما أمرتني به.. لكنه رفض.. ونعتنا بصفات لا نستحقها.. سيدي .. سيدي.. اسمح لي.. اعذرني سيدي.. إني أخجل من ذكر الكلمات التي قالها.. نعم.. حاضر سيدي.. حاضر.. هو قال.. إذا كنت بعتَ ذمتك وضميرك للوالي.. فإني لست مستعدا أن أتاجر معكما بتجارة مسمومة.
نعم.. نعم.. اسمح لي سيدي الوالي.. إني أرجوك أن تسمح لي بنقله إلى أبعد محكمة في أصغر قرية.. وسأصدر أمرا بتعيين قاض غيره هذه الساعة.. وسيكون مرافقا سيادتكم أمام مكتبكم بعد قليل.. سيدنا.. أمثال هذا القاضي المتخلف الجاهل.. لا ينفع معه غير النقل والإبعاد.. ولو جاز لي أن أتصرف بحكمة سيدي.. لوضعته في السجن بدلا من الحارسين.. نحن في الخدمة سيدي.. نحن دوما في الخدمة.
فقلت له بكل أدب وذوق.. لا.. لا..لآ تكن صعبا إلى هذا الحد يا عزيزي.. أرى أنه يكفيه النقل والإبعاد.. إذا سجنته قد يثير ضدنا قضية.. دعه يقوم بعمله بعيدا عنا.. لقد فعلت خيرا.
قال لي بسعادة تسيل من تحياته.
- تحياتي سيدنا.. تحياتي.
في نهاية الدوام لهذا اليوم.. خرج إبليسي من دماغه إلى عينيه مختبئا في دمعة مالحة.. وانتظر في مكتب معتمد الديوان حتى صباح اليوم التالي.. حين غاص معتمد الديوان في كرسيه الطري.. وراح يرشف فنجان قهوته الصباحية.. وهو يقرأ عناوين الأخبار.. فتوقف عند عنوان في الصفحة الأولى.. بخط عريض وبلون الدم.( قمر كان متوهجا فتلاشى.. نجمة مغسولة بالضوء.. ديمة تقطر وعدا وندى.. زهرة متفتحة بكر.. ثمرة يانعة طازجة.. فراشة تلون الفضاء بلون أحلامها.. قتلت نفسها على قارعة الطريق.. لتتخلص من كرامتها المهدورة.. وما يزال الجناة مجهولين).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا